مزاج السوق

15-08-2014

مزاج السوق

أنماط تفكير موسيقية عديدة اختفت في سوريا بعد مصادرة المعهد العالي للموسيقى بدمشق لكل أنواع الموسيقى الشعبية وأنماطها الفلكلورية؛ فالاحتقار المتوارَث للجمل المحلية وعبادة قوالب السيمفوني والأوركسترا والحجرة؛ جعل من الموسيقى السورية خليطاً تطبيقياً عجيباً قوامه لوثة «الموسيقى العالمية» التي جرّمت كل من لا ينتمي إلى موسيقى قصور فيينا وحدائقها الغنّاء؛ فلا موسيقى خارج مؤلفات بيتهوفن وسيباستيان باخ وفاغنر وتشايكوفسكي، لا موسيقى سوى تلك التي حللها الموسيقي العراقي الراحل صلحي الوادي -»1934-2007»، والتي كانت تصل عقوباته لكل من يتجرّأ من طلابه بعزف مقطع من نوتة شرقية بالفصل النهائي من المعهد، فلقد اعتبر «الوادي» وبعض تلامذته من بعده أن لا موسيقى سوى تلك الموسيقى الكلاسيكية ذات القالب السيمفوني الغربي؛ متجاهلاً وعن عمد أي طموح للعمل على المفردات السورية التي أنتجها العمل من ملحميات وغنائيات ودراميات موسيقية تزخر بها مخيلة البلاد منذ آلاف السنين؛ لتصبح الموسيقى في عرف الجمهور تلك التي يؤديها قائد الأوركسترا المفوّض من السلطة، والتي يعزف لها في تشريفاتها وبحضور وفودها الرسمية؛ ففي بلدٍ مثل سورية يمتلك أقدم تدوين لنوتة موسيقية في العالم ـ «اكتشفت في أوغاريت ـ رأس شمرا على الساحل السوري ـ النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد» ـ لم تعد الموسيقى سوى هذا الصدى المعدني البارد لحفلات الأوبرا التي يحضرها ذوو النفوذ وطبقة محدثي النعمة وبعض الصحافيين وأهالي وزملاء الموسيقيين؛ في بلاد يتفوق فيها النظام الستيني البابلي في صياغة معظم أنساقها الموسيقية الأولى التي عمرها من عمر الكوكب، تم وبطريقةٍ ممنهجة إبادة كل ما من شأنه أن يؤسس لعلاقة فعلية مع الجمهور؛ فاحتقار معظم الموسيقيين الأكاديميين للثقافة الموسيقية الشعبية جعل من الصعوبة بمكان البحث في جذر الموسيقى المشرقية التي تشكل سورية أحد أغزر منابعها؛ وهذا ما انعكس سلباً على ذائقة الجيل الموسيقي الذي جاء مع مطلع الألفية الثالثة؛ فلا هو كان قادراً على استيعاب تراثه وصياغته وابتكاره وفق قالب حديث؛ ولا هو راغب في الأصل بمناقشة ذلك؛ بل بدلاً من هذا انكبّ على استنساخ قوالب جاهزة كالجاز والبوب والميتال والبلوز والروك؛ لتصير هذه الأنماط بمثابة «الفتح الجديد» بالنسبة لفرقٍ آثرت الاشتغال عليها؛ دافعةً شخصيتها نحو اغتراب أكثر قسوة مع الجمهور؛ مفارقة لم تكن غريبة في بلدٍ تم تحويل فنون التشكيل والمسرح والسينما إلى نوع من المختبرات المغلقة على نفسها؛ طبعاً باستثناء بعض التجارب هنا أو هناك التي لم تُكتب لها الحياة بفعل عدم وجود جهة قادرة على تظهير وتمويل مثل هذه المشاريع وطباعة أسطوانات خاصة بها، أو إقامة حفلات كبرى في مسارح المدن لفرقها؛ لتنكفئ هذه التجارب وتضمحل أو تهاجر، ومن بقي منها داخل سورية تم ترويضه تلفزيونياً؛ وذلك عبر توظيف مقترحاته اللحنية في شارات المسلسلات وسواها من الأعمال البصرية التي صارت ظاهرة قائمة بحد ذاتها؛ ففي سورية فقط ينتظر مغنون ومؤلفون موسيقيون موسم الفرجة التلفزيونية كي يقدّموا بضاعتهم في سوق عكاظ المسلسلات؛ فيمرون ملوحين عبر شارة هذا العمل التلفزيوني أو ذاك كموديل أو يافطة لموسيقى تصويرية؛ سرعان ما تُنسى وتبهت مع نهاية الحلقة الثلاثين من المسلسل.

الموسيقى البديلة

 إن الحديث عن الموسيقى الجديدة يدفعنا مباشرةً نحو موجة ما اصطُلح على تسميته بـ«الموسيقى البديلة» فهذه تمّ تدجينها عولمياً في سياق محاكاة مشوهة للذات، وتطعيم عشوائي بين مقامات غربية وشرقية من باب التظاهر والاستعراض والإيغال في المأساة الثقافية التي تبرز الموسيقى هنا كأحد مفاعيلها؛ ففي ظل غياب أي بارقة أمل لموسيقيين يعزفون مع الفرقة السيمفونية الوطنية نهاراً ويشتغلون في مرابع السهر ليلاً لكسب قوتهم وقوت عائلاتهم؛ باع العديد من الموسيقيين السوريين آلاتهم، بل منهم من اختار الهجرة إلى الخارج والعمل مع فرق غربية على أن يظل محاصراً في بلاده بين خامسة بيتهوفن وأغاني كازينوهات الرقص الشرقي؛ فيما عمل العديد من الموسيقيين على استنساخ سياحي لمفردات التراث الموسيقي؛ فعبر قائمة لا تنتهي من التزوير للشخصية الموسيقية الوطنية سعى هؤلاء لإنتاج ألبومات تتسيّد فيها موسيقى «الراب الأميركي» على معظم «مؤلفاتهم» ناهيك عن الشلل الفنية التي استفردت بحيازة الاستوديوهات المتاحة لتسجيل هذه الأعمال، ومحاولة ترويجها على أنها نوع من التجريب الفني عالي المستوى، والذي قد يكون في عُرف القائمين على هذا التجريب موسيقى بعيدة عن فهم الجمهور العادي، وغير مستساغة لدى الناس؛ لكن موسيقاهم لم تكن في الحقيقة سوى نوع من التجريب في الجمهور، تماماً كما هو الحال في عروض المسرح التجريبي ومعارض الفن التشكيلي التي تؤمن بمدراس الضربة الأولى للريشة، ولا يعنيها لا من قريب ولا من بعيد أي أثر يذكر في حركة المجتمعات التي تدّعي التعبير عنها.
المهم هو اللعب على مزاج السوق، ففي الموسيقى مثلما هو في التشكيل والمسرح والسينما تم شطب جمهور مجتمعات الريف والمدن الصغيرة من حساب معظم الفنانين الجدد، والذين يتمتعون غالباً بإمكانيات أكاديمية عالية لكنهم لا يمتلكون الموهبة الخلاقة القادرة على إبداع مؤلفات موسيقية جديدة، لا تعلن قطيعتها مع التراث والجمهور، بل تعمل على إنجاز محترفها الخاص بها من دون التجني على الجمل الطربية واللحنية والمقامية المعقدة في بلادها؛ والتي من شأنها لو تم البحث فيها أن ترفد الحركة الموسيقية في العالم بأهم الفرق الفنية، كما هو الحال مثلاً مع موسيقى «الفادو» الشعبية في البرتغال أو موسيقى «الفلامنكو» الإسبانية، واللتين تعتبران من أبرز أنماط موسيقى الشعوب اليوم التي تقام لفرقها الجوالة حول الأرض حفلات في كبرى مدن العالم؛ بل ويحصد مغنوها وموسيقيوها شهرة لا تضاهى على مستوى الكوكب.
ربما «تجعلنا الموسيقى تعساء بشكلٍ أفضل»، كما يقول رولان بارت، لكنها قادرة أن تكون من أقوى أدوات التعبير الإنسانية؛ وحياتنا مليئة بها؛ فالموسيقى في أروقة الفنادق والمتاجر الكبرى والمصاعد الكهربائية وعلى المجيب الآلي تفعل فعلاً خفياً في النفس، وتجعل الحياة قابلة للعيش، لكنها هنا في هذا المقطع من العالم لا تتعدى أن تكون تفصيلاً من الضجيج العام؛ حيث يتم استيراد الموسيقى أيضاً مع قطع السيارات والقطارات والأسلحة الفتاكة؛ في حين لا يعمل العالم العربي على تصدير موسيقاه، بل يواظب يومياً على إعدام مخيلته في فضائيات الفيديو كليب، حتى أغاني «البوب» العربية هي أسوأ مثال يصدّره العرب كصورة عن شخصيتهم؛ فيما تعيش مختبرات الموسيقى على اجترار المستورد أو تعمل على تعديله أو إنتاج نسخٍ تعيسةٍ منه على أنها موسيقى جديدة، وهي بالأحرى مجردة من أية بلاغة فنية أو رغبة في التغيير؛ موسيقى تنجح دائماً في صياغة شارات لمواجيز الأخبار على التلفزيونات الرسمية، فتقلد بلادة هذه التلفزيونات وغيبيتها وامتثالها، لكنها تتبرأ دائماً من أي لمحات شعبية؛ كونها بوق السلطان وسياطه الصوتية لإتمام لهجته الإعلامية الخطرة في وعظ الشعب وتعليبه؛ وهي في وجهها الثاني الذي يهدد بالحداثة عبارة عن إنشاءات رخيصة تدأب على الاحتفال بعيد الموسيقى العالمي؛ وتقيم تظاهرات سياحية ريعية من مثل فعالية «موسيقى على الطريق» معتمرةً قبعة الإخفاء التي تجعل من أصحابها قادة للعُصاب السيمفوني؛ والتقليد الكاريكاتوري لكلاسيكيات موسيقى الشعوب؛ فمع أن بيتهوفن ـ مثلاً ـ اشتق معظم حركات سيمفونيته الخامسة من «المانويت» الرقصات النمساوية الشعبية؛ إلا أن معظم الموسيقيين السوريين ما زالوا يُصرّون على مقاطعة فلكلور بلادهم على نحو.. «اللالا الحموية، الردة الدرعاوية، السحجة الرقاوية، الأوف الساحلي، العتابا؛ الدلعونا؛ الزلوف؛ الميجانا»، متذرّعين بأن هذا النوع من الجمل الموسيقية «متخلّف وساذج وبدائي» مع أن هذه الألوان وسواها بمقدورها لو تمّ الاشتغال عليها والبحث في أصولها الآرامية والبيزنطية والسريانية أن تشكّل ثورة موسيقية وغنائية غاية في الفرادة وفي تحقيق استقلال الشخصية الفنية السورية عن غيرها من الأنواع الرائجة عالمياً؛ وفي هذا السياق تحضر تجربة الفنان نوري اسكندر التي لم تلق الدعم اللازم لإظهارها وترويجها؛ أو تجربة الفنان عدنان فتح الله الذي قدم مؤخراً أناشيد «الزلوف» مع فرقته للموسيقى العربية على مسرح الأوبرا.
أمر آخر يبدو ذكره مُلحّاً هنا هو إزاحة الألوان الغنائية والموسيقية الشعبية عن واجهة الموسيقى السورية، وإحالة عملية إنتاجها لشركات فنية ذات ربح محدود تعمل على طباعة نسخ رديئة من أعمال المطربين الشعبيين على أقراص مدمجة؛ لبيعها في محطات الركوب والسفر وعلى قارعة الطرق العامة؛ ففي هذه التسجيلات التي تبدو للبعض استهلاكية وليست ذات قيمة؛ تكمن هوية المجتمعات التي غيبتها الثقافة الرسمية من اهتماماتها؛ أو في أحسن الأحوال تعاملت معها كنوع من التُّرَف والمهازل الشعبية غير ذات قيمة، في حين أن هذه التسجيلات التي تنتشر بكثافة في المرافق ووسائل النقل العامة هي ذخيرة شعب تعامل مع موسيقاه القومية ببراءة ..

سامر محمد اسماعيل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...