علاء الأسواني: تأملات من حجرة الخادمة
LA CHAMBRE DE BONNE، حجرة الخادمة،
هذا التعبير يعرفه الفرنسيون، لكن المسؤولين في الفنادق الفرنسية لا يقولونه أبداً.
منذ القرن السابع عشر، كان الأثرياء الفرنسيون يخصّصون الدُور العلوي في بيوتهم للخادمات. كل خادمة تأخذ حجرة ضيقة تحت سقف البيت مباشرة، ولكل عدد معيّن من الحجرات حمام مشترك. مع الوقت، تطوّر الأمر، فتحوّلت حجرات الخادمات إلى حجرات للطلبة، يستأجرونها بأسعار زهيدة. ثم بدأ أصحاب العمارات والفنادق يضمّون بضع حجرات للخادمات، وينشئون فيها حماماً ودورة مياه، ويضعون فيها أثاثاً أنيقاً، ويؤجّرونها للنزلاء. فصارت حجرة الخادمة فخمة مميزة، وربما يزيد إيجارها عن إيجارات الحجرات الأخرى. في فنادق باريس، أحبّ دائما النزول في حجرة الخادمة، لأني أرى منها مشهد المدينة من أعلى، كما أنها عادة ما تكون أنيقة تتخلّلها عروق الخشب التي تتدلّى من السقف، فتضفي عليه إطاراً تاريخياً جميلاً.
زرتُ فرنسا مدعواً من مهرجان أدبي في مرسيليا. خصّصت لي إدارة المهرجان ندوتين لأتحدّث فيهما عن روايتي الجديدة «نادي السيارات»، مع قراءة أجزاء منها بالفرنسية. قبل موعد المهرجان، قرّرت أن أقضي بضعة أيام في باريس، فحجزت حجرة خادمة في أحد الفنادق المطلّة على ميدان «أوديون» وسط باريس. أجريت لقاءات صحافية عدّة، وعقدت ندوة في «جمعية الصداقة المصرية الفرنسية»، وقمت بتوضيح حقيقة ما حدث في مصر. قلت ما يعتقد به كل مصري (ما عدا الإخوان وأنصارهم)، من أن «30 يونيو» موجة ثورية عظيمة قرّر فيها المصريون سحب الثقة من رئيس الجمهورية، كما حدث في دول ديموقراطية عديدة. اكتشفتُ للأسف أن حقائق كثيرة غائبة عن أذهان الفرنسيين، فهم لا يعرفون مثلاً أن مرسي عطّل القانون والدستور بإعلانه الدستوري في تشرين الثاني 2012، ولا يعرفون أن مصر الآن بلا برلمان، ما يجعل التوقيعات كلّها لسحب الثقة من الرئيس إجراءً ديموقراطياً سليماً.
ندوتي الأخيرة في باريس كانت لغرض أدبي صرف. فقد دعاني جاك لانغ، مدير «معهد العالم العربي»، لأتحدث عن روايتي الجديدة. الأستاذ لانغ أحد كبار المثقفين الفرنسيين، يحظى باحترام واسع في العالم، وقد تولّى منــصب وزير الثقــافة ووزير التعــليم أكــثر من مرة. اتفقنا على أن يدير الندوة الأستاذ جيل غوتييه، الروائي والدبلوماسي السابق ومترجم كتبي كلّها إلى اللغة الفرنسية. كنت واثقا أن «الإخوان» لن يتركوا ندوتي الأدبية تمرّ بسلام، لكني لم أفكر بإلغائها، لأني أدافع عن الحق وعن الثورة وعن حق المصريين في اختيار من يحكمهم، وعزله من منصبه إذا أرادوا.
حصل «الإخوان» على تصريح بتنظيم تظاهرة ضدي لمدة ساعتين أمام المعهد، وقامت الشرطة الفرنسية بحشد أعداد كبيرة من رجالها لحماية المعهد إذا لجأ «الإخوان» إلى العنف. فوجئنا بأن «الإخوان» لم ينظموا تظاهرتهم، وأدركنا بعد ذلك أن غرضهم من طلب التصريح بالتظاهرة كان خداع رجال الشرطة ليصرفوا نظرهم عما سيفعلونه أثناء الندوة. ما أن دخلتُ إلى القاعة، حتى لاحظتُ شيئاً غريباً. في الصفوف الأولى، جلس أشخاص ملتحون متجهّمون مع أطفالهم وزوجاتهم المحجّبات. أما بقية القاعة، فامتلأت بجمهور معظمه من الفرنسيين، بالإضافة إلى جمهور كبير في الخارج لم يُسمح له بالدخول. طلب الأستاذ غوتييه من المسؤولين في المعهد السماح للجمهور بالدخول حتى لو تابعوا الندوة وقوفاً، لكن الأحداث تلاحقت بسرعة. تحدّثت نحو نصف ساعة عن الأدب ورواية «نادي السيارات»، ولاحظت أن الجالسين في الصفوف الخلفية فقط هم الذين يتجاوبون مع ما أقوله، أما «الإخوان» فراحوا ينظرون إليّ شزراً. فجأة، صاح رجل ملتح: «نريد أن نتحدث عما يحدث في مصر»، فردّ غوتييه بأن الندوة أدبية أساساً، ووعده بإعطائه الفرصة لمناقشتي لاحقاً في ما يريد. فجأة، قام أحد «الإخوان» من الناحية الأخرى وصاح: «ما هذا؟». كانت هذه كلمة السر، فقاموا جميعهم دفعة واحدة، وخلعوا ملابسهم ليظهروا «تيشيرتات» رابعة التي يلبسونها، وراحوا يوجّهون الشتائم المقذعة لشخصي وللجيش المصري، فرددت عليهم بأنهم خونة لأنهم خانوا الثورة، كما أنهم يقتلون الجنود المصريين. بدأوا الهجوم حتى قبل أن أردّ عليهم، ولاحظت أن معهم أدوات شرعوا يستعملونها في تكسير كل شيء قي القاعة.
أسوأ ما رأيت، مشهد الفرنسيين وهم يهرولون خارج القاعة وقد تملّكهم الرعب. ما ذنب هؤلاء الذين جاءوا لحضور ندوة أدبية؟ لماذا يتمّ ضربهم وترويعهم بهذا الشكل؟ قام رجل الشرطة بحمايتنا أنا وغوتييه، وانسحبنا إلى الدور الأسفل للمسرح، وظللنا ربع ساعة نستمع إلى أصوات تكسير محتويات القاعة. عرفت لاحقاً أن بعض الحاضرين اعترضوا على «الإخوان»، فانهالوا عليهم بالضرب المبرح. بين هؤلاء سيدة فرنسية صاحت فيهم إن ما تفعلونه غير متحضر: «جئنا إلى ندوة أدبية لنستمع إلى أديب مصري». فكان جزاؤها لكمة شديدة على وجهها أوقعتها أرضاً، بينما واصل «الإخوان» شتائمهم للجميع. تم إخراجنا من الباب الخلفي، وجاء إلينا لانغ للاطمئنان، وهو مستاء جداً. دعاني صديقي أوليفييه بوافر دارفور، مدير الإذاعة الثقافية الفرنسية، إلى العشاء في منزله مع مثقفين فرنسيين أعربوا جميعهم عن حزنهم وأسفهم مما حدث. قال دارفور: «يُحزنني أن يحدث ذلك في فرنسا بلد الحريات والفنون. لم يحدث في فرنسا قط أن تم منع أديب من الحديث عن روايته بهذا الشكل الهمجي».
أدان لانغ وغوتييه ما حــدث في بيانين كان لهــما تـأثير بالغ على الرأي العام الفرنسي. تأثرت كثيرا من حملة التضامن الواسعة التي وصلتني أصداؤها من مصر وفرنسا ودول غربية أخرى. في مرسيليا، استقبلني عدد كبير من المصريين، يتقدّمهم القنصل طارق يوسف. حضرت أولا ندوة مفتوحة تحدثت فيها عن الرواية. بعدها، قرأ الممثل فيليب كوبير مقاطع منها، فاستقبلها الفرنسيون بحماسة. التقيتُ صديقي تييري فابر، الكاتب والمفكر، فسألته: «معظم الفرنسيين الذين قابلتهم تضامنوا مع الثورة في مصر بمجرّد معرفتهم بحقيقة ما حدث هناك، لكني لا أفهم لماذا يصر بعض السياسيين الفرنسيين على مساندة «الإخوان»، وهم يعرفون أنهم جماعة فاشــية إرهــابية». قال فابر: «هؤلاء السياسيون الغربيون ينظرون إلى مصر من خلال نظرية الاستبداد الشرقي، التي وضعها ساسة أوروبيون في القرن التاسع عشر، وتتلخص بأن المصريين (وشعوب الشرق عموماً) لا يصلحون لممارسة الديموقراطية، لأن ثقافتهم الإسلامية تتعارض معها وتمجد الحاكم المستبد. هؤلاء السياسيون أكّدوا على مدى أعوام لصانعي القرار في الغرب أنه لن تحدث ثورة في مصر أبداً، لأن المصريين لا يفهمون الديموقراطية ولا يحتاجون إليها. عندما حدثت الثورة المصرية، أصيب هؤلاء بصدمة، لأن آراءهم عن المصريين تبيّن أنها غير صحيحة. يدافعون عن «الإخوان» الآن تماماً كما دافعوا من قبل عن مبارك، لأنهم يعتبرون استمرار الاستبداد في مصر أكبر دليل على صحّة نظريتهم، التي تؤكد أن الديموقراطية تصلح للغربيين فقط».
ذكّرني رأي فابر بمعركة خاضها طه حسين في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما طالب بتدريس اللغتين اللاتينية واليونانية في كلية الآداب المصرية، حيث أنه لا يمكن لأي دارس أن يطّلع على التراث الإنساني من دون إتقان هاتين اللغتين. الغريب أن أكثر من عارضَ تدريس اللاتينية واليونانية كان أستاذ إنكليزي اسمه كوبلند، متخصّص بالعصور الوسطى. لما احتدم الخلاف، سأله طه حسين: «لماذا تعارض تدريس اللاتينية واليونانية في الجامعة المصرية؟ هل تعرف جامعة إنكليزية واحدة لا تدرِّس هاتين اللغتين؟». فأجاب: «صحيح أن اللاتينية واليونانية تدرسان في الجامعات البريطانية كلّها، لكن الجامعة المصرية ليست مثل جامعات بريطانيا، ومصر ليست أبداً بريطانيا».
وجدت تطابقاً بين منطق بعض الساسة الغربيين ومنطق كوبلند، الذي يعرف أهمية تدريس اللاتينية واليونانية في الجامعة، لكنه يرى المصريين غير جديرين بأن تكون لهم جامعة محترمة. تماماً كما أن بعض الساسة الغربيين يدركون أن «الإخوان» جماعة إرهابية فاشية خارجة على القانون، لكنهم مع ذلك يدعمونها لكي تحكم مصر التي لا تصلح، في رأيهم، إلاّ للاستبداد الشرقي.
إن الثورة المصرية في لحظة فارقة، وتوالي العمليات الإرهابية بواسطة الإخوان يفرض علينا جميعاً الاصطفاف في مواجهتها. لكن بناء قواعد حقيقية لدولة القانون في الدستور الجديد هو واجبنا الآن. يجب أن تكون الانتخابات المقبلة شفافة وعادلة، وأن تجري كلها بإشراف دولي. يجب أن تبدأ إجراءات العدالة الانتقالية فوراً، فيتم تحقيق عادل في الحوادث كلّها التي أدّت إلى سقوط ضحايا منذ بداية الثورة في «يناير» 2011 وحتى الآن. يجب أن نثبت للعالم كلّه أن الثورة المصرية قادرة على بناء الديموقراطية التي قامت من أجلها.
علاء الأسواني
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد