عن ابنتنا التي تعيش في متر مربع .. الدويلعة تمنح نور وطناً على شكل عتبة باب
حان وقت الفطور، حجارة الرصيف هي الطاولة وبلوزة نور هي المفرَش والغطا، والدعوة لمشاركة الطعام عامة لكل من يصادف مروره في هذا التوقيت، فالفطور يليق بالأرصفة تماماً كما يليق بالطاولات، هكذا تتعامل والدة نور مع الرصيف الذي تسكنه، حيث لا سبيل لفرض سطوتها وإثبات ملكيتها لهذا الحيّز الصغير، سوى المبالغة في دعوة العابرين لحشو معدتهم بالقليل الذي توفر على مائدتها، ودعائها اليومي المُتكرر الذي يشبه ال “لا حول ولا قوة” في مواجهة اعتباط الحياة، وعليه تربّي الأمل في أن يعود زوجها المفقود، حتى ولو كان الأمل بعودته ضعيفاً لاعتماده على عواجل خطوط فنجان القهوة التي أخبرتها بأنه ما زال حيّاً في مكان ما يُربّي الأمل هو الآخر، في أن يعود ليلتقي أم نور وينقلها من رصيف الدويلعة إلى رصيف آخر بخمسة نجوم مع باركينغ وحديقة ومسبح.
“نور” عادت لتوّها مُتوّجةً بالانتصار تحمل كيساً صغيراً، مراسم استقبال الفلافل كانت أسطورية كما لو أننا في ميناء نستقبل سفينة حربية. جميع الواقفين من عمال فرن الخبز وبائعو الفروج وبائعو الببغاوات وموظفو القطاع العام، التفتوا للفرح الذي كلّل وجه نور الصغير، أم نور أنهت غسل ملابس ابنتها ونهضت كي تنشرها على ظهر برميل حديدي بانتظار أن ترتفع الشمس قليلاً لتجفيفها، لا ملاقط لتثبيت الغسيل ولا حبال لنشرها، وجه الغسيل يبدو شاحباً بللته المياه دون مسحوق.
لا تعرف نور كم عمرها، وعندما نسألها تحيلنا إلى والدتها قائلة “اسألي أمي”، وعندما نسألها من أية محافظة أنتِ؟ تُحيلنا مرة أخرى إلى والدتها بإِشارة من يدها. كل من يجتاز الرصيف المُحاذي لسوق الخضرة المؤدي إلى حارات الدويلعة، لابد لـ يده أن تمتد إلى رأس نور الذي لم يسبق له أن عرف خشونة أسنان المشط ولم يتسنّ له التعرّف على نعومة شامبو سنان، شقاوة الطفلة تبدو واضحة، تضحك وتحكي بعينيها، تركض جيئةً وذهاباً مشيرةً للواقفين أن ينظروا إلى طبعة العلكة التي ألصقتها للتو على راحة يدها، فيما تولّت أسنانها وأصابعها مضغ العلكة والعبث بها.
عَتَبَة بابٍ مُقفل تعادل مساحة متر مربّع، هي حِصّة نور من بلاد الحنطة والقطن والنفط تبدو الطفلة سعيدة بإشغالها الصغير هذا، فعتبة الباب التي تتخذها سريراً ما زالت تستوعب جسدها مع أنها تضطّر في أحيان كثيرة إلى طي ساقيها كي تأخذ شكل العَتَبَة.
منظر نور وهي تخلع ملابسها وتستحم على الملأ أمام المارة ودون شعورٍ بالخجل، يفتح شهية المستقبل على الأسئلة، أسئلة من نوع: هل ستكتفي هذه الطفلة بمساحة متر مربع عندما تكتشف حجم مساحة الجمهورية؟ وعندما تكتشف وجود المرآة وتعشق النظر إلى عينيها؟ وعندما تعلم أن لها جسداً سيتجاوز في الغدِ حدود قدميها الشاحبتين؟ وعندما تعلم أن عادات المجتمع ستجفّف عما قريب براءتها وتسلبها حرّية الرصيف لتمنحها عوضاً جلابيب سود حرفية ومجازية تُخفي مريولاً أبيض قصير وضحكة ضيّقة!
الأيام
إضافة تعليق جديد