سورية ولبنان:نحو تعديل الاتفاقات الاقتصادية
أعاد لقاء القمة بين الرئيسين بشار الأسد واللبناني العماد ميشال سليمان منتصف آب (اغسطس) الماضي، الاتفاقات الثنائية بين البلدين الى الواجهة، وهي اتفاقات أبرمت بين الطرفين خلال الوجود السوري في لبنان، لذا خصّص البيان الختامي للقاء البند الخامس لمراجعتها «في شكل موضوعي»، ووفق قناعات مشتركة بما ينسجم مع التطورات في العلاقات بين البلدين ويستجيب مصلحة الشعبين. ونصّ البند السادس على ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة بهدف تفعيل التبادل التجاري وتأمين مقومات التكامل الاقتصادي وإنشاء سوق اقتصادية مشتركة توفر مجالاً حيوياً للتبادل الحر للسلع والأموال والأفراد من طريق تفعيل تنفيذ اتفاق التيسير.
وتشكل «مراجعة» الاتفاقات مطلباً للقطاع الخاص اللبناني، إذ أكد رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان عدنان القصار، أهمية هذه المراجعة «لتتماشى مع التحولات والتطورات في الأنظمة الاقتصادية والاقتصادين اللبناني والسوري». ولاحظ أن حجم التجارة بين البلدين «وصل إلى مستوى قياسي العام الماضي، الأعلى منذ 1980، لكنه يظل دون المستوى المحقق في 1992 ، علماً أن حجم الاتفاقات الاقتصادية بعد هذا التاريخ كان أكبر بكثير من السابق، ما يعكس سوء تطبيق الاتفاقات وحال الفتور في العلاقات المشتركة منذ 2005، فضلاً عن عدم تقارب النظامين الاقتصاديين في السنوات السابقة». واللافت أن حجم التجارة البينية ازداد خلال السنوات 2005 و2007 وخلال السنة الجارية، وهي سنوات شهدت أصعب علاقات سياسية بين البلدين، لكن خبراء عزوا هذا التطور إلى اتفاقات تحرير التبادل التجاري الموقعة بين البلدين.
وتمثل مراجعة الاتفاقات ضرورة في رأي كثر، بهدف تحسين انتظام العلاقة وسلوكها المسار الصحيح، لأن سورية «تبقى منفذ لبنان إلى المنطقة العربية، عدا كونها سوقاً واسعة، كما يشكل لبنان بالنسبة إليها سوقاً مهمة في المجالات المصرفية والمالية والخدمية، خصوصاً في مجال فرص العمل لليد العاملة الفائضة».
وبهدف تسليط الضوء على موقف القطاع الخاص اللبناني من التطورات ورؤيته للأطر المنمية للاتفاقات البينية، وتحسين واقع العلاقة السياسية بادئ الأمر، حاورنا القصار في الموضوع، وجاء طرحه بمثابة رؤية كاملة.
فأعلن - من ضمن اقتراحاته لتعديل الاتفاقات أو إعادة النظر فيها بما يتلاءم مع المتغيرات الطارئة، خصوصاً في الاقتصاد السوري الذي يتحوّل الى اقتصاد السوق، وتقويمه واقع التبادل التجاري بين لبنان وسورية، والعناصر المؤثرة في اتجاهاته في السنوات الأخيرة - أن حركة التجارة بين لبنان وسورية التي «شهدت تطورات مختلفة راوحت بين النمو حيناً والتراجع حيناً آخر، في ظل اتفاقات اقتصادية ثنائية». ولاحظ أن الاتجاه العام لهذه التجارة «كان نحو الازدياد في السنوات الأخيرة»، عازياً السبب في شكل أساس إلى «توقيع اتفاق خفض الرسوم الجمركية بين البلدين، ما أتاح دخول المنتجات اللبنانية إلى سورية بتعرفة جمركية انخفضت تدريجاً 25 في المئة سنوياً لتبلغ صفراً في المئة مطلع 2004».
وأشار القصّار إلى أن حجم التجارة البينية «ازداد في السنوات 2005 و 2007 وخلال السنة الجارية، على رغم الفتور في العلاقات السياسية وتالياً الاقتصادية بين البلدين. وسجلت مستوى قياسياً بلغ 416 مليون دولار في 2007 هو الأعلى منذ 1980، إلا انه يظل دون المستوى الذي كان بلغه عام 1992 أي 523 مليون دولار»، (تضمن محروفات)، واعتبر أن ذلك «يعكس أمرين جوهريين، أولهما سوء التطبيق الذي صاحب تنفيذ الاتفاقات، وثانيهما حال الفتور التي صبغت العلاقات المشتركة منذ 2005. يُضاف عدم التقارب الذي كان حاصلاً في السنوات السابقة بالنسبة إلى النظام الاقتصادي في البلدين، إذ عرف لبنان في سياق تاريخه أيضاً نظاماً اقتصادياً حراً بكل مفاهيمه، فيما ساد نظام اقتصادي في سورية يخالف اقتصاد السوق».
ولفت أيضاً إلى «أن الميزان التجاري سجل فائضاً بلغ 4 ملايين دولار في 2007، للمرة الأولى في تاريخ العلاقات التجارية بين لبنان وسورية، بعد تراجع مستوى العجز التجاري اللبناني في شكل ملحوظ في الأعوام الأخيرة، خصوصاً في 2005 (9 ملايين دولار) وفي 2006 (مليونا دولار)، بعدما كان العجز التجاري اللبناني يتراوح بين 100 و300 مليون من 1995 إلى 2004». وعزا التحسن في الميزان التجاري إلى عاملين أساسيين، يتمثلان في «استمرار ارتفاع الصادرات اللبنانية إلى سورية بتأثير اتفاقات تحرير التبادل التجاري للسلع الوطنية المنشأ الموقعة بين البلدين، والانخفاض الملحوظ في حجم المستوردات اللبنانية من المشتقات النفطية من سورية».
عن أهم العقبات التي تعترض طريق تطوير التعاون الاقتصادي بين البلدين، والإجراءات لتذليلها، أكد القصار وجود قيود ومعوقات «تحد من تقوية التبادل التجاري على مستوى التصدير والاستيراد»، ويمكن ربطها في شكل أساس بعدم التقارب الذي كان حاصلاً في السنوات السابقة بين النظامين الاقتصاديين، وأبرزها وضع (سورية) إجراءات حمائية لبعض الصناعات أو معظمها، منح الانتاج السوري الأفضلية في المناقصات الداخلية في أي عملية تجارية، عدم تأمين المستلزمات من الخارج إلا عند الضرورة، إلزامية الشراء من إنتاج القطاع العام، تقييد استيراد السلع وحصر استيراد بعضها بمؤسسات القطاع العام، إضافة إلى أن هذه المؤسسات تدفع ثمن مشترياتها بالعملة المحلية، دعم مباشر لبعض الزراعات، الحفاظ على الصناعات المستوعبة أيادي عاملة كثيرة حفاظاً على الأمن الاجتماعي وتجنباً لنشوء بطالة، (ولم تنمِّ عناصر التكنولوجيا والابتكار وتراكم رأس المال هذه الصناعات وإنتاجيتها)، عدم الاعتماد على قوى السوق في شكل كامل وآليته في تحديد الأكلاف والأسعار وسواها، واحتساب قواعد المنشأ وفق أكلاف الإنتاج السائدة في سورية التي تتمايز عن تلك السائدة في لبنان، وأخيراً ندرة توافر الاعتمادات التجارية بالعملة الأجنبية لدى المؤسسات، ما يبطئ المبادلات التجارية».
واعتبر رئيس الهيئات الاقتصادية أن هذه الأمور «تتسبب بتعقيدات في ملء الاستمارات، وفي فتح الاعتمادات المستندية، وفي العمولات المرتفعة، إضافة إلى ازدواجية المقاييس والمواصفات في كل من البلدين، وإلى فرق القطع».
ولم يغفل انخفاض مستوى كلفة الإنتاج في سورية قياساً إلى لبنان، «ما يؤدي الى منافسة غير متكافئة للسلع والخدمات اللبنانية أمام مثيلتها السورية، ويفسر العجز في الميزان التجاري معها». وأوضح أن هذا الوضع «حدا بالجانبين إلى وضع روزنامة زراعية وإطلاق حرية تبادل المنتجات الصناعية، ولا تزال تشوبه معوقات في تخليص البضائع وفي إخضاعها الى إجراءات كثيرة، تسببت في تهريب البضائع».
وشدّد القصّار على ضرورة اتخاذ إجراءات أساسية تتمثل في «إيجاد آلية لمطابقة النصوص القانونية مع التنفيذ، وإنشاء مكاتب موحدة على الحدود، وضبط تهريب البضائع، واعتماد شهادات صحية صادرة في البلدين ومقبولة من الطرفين، واعتماد وسائل الدفع بما فيها بوالص برسم التحصيل، واعتماد الشفافية في التعامل التجاري، وإلغاء الاستنسابية والاعتباطية في تفسير القوانين والإجراءات، وإلغاء عقد التأمين للبضائع المستوردة من لبنان، والتكامل الزراعي، والتعاون في مجال النقل وتنفيذ مشاريع إنشائية بين البلدين خاصة بالنقل البري، وتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل على المستويات التجارية كلها».
وعن أهمية الاتفاقات ودورها في إنشاء سوق مشتركة، اعتبر القصار أن الفائدة التي ستعود على البلدين نتيجة تطبيق الاتفاقات الاقتصادية الثنائية «تتمثل في تعريض الإنتاج في كل منهما لمناخ المنافسة من دون التحصن بالسياسات الحمائية، والشروع في بذل جهود إضافية لتطوير نوعية الإنتاج وتنمية القدرة على مواجهة الإنتاج الأجنبي، وتالياً تعزيز القدرة على الدخول إلى الأسواق الخارجية». ورأى أن تذليل الصعوبات التي تعترض نمو التبادل التجاري بين البلدين «لا بد من أن يشكل المدخل الأساس لتطوير اتفاق التعاون والتنسيق الاقتصادي والاجتماعي بلوغاً إلى مرحلة إنشاء سوق مشتركة».
وحدّد مسائل أربعاً تجب معالجتها يستوجبها تسهيل التبادل التجاري: إلغاء الإذن المسبق المطبق الآن على ما تستورده سورية من لبنان. وهذا الإذن الذي حل مكان رخصة الاستيراد، لا يمنح للصادرات اللبنانية الآن، التي يرى الجانب السوري أن إنتاج مثيلها في سورية يفي بالطلب المحلي عليها، إلغاء شرط تكوين مؤونة توازي 105 في المئة على المستوردين السوريين الواجب تأمينها لدى المصرف التجاري السوري، في مقابل السلع اللبنانية المنوي استيرادها. وهو شرط ينال من القدرة التنافسية للصادرات اللبنانية، لأنه لا يطبق على المستوردات السورية من بلدان أخرى. تُضاف إلى ذلك الرسوم الجمركية الفعلية المطبقة في سورية وتوازي في الواقع ما يقارب أربعة أضعاف مستواها الاسمي، لأن هذه الرسوم تحتسب على أساس سعر الصرف الرسمي وهو 25.11 ليرة سورية للدولار، فيما ترتبط المبادلات بسعر صرف هو 42 ليرة سورية للدولار. بحيث يصير الرسم الجمركي الفعلي أعلى بكثير من مستوى الرسوم التي يفرضها لبنان على السلع الـ 45 المبينة في جداول الاتفاقات».
وتتمثل المسألة الرابعة بـ «ضرورة إلغاء الرسوم الجمركية على السلع المنتجة في أي من البلدين، وتختزن قيمة مضافة تفوق 50 في المئة، وأن يباشر بإلغائها على سلعتين أو ثلاث مثلاً يتم اختيارها بحسب المعطيات القطاعية في كل من البلدين ولفترة اختبار يتفق عليها، على أن يتم التخلي عن شرط توحيد التكاليف والأعباء الداخلية للإنتاج، نظراً إلى صعوبة تحقيق هذا الشرط على المدى المنظور، ما يعرّض مسعى البلدين لإنشاء سوق مشتركة، لأخطار الفشل».
وعلى الصعيد القطاعي، أظهر القصار أن في لبنان قطاعات إنتاج «تتوافر فيها عوامل الميزة التفاضلية والقيمة المضافة العالية والقدرة الإنتاجية المرتفعة، منها إنتاج الملبوسات والمأكولات وصناعة الورق والنشر والمنتجات المعدنية. وبنسب أقل صناعة المصوغات الذهبية والفضيات والصناعات الإلكتروميكانيكية وصناعة البلاستيك».
ومن شأن هذه القطاعات أن «تزدهر إذا توافرت لها دعائم اقتصادية وتجارية توفرها سوق مشتركة بين لبنان وسورية».
وعن نظرة الهيئات الاقتصادية في لبنان إلى آفاق التعاون الاقتصادي بين لبنان وسورية في ظل التطورات في اقتصاديهما، أكد القصار أن الإمكانات الموجودة بين البلدين «واسعة جداً على صعيد اقتصاد كل منهما والتعاون بمضمونه الشامل. إذ شهدت سورية في السنوات الماضية تحولات استراتيجية في اقتصادها الوطني، تمثلت في الانفتاح الاقتصادي الداخلي وعلى الخارج». كما ان اقتصاد لبنان «مبني على مبادئ الحرية الاقتصادية والمبادرة الخاصة والانفتاح على السوق». وتبنّت الإدارة الاقتصادية في لبنان «مزيجاً مدروساً وفاعلاً من عمليات التطوير يتماشى ومتطلبات العصر».
وتطرّق رئيس الهيئات الاقتصادية إلى القطاع المصرفي السوري الذي «يشهد تحولات وتطورات إستراتيجية منذ سنوات تمثلت في تشجيع إنشاء مصارف خاصة ومشتركة والسماح بدخول المنافسة الأجنبية إلى السوق المصرفية المحلية، والإلغاء التدريجي لتخصص القطاع العام المصرفي، وإنشاء سوق للأوراق المالية وهيئة خاصة للرقابة على أعمالها، وإصدار قوانين مصرفية جديدة ترعى السرية المصرفية ومكافحة تبييض الأموال وضمان الودائع المصرفية». ورأى أن هذه التطورات المصرفية «المهمة فتحت المجال أمام مصارف لبنانية لدخول السوق المصرفية السورية».
لذا اعتبر أن «التقارب حاصل» منذ سنوات بين النظامين الاقتصاديين السوري واللبناني وبالتالي على مستوى مناخ الاستثمار في كل منهما، وضيّق هذا التطور الفجوة التي سبقت مرحلة تطوير الاقتصاد السوري، وكانت أحد الأسباب الرئيسة لعدم الارتقاء بالتعاون الاقتصادي الثنائي إلى المستوى المرتجى، على رغم توقيع البلدين اتفاقات تجارية واقتصادية منذ سنوات. إذاً من الأهمية «أن تباشر السلطات الرسمية الاقتصادية في لبنان وسورية مراجعة الاتفاقات بهدف تحديثها، لتتماشى مع التحولات والتطورات الحاصلة في الأنظمة الاقتصادية والاقتصادين الوطنيين اللبناني والسوري».
وعن المطلوب على صعيد التنسيق بين السياسات الاقتصادية لتفعيل التعاون الاقتصادي وتنميته، أكد ضرورة «تحصين التقارب في الأنظمة والثقافة الاقتصادية في كل من البلدين، حتى يؤتي النتائج المرجوة على الصعيد المايكرو -اقتصادي، بمواصلة الإدارة الاقتصادية في كل من البلدين، الحفاظ على هامش معقول بين السياسات الماكرو - اقتصادية بأنواعها التجارية والاستثمارية والضريبية والإدارية والمالية والبشرية، ضماناً لفاعلية التعاون الاقتصادي وتالياً التعاون المصرفي». وشدد على أن ذلك «يرتدي أهمية بالغة خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار شمول مستوى التعاون الاقتصادي بين البلدين بحسب الاتفاقات المعقودة في المجال التجاري وجوانب الاستثمار المشترك، وتدفق اليد العاملة في الاتجاهين، والموارد المالية بين البلدين، وأيضاً الجوانب الضريبية وغيرها من نواحي التعاون الاقتصادي».
وحدّد السياسات التي يجب أن يشملها التنسيق المنشود في السياسات التجارية، بحيث يكفل التقارب في مستوى الانفتاح التجاري للبلدين على العالم الخارجي.والسياسات الضريبية والاستثمارية، وبما يكفل تقارباً على مستويات الضرائب ومناخات الاستثمار والعمل الاقتصادي والحوافز المالية. والسياسات النقدية، وفي الاتجاه الذي يكفل تقارباً في التوجهات النقدية العامة.والسياسات الإدارية والمالية، بحيث يحقق تقارباً على صعيد إصلاح الإدارة العامة، وزيادة نطاق القطاع الخاص في الاقتصاد. وسياسات القوى العاملة، بحيث يتحقق تقارب بينها لتأمين التبادل الحر لهذه القوى في الاتجاهين.والسياسات القطاعية، بحيث يتركز الجهد هنا على تأمين مقومات التكامل بين الاقتصادين. والسياسات المصرفية والمالية، بحيث ترتكز جهود السلطات النقدية والمصرفية على تحقيق التناغم في توجهاتها النقدية.
دانيال ضاهر
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد