زيتون سوريا.. حطب تدفئة

22-12-2015

زيتون سوريا.. حطب تدفئة

عدة ساعات استغرقها صعود عيسى وعائلته للتل المطل على القرية، ومن ثم نزوله وكل من أفراد العائلة الستة يجر خلفه رزمة أغصان زيتون، من دون ثمارها طبعاً باتجاه المنزل. لقد انتهى موسم الثمرة الخضراء السنوي، وبدأ موسم البرد.
في الطريق لا يتوقف عيسى عند نظرات الناس كما كان يجري قبل عدة سنوات. في الواقع، صار غالبية جيرانه يحذون حذوه.
رفعت الحكومة السورية عشية قبل العيد الماضي أسعار وقود التدفئة والبنزين بمعدلات مختلفة. هو ثاني أو ثالث صعود للأسعار منذ ستة أشهر. في الواقع لم يعد احد يتذكر. وبعد أن كان الأول بسعر سبع ليرات سورية لليتر الواحد، صار 130 ليرة، وأضحى الثاني بـ160 ليرة لليتر مقابل السعر القديم وهو 45 ليرة، أي ما يزيد عن نصف دولار، والذي صار سعر صرفه مؤخرا يقترب من عتبة الـ400 ليرة سورية.شبان يقتلعون شجرة زيتون لتحويلها الى حطب (ا ب ا)
لم يعد بإمكان أسر شبيهة بأسرة عيسى، عامل الأجرة اليومية، أن يشتري مازوت الدولة بأي شكل من الأشكال. أساساً لم يكن قادراً عليه، حتى في زمن السلم، والقضية أن حاله أضحى حال الغالبية العظمى من السكان.
طارق أب لأسرة من ثلاثة أولاد، ويعمل موظفاً في دائرة حكومية. اتخذ قراراً مشابهاً منذ خريف العام الماضي. لم تكن المشكلة في سعر المازوت غير المقدور عليه فقط، بل أيضاً في شحه، وفي «الإذلال الذي نتعرض له للحصول على عشرين ليترا» كما يصف. كانت الناس تقف في طوابير بيدها عبوات بلاستيكية لتعبئة حاجتها وفق قسائم توزعها الدولة، أو يتم التسجيل عليها اسمياً في المؤسسات المحلية.
ما الحل؟ فكر ولجأ سريعاً إلى ما يسمى بالدارج الآن بـ«التحطيب». وهو مصطلح آخر أفرزته الحرب والأزمة السورية إلى جانب مصطلحات أخرى شهيرة مثل «التشبيح» و«التعفيش» و«التجليط» وغيرها.
على مدار شتاء العام الماضي «الذي لم يكن بارداً والحمد لله» كان يخرج مساء من منزله، برفقة كبير أولاده، ليكسر وينشر أغصان شجر الزيتون المنتشر بكثافة في منطقة سكنه. كان يذهب وحيداً مع ولده قبل أفول الشمس ويعود قبل العشاء. ومع تناقل قصته، ومفاخرته بالتغلب على الصعود الناري لأسعار الوقود، بدأ جيرانه يحذون حذوه، حتى بات التحطيب نشاطاً مسائياً، يستفيد ليس من صعوبة تحصيل الوقود فقط، بل أيضا من تغاضي أو عجز الدولة عن وقف هذا «النشاط التخريبي».
يقول وهو يستعد لشتاء هذا العام بذات الطريقة إن «التحطيب حل جزءا من المشكلة. وهي البرد». ومن دون أن يتلهى عن نشر الغصن الذي أمامه، يضيف «لكن ما العمل مع باقي المشاكل. سعر الحليب ارتفع سبع مرات خلال هذه الفترة. ماذا نفعل؟»، ثم يجيب بسخرية «نشتري بقرة؟ تأخرنا في الواقع لأن سعر البقرة الواحدة ارتفع أربع مرات. وصار يعادل مدخول عام كامل بالنسبة إلى موظف».
والواقع أن صعود الأسعار لمواد رئيسية كالمازوت (يلقبه الاقتصاديون في سوريا بـ «دم الاقتصاد والصناعة») ترك أثره دوماً على بقية المواد الأخرى. كما شهدت السلع الرئيسية خلال عام مضى ارتفاعاً بنسبة ثلاثة أضعاف على الأقل، من دون أن تشهد الرواتب زيادات تذكر.
وهنا يحتفي الناس، ولا سيما قبل المناسبات العامة كالأعياد مثلاً، بشائعات حول إمكانية حصول زيادات في الرواتب، وإن بنسب رمزية لتقارب ارتفاع الأسعار الجنوني، لكن مسؤولين حكوميين يؤكدون،  أن «هذا غير ممكن في الفترة المقبلة المنظورة».
ولهذا مبرراته، ومن بينها انعدام موارد الدولة السورية الاقتصادية والمالية بشكل أساسي. فالنفط الذي كان يدر حوالي 20 مليون دولار يومياً باتت مجمل آباره (عدا ما يقل عن عدد أصابع اليد الواحدة) تحت سيطرة جماعات مسلحة متنوعة، من بين أبرزها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش». والسياحة التي شكلت يوماً ما نسبته 40 في المئة من حجم الدخل بالعملة الصعبة، معدومة هي الأخرى، اللهم إلا إذا جرى التنويه بما عرف بـ «السياحة الجهادية» خلال العام الذي مضى، والذي احتفت بالحديث عنها صحف أجنبية، وهي مسألة لا تأتي بمردود للدولة كما هو معروف.
هل ثمة حلول؟ يدرك طارق وعيسى، وجملة المحتفين بكثرة أشجار الزيتون، أن حلول الأفق المنظور «ليست منظورة هي الأخرى»، ولذا على الإنسان أن «يتعايش مع الظروف القاهرة كي يستمر»، إلا أن ما يقلق هؤلاء، من جملة أمور مقلقة عديدة، أن «ينتهي الزيتون» تحت فؤوسهم هو الآخر «قبل أن تنتهي هذه الحرب اللعينة».

زياد حيدر

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...