التشدّد الديني سلطة رقابيّة جديدة في مصر
هل أصبحت التيارات الدينية في مصر رقابة جديدة تمنع وتحجب وترشد المصريين إلى ما يجب مشاهدته؟ السؤال فرض نفسه بعد تكرار أحداث منع وحجب تسبب فيها التيار الديني بشكل عام والتيار السلفي بشكل خاص، خلال الأسابيع الماضية. تكرّرت الأحداث وكان آخرها قرار حجب المواقع الإباحيّة، الصادر عن النائب العام بضغط من مظاهرة حاشدة لسلفيين مصريين أمام مكتبه بوسط القاهرة. وسبقتها بأيام أزمة فيلم «عبده موتة» الذي ترقص فيه دينا على أنغام أغنية صوفية. ووصل الاعتراض الديني على الأغنية إلى درجة دفعت مفتي مصر علي جمعة لمشاهدته، ومن ثمّ إصدار حكم ألزم فيه «حذف الأغنية صوت وصورة من الفيلم».
ورغم أن خبراء في تكنولوجيا المعلومات تحدثوا منذ فترة عن استحالة حجب مواقع إباحية على الإنترنت داخل مصر، بسبب الكلفة الباهظة لذلك الحجب والمقدّرة بعشرة مليار دولار، تشمل برامج الحجب على النت، والبحث عن خوادم Servers جديدة. وتلك تكلفة ستجهد دولة تعاني من مشاكل اقتصادية عديدة ـ نصف شعبها تحت خط الفقر ـ لتأمينها. رغم ذلك، أصدر النائب العام قراره الذي يلزم وزارة الاتصالات حجب المواقع الإباحية. ويأتي هذا القرار بعد ثلاث سنوات من حكم قضى بحظرها، أوقفه النظام السابق. أما القرار الجديد، فيصب في مصلحة السلفيين، خصوصاً أنه جاء عقب مظاهرة لهم تطالب بـ«نت نظيف»، وتغذي مخاوف المصريين الليبراليين بشأن الحريات.
حازم عبد العظيم، أحد أبرز خبراء تكنولوجيا المعلومات في مصر، صرّح، أن الحكومة المصريّة لن تكون قادرة على تأمين تكلفة الحجب الخيالية. ويضيف: «قد يكون حجب المواقع الإباحية مجرّد حيلة من الحكومة المصرية، لمنع المواقع المعارضة للإخوان، على قاعدة اليوم نحجب مواقع إباحية، وغداً نحجب مواقع سياسية بحجج مختلفة.. وهكذا دواليك. فإنّ باب حجب المواقع لو فتح فعلاً، فإنّه سيكون من الصعب إغلاقه».
من جهتها، اعتبرت صحيفة «واشنطن بوست» أنّ «رضوخ النائب العام لضغوط السلفيين يسلّط الضوء على الصراع الذي تعيشه مصر حول القضايا المتعلقة بحرية التعبير، ويغذي مخاوف الليبراليين من أن صعود الإسلاميين للسلطة سوف يجعلها تستخدم نفس أساليب مبارك القمعية لكبت الحريات وإسكات المعارضة». ونقلت الصحيفة عن رامي رؤوف الخبير في التكنولوجيا الرقمية قوله: «في ظل النظام السابق كان هناك محاولات من جانب الإسلاميين لمنع المواقع الإباحية لكنها فشلت. ومن المفترض على الحكومة ألا تكون رقيباً على الناس، بل توفير الخدمات بغض النظر عن كيفية استخدام المواطنين لها». في العام 2009 خلال حكم مبارك، قضت المحكمة الإدارية لصالح دعوى أقامها محام إسلامي بأن المواقع الإباحية مدمّرة للقيم الاجتماعية المصرية، وقضت بحظرها. وفي آذار الماضي أمرت محكمة الحكومة بحظر المواقع الإباحية، وسعى بعض أعضاء أول برلمان منتخب بحرية في البلاد، إلى وضع تشريعات تحظر المواقع الإباحية علي الإنترنت.
يتعامل التيار الديني الصاعد في مصر، مع حجب المواقع الإباحية على أنّها مسألة حياة أو موت. لكنّ هذه القضيّة، ليست إلا استكمالاً لأزمات أخرى، شغلت الرأي العام خلال الأشهر الماضية. ومن أكثرها حدّة قضيّة فيلم «عبده موتة» التي اشتعلت حتى قبل عرض الفيلم في دور السينما المصرية. فما أن تمّ طرح إعلان تجاري للفيلم على شاشات الفضائيات تظهر فيه «دينا» وهي ترقص على أغنية «يا طاهرة يا أم الحسن والحسين»، حتى تقدم مركز القاهرة للدراسات السياسية والقانونية (القائمون عليه سلفيون) ببلاغ للنائب العام ضد أبطال الفيلم بتهمة «الاستخفاف وإهانة الرموز الدينية». حجّتهم، أنّ الفيلم تضمن «مشاهد للرقص الفاضح استهتاراً واستهزاء بالقيم الدينية والأخلاقية، من خلال استخدام نشيد للمديح لآل بيت النبوة ليكون محلاً للرقص الخليع».
بلاغ مركز القاهرة للدراسات السياسية والقانونية لم يكن الوحيد، إذ قام العديد من التيارات الدينية برفع دعاوى قضائية للمطالبة بمنع عرض الفيلم ومحاكمة أبطاله، وجاءت بعض الدعاوى من قبل تيارات شيعية في مصر.
قد يختلف كثر حول المستوى الفنّي للفيلم، وقيمته الفعليّة.. لكن القضية الحقيقيّة ليست نقدية هنا، بل قضية حرية تعبير بامتياز. إذ تمّ حذف جزء من فيلم وافقت عليه الرقابة ـ وهي الجهة المصرية الرسمية الوحيدة التي توافق أو تمنع عرض فيلم، بضغط من رقابة من نوع آخر، هي رقابة التيارات الدينية. ولا يمكن أن نفصل بين هذه الأزمة، وأزمات أخرى تكرّرت أخيراً، ومن أشهرها الدعوى التي رفعها إسلاميون على عادل إمام مطالبين بحبسه بتهمة «ازدراء الإسلام»، قبل أن يبرِّئه القضاء. بلغت الحرب بين التيارات الدينية وبعض الفنانين المصريين ذروتها، بعد واقعة شتم الممثلة إلهام شاهين على لسان أحد شيوخ السلفيّة، على لسان الشيخ السلفي عبد الله بدر.
منتج فيلم «عبده موته» أحمد السبكي قال لـ«السفير»: «أتعجب من تعامل التيارات الدينية مع الفيلم، رجال دين سلفيين وإخوان وشيعة وقفوا في مواجهته وهو في النهاية مجرد فيلم». ويكمل السبكي: «أرفض الرقابة الدينية على السينما، لأن هناك هيئة للرقابة على المصنفات الفنية، ووزارة ثقافة لها الحق في مراجعة الفيلم، وقد وافقت الجهتان على عرضه من دون حذف الأغنية. الأغرب أن الأغنية قديمة ولم تنتج خصيصاً للفيلم وظهرت في العديد من الحفلات، وتغنّى في الأفراح المصريّة منذ سنوات من دون اعتراض أحد».
فيلم «عبده موتة» من بطولة محمد رمضان ودينا وأيتن عامر وسيد رجب وباسم سمرة وحورية فرغلي، وتأليف محمد سمير مبروك وإخراج إسماعيل فاروق. أما الأغنية المثار عليها الأزمة فتحمل توقيع الفنانين الشعبيين أوكا وأورتيجا، وتم إصدارها منذ فترة طويلة، قبل استخدامها في الفيلم.
ويبرّر السبكي حذفه للأغنية قائلاً: «بمجرد أن عرفت ان هناك نية لدى البعض لاتهام الفيلم بإهانة الإسلام، قمت بنفسي بحذف الأغنية من كل نسخ الفيلم، قبل حتى أن يطلب مني المفتي ذلك.. فعلت ذلك لأنّني أدرك الوضع الغريب الذي تعيش فيه مصر، ولأنني لا أريد أن يشعل فيلمي نيران جديدة في الشارع المصري المشتعل أساساً بمشاكل سياسية ودينية لا تتوقف».
استطاع «عبده موتة» الهرب من مقصّ الرقيب الحكومي، لكنّه فشل بالتفلت من قبضة الرقيب الديني. ويتخوّف بعض النقاد من أن تشهد الفترة القادمة تدخل أكبر لمقص الرقيب الديني في أعمال فنية. وقال السيناريست وحيد حامد أن قضيّة «عبده موتة» مجرد بداية، وأن التطرف الديني سيمتد ليطال كلّ شيء في المجتمع المصري. لكنّه يؤكّد أنّ الفنّ سينتصر في النهاية: «الفن أقوى من كل التيارات، هو القوة الناعمة التي لن يستطيع التشدد الديني التغلب عليها».
مصطفى فتحي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد