البابا شنودة: رسالة في التسامح والإخاء الديني
السلام هو أنشودة جميلة تتردد أنغامه في قلوب الناس وفي أفكارهم، ويشتاقون اليها ومن دون السلام لا يسود مجتمع ولا يهدأ فرد فيه فهو منية الدول والشعوب كما الافراد ايضاً.
وبالسلام يعيش الناس في هدوء، وينتجون، وبغير السلام يصبح العالم شبه غابة، القوي فيها يعتدي على من هو أضعف منه.
والسلام في الاسلام هو اسم من اسماء الله. ففي سورة الحشر (الله هو الله الذي لا إله الا هو - الله القدوس - الملك القدوس - السلام) اسم من اسماء الله.
وفي المسيحية نقول عن الله إنه (إله السلام وملك السلام ومصدر السلام للجميع). والسلام أنواع ثلاثة:
• سلام للانسان مع الله، اساسه حفظ وصايا الله.
• سلام مع الناس في حياة الصلح الدائم والمحبة والتعاون.
• سلام دائم لا يستغني عنه أي فرد وبدون السلام القلبي يقع الانسان في الخوف والاضطراب والتردد.
وهكذا نرى في المسيحية يقال "طوبى لصانعي السلام" ويقال "إن ثمر البر يزرع في السلام".
ايضاً نجد السلام دعامة قوية في التعليم الاسلامي في كثير من السور ففي سورة البقرة (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) وفي سورة الحجرات (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وعبارة "لتعارفوا" هي هدف قوي وعميق. يريد الله من البشر أن يتعارفوا جميعاً وأن يعيشوا على أساس من الود ومن المحبة.
ونجد في التاريخ أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حينما استلم بيت المقدس، أعتذر أو رفض الصلاة في الكنيسة وقال لأسقف بيت المقدس (لئلا يأتي بعدي المسلمون ويأخذوها ويقولون ههنا سجد عمر) فأعطى صورة جميلة عن التسامح، وسجد خارج كنيسة القيامة حيث بنى جامع عمر في ما بعد.
ونجد هذا السلام والتآخي ايضاً في كثير من العهود والمواثيق التي تحدث التاريخ الاسلامي عنها، مثل الميثاق الذي اعطي لنصارى نجران، والميثاق الذي أعطي لقبيلة تغلب، ووصية أبي بكر الصديق لاسامه بن زيد، ووصية عمر بن الخطاب قبل موته وميثاق خالد بن الوليد لأهل دمشق وميثاق عمر بن العاص لأقباط مصر، وعلاقته ايضاً بالبابا القبطي (بنيامين البابا الثامن والثلاثون) حيث سلمه كل الكنائس التي كانت دولة الروم قد أخذتها من الاقباط، وأعاده الى كرسيه وأعطاه الأمان.
وفي كل تلك العهود والمواثيق التي تحدث عنها التاريخ الاسلامي والتي اعطيت للمسيحيين – أمنوهم على كنائسهم وصوامعهم ورهبانيتهم واملاكهم وارواحهم ايضا.
ونجد السلام في المسيحية ايضا يشمل الكل فيقول الانجيل "ان سلمتم على الذين يسلمون عليكم فأي اجر لكم؟ الخطأة ايضا يفعلون هكذا". بل يقول اكثر من هذا "احبوا اعداءكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا الى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم" فكم بالحري تكون المعاملة مع الاخوة لنا في اوطاننا؟
المسيحية لا تنظر الى التآخي فقط، وانما الى المحبة فتقول للانسان: "ان كل شخص لا يحب اخاه الذي يراه فكيف يحب الله الذي لا يراه؟ بل تقول ان "الله محبة" وايضاً تقول "لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير" ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم "الذي لا تستطيع ان تكسب صداقته لا تتخذه لك عدوا" احتفاظا بحياة السلام والتآخي بين الناس من جهة الاخوة.
نحن جميعا اخوة، اولاد لآدم وحواء، الله خلقنا جميعا من ذكر وانثى من مصدر واحد لكي يكون الجميع اخوة في الانسانية، وفي الجنس، ونحن ايضا اخوة في اللغة واخوة في الوطن العربي الذي ننتمي اليه واخوة في الانسانية بصفة عامة. وما اصدق ذلك الحكيم الذي قال "رب اخ لك لم تلده امك".
اما عن التسامح، فله أسس نفسية وروحية. فدائما التسامح يأتي عن سعة الصدر ورحبة القلب وطول البال، وهو ايضا يأتي عن طريق المحبة التي تربط الناس بعضهم بالبعض الآخر. ويأتي التسامح من تقدير كل شخص لطباع الآخرين ولظروفهم ولاحتياجاتهم ايضا. والانسان الذي يحيا في اخاء مع الناس، يجعل قلبه وعقله يحكمانه باستمرار، وليست اعصابه. الانسان الذي يثور ويضج قد توقف عقله وتسلمت الاعصاب قيادته، وبطريقة غير سليمة. لكن بهدوء النفس وبهدوء الاعصاب، يستطيع الانسان ان يعيش في تسامح وفي مودة مع الآخرين.
والمسيحية تكلمت كثيرا عن الوداعة والهدوء بحيث يقبل الانسان طباع الناس في هدوء، نحن نقبل الطبيعة في هدوء. نقبل الفصل المطير والفصل العاصف، والفصل الحار والبارد، دون ان نتذمر على الطبيعة، انما نشكل انفسنا كيف نتأقلم مع حالة الطبيعة فان كنا نفعل هذا مع الطبيعة الصماء، فماذا نفعل اذاً مع اخوتنا في البشرية؟
والانسان الذي يعيش في التسامح، انما يدرك ايضا ان الله اعطى الناس حرية لكي يتصرفوا وأعطاهم وصايا دون ان يرغمهم ارغاما على طاعة هذه الوصايا. ودائماً الشخص الذي يحتمل غيره هو الشخص الاقوى، اما الذي يثور ويضج فهو الضعيف، لأنه لم يستطع ان يضبط نفسه. اما الشخص الذي يضبط اعصابه ويحتمل فهو الاقوى – الاقوى من الداخل – والذي لا يستطيع ان يحتمل هو محتاج ان يراجع موازين القوة في حياته كيف تكون.
ان كانت هذه هي المعاملة بصفة عامة، فان الاسلام يدعو بصفة خاصة الى التعامل الطيب جدا مع اهل الكتاب. ففي سورة آل عمران (من اهل الكتاب امة قائمة يتلون آيات الكتاب اثناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسرعون الى الخيرات واولئك من الصالحين) وفي سورة الحديد قيل عن المسيح بن مريم (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوا رأفة ورحمة) وفي سورة المائدة (ولتجدن اقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى ذلك لأن منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون).
ونجد قواعد الاسلام قد جعلت اهمية كبيرة لمعاملة اهل الذمة. ففي الحديث (من أذى ذميا فليس منا. العهد لهم ولأبنائهم عهد ابدي لا ينقض يتولاه ولي الامر ويرعاه) بل حديث آخر يقول (استوصوا بالقبط خيرا فان لنا فيهم نسبا ورحما).
اما من جهة وصية عمر بن الخطاب قبل موته، فقد اوصى بحفظ العهود والمواثيق لغير المسلمين وعدم تكليفهم بما لا يطيقون، وهذه سماحة كبيرة من هذا الخليفة الذي سجل التاريخ له صفات من نور.
لكن لعل البعض يفقد تسامحه او سلامه مع الآخرين، بسبب شيء من الحماس الديني بينما في سورة الغاشية يقول عن هذا الامر "فذكر انما انت مذكر لست عليهم بمسيطر" وفي اكثر من سورة يقول "ما على الرسول الا البلاغ" الانسان يبلغ رسالة الحق للآخرين. وفي سورة يونس "لو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس ان تؤمن الا باذن الله) وفي سورة البقرة "لا اكراه في الدين" كل هذا يدل على روح السماحة التي علمها الاسلام للناس في معاملة الآخرين، وبخاصة من يختلفون معهم في المذهب او الدين، وفي سورة العنكبوت "لا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي احسن الا الذين ظلموا منهم وقولوا امنا بالذي انزل الينا وانزل اليكم والهنا والهكم واحد" وفي سورة النحل "ا دعو الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن" وسورة الممتحنة "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين".
ولعل من الاشياء الجميلة التي قالها الاسلام "لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك).
كل هذا يعطينا فكرة عن التسامح والسلام، كما علم بذلك الاسلام، وكما علمت به المسيحية، لكي نعيش في هذا الجو، في جو من المحبة والتآخي والمودة، والذي يعيش في السلام وفي التآخي انما يعطي صورة مشرقة عن الدين تحبب الناس فيه.
(•) نص محاضرة القاها البابا شنودة الثالث، بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، في ابو ظبي، حيث زار المدينة لتدشين كاتدرائية في 25 نيسان الماضي.
إضافة تعليق جديد