بسام كوسا .....لا أكثر ولا أقل
الجمل ـ د. نزار العاني:
مقدمة لا بد منها :
أصدقائي يعرفون إنني شِبْه اعتزلت أو توقفت عن الكتابة التي استمرت ستين سنة بسبب الضجر والملل ، لكن مايزال يعتريني شوق للقلم ، وما يزال يلازمني هاجس القراءة ، مثل "مبروك" بطل رواية (أكثر بكثير) للفنان بسام كوسا ، والذي يصف نفسه بدودة كتب : (هذا مصطلح يطلق على المهووسين بالقراءة ..دودة كتب ، نعم أنا كذلك) ص19 . وكرمى لتشابه خواطري أنا شخصياً بمونولوغات وسوانح "مبروك" ، وربما تشابه وساوسه وهواجسه بما يختلج في أذهان الكثير من المثقفين والتواقين للكتابة مثله ،فقد ساقني الشغف بمتابعة حياته ، إلى قرار كسر قاعدة التوقف تلك ، عَبْرَ خاطرة متعجلة حول هذه الرواية ،والتي هي أقل من دراسة ، وأكثر من منشورعابر عنها!
عن الروايات أولا :
تضاءلت قراءاتي الأدبية ، أي قراءة الشعر والقصص والروايات منذ أن استهوتني قراءة الكتب العلمية والفكرية والحاملة للمعرفة. فأنا رجل علم يهوى الأدب!
مع ذلك ، قرأت مؤخراً أكثر من رواية : "المئذنة البيضاء" ليعرب العيسى، ،و "الجرجماني" و"لا تبك..يا بلدي الحبيب" لحسن حميد ، وشكوت من العناء الشديد والمرهق في إكمالها ، نظرا للتطويل والإسهاب في عدد الفصول والشخصيات والصفحات ، وقرأت روايات "حبس الدم" لنضال الصالح، ، و"تاريخ العيون المطفأة" لنبيل سليمان ورواية "إخواتنا الغرباء" لأمين معلوف ، ووحده اليائس والحزين "مبروك" استدعاني لكتابة هذه المداخلة .
قرأت رواية (أكثر بكثير) ووجدتها لطيفة وطريفة وخفيفة ، (لا مدحاً ولا ذماً) ، ولكن لأنها النمط من الروايات التي أفضلها وترتاح إليها ذائقتي الأدبية ، لا أكثر ولا أقل . ولأن سيرة بطلها "مبروك" استهوتني ، والأهم ، أن المؤلف لم يتخذ وضعية الواعظ الذي سيكسّر الدنيا بروايته ، ولم يزعم بأنه سيحمل عوضاً عن "أطلس" قبة سماء الرواية السورية على كتفيه !
ولعل دخيلة المؤلف بسام كوسا ، وبعض ظلال أدواره الدرامية العديدة التي أداها ، تتشابك مع أحاسيس بطل روايته ولسانه ، كما جاء في واحدة من تداعياته ولعبته في محاكاة غابرييل ماركيز، حيث يقول : (ورغبة مني في عدم إرهاقكم من جهة ، وابتعادي عن الاستعراض الثقافي ، كما يحدث مع كثير من الأدباء من جهة ثانية) ص 21.
أصل الحكاية وفصلها :
بطل الرواية الرئيس كما ذكرت هو "مبروك" ، ابن الحرام ،والذي استعانت والدته بفحولة نجار شاب لتلده ، كي تستر عيب الزوج العاقر الذي يتهم زوجته ويهينها لكونها لا تنجب ، وذلك كي تمنح زوجها السكيركنية ذهبية يتبختر بها أمام كل من يصادفه ، هي كنية (أبو مبروك) ص 10 ، وتهبه فخر الإنجاب لخمسة من الأبناء بالطريقة الملتوية نفسها ، يموت أربعة ، ويبقى البطل الوحيد الناجي من الموت من بين أخوته ( إما مرضاً ، وإما جوعاً ، وإما إهمالاً) ص10 والذي سيكون الراوي الشامل والعارف لنفسه ولأقرانه ولمحيطه بضمير المتكلم .
مدخل مشوق لحكاية إنسان يتلبسه عار الولادة مقهقها منذ سحبته الداية ببشرى نزوله إلى درك الحياة البائسة ، على عكس المولودين بالصراخ والبكاء ، والذي سيعيش رحلة عذاب وحيرة وتساؤل وتوتر وارتياب وطبع ثابت موزع بين المرح والسخرية والحزن .ص 13
ببساطة شديدة ،نحن أمام رواية كلاسيكية (لا مدحاً ولا ذماً) ، صوت بطلها "مبروك" يفصح عن المتاعب الوجودية العميقة لحياته ، واللاأدرية ، وعدم الجدوى للعالم الذي يعيش فيه ، وانكسار أحلامه المشروعة في إنسانية ومعيشة كريمة لا تتحقق ، لخلل وشرخ في الصورة المشوهة للعصر .
"مبروك" من طبقة مسحوقة تعلم القراءة والحساب ويحفظ جدول الضرب غيباً، ولم ينهِ المرحلة الابتدائية ، ويصف نفسه قائلاً : ( أمتلك عقلاً رياضياً قادراً على التحليل ، بفطرة عالية ، نعم كنت لماحاً بالفطرة . أحفظ شعراً أو قولاً مأثوراً أو أي حكمة أسمعها من الآخرين دون عناء . أنا لا أمدحني ، أنا أوصفني فقط . كتلة بشريّة شبه مترهلة تسير على الأرض بفظاظة ، هذه الكتلة ـ أنا ـ) ص13 . وعلى هذا المنوال يمضي ليسرد للقارئ سيرة حياته ، وحيوات بعض الذين صادفهم في حياته المتعثرة ، تتناوبه وصلات طارئة من أحلام اليقظة ، التي يكاد يتلمس وقائعها على أنها الحقائق البشرية المطلقة التي يبحث عنها الناس ، وأشد أحلامه الكابوسية التي تطوق خطواته ، رغبته أن يكون كاتباً ، بعد مزاولته لكثير من المهن ، ويصعب عليه تحقيق هذا الحلم إلا في الجملة الأخيرة من الرواية :(جلست على الكرسي وراء الطاولة وكلي إصرار على أن أكتب وأكتب ..وأكتب . تناولت قلماً. وضعت رأسه على الورقة ، وضغطت بقوة . كتبت على رأس الصفحة " مئة عزلة في العام وأكثر .. أكثر بكثير" ) ص139 ، في تحوير مكشوف لرواية ( مائة عام من العزلة) ، وهي خاتمة تراجيدية لبطل نافرأرهقته الأيام بثقلها واختار العزلة الشاقة ، وربما أكثر بكثير من العزلة ، ولعله يقصد أرق وضنك الكتابة .
تنتهي بطولة "مبروك" الفردية ، وبحثه عن هويته وذاته الأعمق إلى قرار الانكفاء والعزلة ،وإلى الحزن والإحباط ، وإلى نفض يديه من هذا العالم الذي يعيشه ، والمكتظ بالتشوهات المعنوية والمادية التي لا أمل في معالجتها ، وربما لأن الإنسان المعاصر في محنة .
الشخصيات الرديفة :
البطل "مبروك" بشكل مختزل ، شخصية كافكوية قلقة ومتوترة وأطوارها متناقضة ، وأمثاله يتواجدون بكثرة في الرواية والقصة القصيرة والدراما العربية والأجنبية ، والتي تكرر معاناة البطل المخذول ، وغير المتصالح حتى مع ذاته ، وهو أحد وجوه البطل في التاريخ الحكائي والأسطوري للبشر .
وتصلح نظرية "جوزيف كامبل" كما شرحها في كتابه (البطل بألف وجه) حول كُنْه وجوهر البطل في الأسطورة والتخييل والسرد لتفسير الوجه المختلف لشخصية "مبروك" ومحاولته اليائسة والمتعثرة في المواءمة بين رغباته الدفينة في العودة لمصالحة ظروفه الصعبة ، ومايسمح الواقع في التوطئة لتحقيق ذلك ، في رواية " أكثر بكثير" .
يقول "كامبل" في كتابه: (أول ما يواجه البطل عند عودته هي مشكلة قبوله للواقع؛بعد الوصول إلى رؤى التحقق المرضية للروح،تبدو مباهج وأحزان الحياة العابرة كضجيج صاخب مبتذل ) ص 209 . و( أول ما على البطل القيام به هو أن ينسحب من المشهد الثانوي للعالم إلى المناطق الأكثر فاعلية في النفس، حيث تكمن الصعوبات الحقيقية ) ص 30 . وهذه هي حالة "مبروك" وما فعله .
لقد تنقل "مبروك" من عمل إلى عمل : تطريق النحاس (عمل زكريا تامر في تطريق الحديد) ،العمل في فرن ( عمل ياسين رفاعية في فرن)،عامل مقهى، عامل نسيج ، حارس عمارة وخادم وحمّال لسكانها ، وغالبا دون عمل، ودائما يحلم بالتحول إلى كاتب .
وتستعرض الرواية كل من صادف "مبروك" من الشخصيات في مهنه ومحيطه وحياته ، والتي يقوم بتحليلها وتفسير مكانه عندهم ، وأمكنتهم عنده .
- "إيليا" ، زميله وصديقه الحميم في ورشة النحاس، اليهودي الدمشقي والحرفي البارع الذي يهاجر إلى أمريكا : (سأغادر مكرهاً الرحم الذي احتضنني) ص 18 بعد وداع صامت حزين .
- "برهان" ، الإنسان الجاهل بالفرن وموضع أسراره وشريك دربه وبؤسه وقهره ، والذي يتحول إلى رجل ثري يترشح إلى المجلس النيابي ، والذي بسبب جهله يفقد زوجته "سماح" وجنينها ، إذ أنهما يموتان بسبب عناد "برهان" وإصراره على مداواة زوجته بالخرافات الطبية الشعبية لدى شيخ دجال .
- "عادل السعيد" الأستاذ الجامعي القاطن في العمارة التي يحرسها "مبروك" وكان موضع إعجابه كمؤلف كتب ومحاور صاحب رؤية وموقف ، والذي يهاجر هو الآخر إلى كندا هرباً من بيئة غير مؤاتية للتفتح العقلي الحر . والساكن الآخر الفظ والجلف والموظف بالدولة "أبو نضال" المتعالي بسلوكه والمكروه ص 36 .
- فتاة الفرن والزبونة التي يعشقها مبروك والتي تتبخر وتتزوج وتنكر وتتجاهل معرفته بسبب تدني موقعه المادي والمهني والاجتماعي، لكنها تأتيه كزهرة برية في أحلامه ومناماته كتعويض رخيص عن خيبة الفقد ) :اقتربت مني.. وما كادت تلمس بإصبعها خدّي حتّى شعرت بماء دافئ قد سال بين فخذيّ . أجفلت .. كان خيط حاد من ضوء الشمس هو من أيقظني) ص 26 .
- "صاحب النول" اليدوي والنساج الذي يعمل "مبروك" في ورشته ، ويركن إلى نصائحه وحكمته وخبرته وتجربته العميقة ومعرفته : (عن المرأة والجنس والمحرمات والمحللات ، وكل شيئ ) ص 64. وهو نظير الأستاذ "عادل" المثقف ، ولكن من شريحة مهنية تكد وتعمل لتكسب رزقها ون عرق الجبين .
- " أبو ضرغام" جار "مبروك" في السكن العائلي المشترك والهارب من جحيم الحرب في قريته . والجار الآخر "أبو سماح" العتال الفقير الرث في سوق الهال والكاره لزوجته وللمصادفات القاهرة التي جمعته بها ، والساعي للتخلص من عبء ابنته "سماح" ، إذ يعرضها على "مبروك" للزواج على رغم الفارق الكبير جداً بالعمربينهما.
- شخصية "ملح" . وهو لقب لفتى مسكين : (ليس عاقلا ولا مجنونا ،ليس ذكيا ولا غبيا،ليس طيبا ولا خبيثا ) ص92 ، ولكنه يكاد يخلق فتنة دون قصد باختلاس أناجيل ووضعها في جامع ، ووضع نسخ من القرآن في كنيسة !
- وشخصيات هامشية عابرة اقتضت لحمة السرد المرور على ذكرها .
هذه الشبكة من الشخصيات وهمومها وتقاطع رغباتها ومآلاتها تشكل متن الرواية . ويوظف بسام كوسا هذه الشخصيات لهدفين اثنين :
أولاً : كشف الجوانب الإنسانية لبطله ، فهو : أسير واقعه ، المتسائل ، التائه ، المسكون بالخوف ، السائر دون بوصلة أو هدف ، المتردد والحائر ، والممسوس بالإحساس بالذنب ، الوحيد المعزول ، والمحكوم بالكوابيس والأوهام والأحلام والهلوسات ، والملعون بالتوق المرضي للكتابة ، (والقهر والتهميش والظلم ) ص21 .
ثانياً : الكشف عن الأوضاع التي تشكل الفضاء الروائي العام ومعالمه وهي : الدين ، قسوة العالم ، الحب وتجلياته ، صعوبة الحياة ، الفقر ،السياسة ، التزايد العشوائي للسكان ، الجهل وخرافة الطبابة الشعبية ، الشر والخير ، التباين الطبقي ، اللاأدرية ، الآلام ، الهجرة .
ونجح بسام كوسا في تقديم الهدفين بصورة ممتعة ، وبلغة سهلة تتجنب النحت الإنشائي المتفاصح ، وعبر الحيل الروائية المألوفة كالمفاجآت في سياق الحكي ، والتناص ، والتضمين للمأثور ،والحوار والمونولوغ ، وترصيع السرد بالمفردات العامية ودلالاتها الشعبية العميقة للتحبب مما يدور على الألسنة في الخمارات : ( يا عكروت ، يا عرص ) . ولا يحتفي بسام كوسا ، لا بالمكان ولا بالزمان ، إلا بشكل عارض وعفوي، ولا يعنيه أبدا المظهر الخارجي لشخصياته ، إنما يهتم بما يكتنف بواطنها وأغوارها من انفعالات ومشاعر مكبوتة ، ولذا أجرؤ على تصنيفها في خانة الرواية النفسية ، وهذا النمط من الروايات هو المحبب عندي .
يقول د. شكري عزيز الماضي في خاتمة كتابه ( أنماط الرواية العربية الجديدة) ما يلي : (أود أن أؤكد أن قراءتي هذه لا تصادر قراءات أخرى ممكنة) ص246 . وأعترف إنني أتبنى هذه المقولة بالكامل .
دمشق 18/04/2022
التعليقات
مقال أكتر من رائع ...🌹…
مقال أكتر من رائع ...🌹 يستحقه المبدع بسام كوسا
إضافة تعليق جديد