مقاربة قرآنية لرسالة المسجد والجمعة
تتصل عمارة المسجد في الإسلام بإعمار العقول والقلوب المستنيرة بنور إقامة الصلاة وذكر اللـه وتسبيحه في بيوت أذن اللـه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وقد كانت المساجد الأولى في الإسلام مرآة لعقيدة المسلم النابضة بتوحيد اللـه نبض قلب الوحدة المتجهة إلى قبلة واحدة، وكان محراب المسلمين الأول تجاه بيت المقدس ثم حول بأمر من اللـه نحو البيت الحرام في مكة المكرمة.
ومنذ إنشاء المسجد النبوي في يثرب ارتفع منبره التربوي الشريف بخطب النبي- ص- يرتل القرآن ويشرح معانيه حتى اقترن مصطلح الجامع في الإسلام بمصطلح الجامعة والمدرسة في حضن المسجد والصلاة بلغة تميل بالمصلى إلى إدراك المعرفة العميقة بوجود اللـه سبحانه وكأن ثمة ينبوعاً روحيا يرفد كيانه كله بمشاعر السلام مع كل قيام وركوع وسجود وتشهد وتسليم.
وباستثناء ما فعله قلة من المسلمين في ظروف تاريخية معينة لم يسجل التاريخ أن المسلمين قد لجؤوا إلى اتخاذ الكنس أو الكنائس مساجد في البلاد التي فتحوها..
رسالة المسجد
وحسب الدكتور حسين مؤنس فإن هذه المزاعم من اختلاق كتاب العصور المتأخرة أو من اختلاق بعض المستشرقين من أمثال ليوني كايتاني leone caetan وك. كريسويل creswell.k ممن عز عليهم الاعتراف بأن المسلمين ابتدعوا عمارة مساجدهم على نحو فريد يجمع بين البساطة المطلقة والوفاء بالغرض الذي تطور مع الأيام ليربط معماريات الصحن ومواضئه وباحة الصلاة ومحرابها ومنبرها في كل مسجد من مساجد المسلمين من دون أن نجد أي اختلاف بين جميع المذاهب على فكرة المسجد وروحه ورسالته العبادية والأخلاقية والاجتماعية من الفجر الذي ينادينا بقرآن الفجر وحتى معراج الصلاة في المغرب والعشاء.
ومن روائع البلاغة القرآنية أن تتصل آية الحرية في المعتقد الديني بآية الدعوة إلى سلام دور العبادة: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلا أن يَقُولُوا رَبُّنَا اللـه وَلَوْلَا دَفْعُ اللـه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللـه كثيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللـه مَنْ يَنْصُرُهُ إن اللـه لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» الحج الآية 40.
ولن تجد من مئات ألوف المساجد التي بناها المسلمون على مدى تاريخهم الممتد من حدود الصين إلى الأطلس شيئاً من تغيير المعنى الروحي الذي أنشئت من أجله بيوت الله، وإن كان ثمة تغيير فهو تغيير المعنى والشكل الذي اقتضته ضرورات التطور العمراني في دنيا الإسلام وعواصمه مع اتفاق الفقهاء على كراهة زخرفة المساجد وتباهي الناس في نقوشها استناداً إلى وصية الصحابة (رض) أن القوم إذا زينوا مساجدهم قلت أعمالهم، وأول من اتخذ المحراب في المسجد الخليفة عمر بن عبد العزيز (رض).
ومن هنا تنوعت الأشكال المعمارية لمساجد المسلمين فانتشرت في شرق العالم وغربه على مباني ما يعرف اليوم بالطراز الشامي أو العراقي والمصري والفاطمي والمملوكي والتركي والهندي والإيراني والاندونيسي والسمرقندي والمغربي والأندلسي وسواها من خوالد الطرز الإسلامية حيث المئذنة رمز كي تصير السماوات أقرب والروح أجمل دفئاً، وكي تصبح الأرض بيضاء مثل قلوب المصلين وبسملات أشواقهم من أجل السلام.
وظيفة الصلاة
تحدث القرآن الكريم عن الجانب الاجتماعي والأخلاقي من وظيفة الصلاة وكتابها الموقوت، كما تحدث عن ضمير المصلى ووجدانه فيما تفعله الصلاة من توفير عنصر المناعة في سلوكه ومواقفه، واتفقت كلمة المسلمين على حرمة المساجد ورعايتها بالتكريم، فاغتنى فقه العبادات بأدب المساجد وفضلها وأحكامها ونظام بنائها وإصلاحها من البدع في ضوء مئات الأحاديث المروية عن جوهرة المساجد وفضل حبها والتعلق بها والسعي إليها بخلوص التوحيد وسداد القول وصلاح العمل الخالص لوجه الله.
كذلك لا تجد في خريطة المساجد الإسلامية إلا نماء القلوب الخاشعة لله في حياتها الروحية والإنسانية، وبوسع الباحث في - فقه المساجد - أن يمد عينيه إلى أدب هذا الفقه في صناعة الشخصية المؤمنة التي تربت في خير الأماكن الطاهرة حيث لا يجوز حتى مجرد الكلام فيها بغير طاعة اللـه لأن الكلام بغير تلك الطاعة يلتهم الحسنات كما تلتهم النار الحطب فلا لغو ولا لهو ولا شيء من زخرف القول في بيوت اللـه فيما يظهر من توجيه الحديث النبوي الشريف، فالمسجد معراج الوصال مع اللـه سبحانه وتعالى وملتقى المواصلة مع قيم الوحدة والإخاء، فلئن أضاءت المساجد لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض فهي نور ما يتفتح من قلوب المؤمنين العامرة بسجايا التراحم الذي يتخلق بأخلاق اللـه وأسمائه الحسنى. وصحيفة المسجد نعمى التعارف والتعاون على البر والتقوى ولاسيما مع تشريع صلاة الجمعة والجماعة حتى لكانت الجمعة حج الفقراء لمن لا يستطيع إلى الحج سبيلا، وما بين الحج والجمعة قيامة المؤمن إلى ميلاده الجديد وقد عاد منهما كيوم ولدته أمه.
ميثاق الأمة
فإذا خرجت الجمعة عن معنى رسالة المسجد وقيمه أضرت بالأمة ضرراً لا يكتوي بناره إلا قلوب الذين تعلقت مشاعرهم كلها ببيت الله.. وقد كره المسلمون الأوائل في فجر الدعوة استغلال المنافقين لحرمات مسجدهم، وقد نزل على نبينا- ص- الوحي الذي يلفتنا إلى خطر- مساجد الضرار- التي أفسدت صورة المسجد ومعناه، فلا تبنى المساجد ليعدي بعضها بعضاً.. فلما بنى المنافقون مسجدهم للقطيعة والضرار وضع القرآن الكريم ولأول مرة مصطلح- مسجد التقوى- لحماية دعائم المساجد من شرور العابثين بوحدة الأمة وسلامها.
وليس من قبيل المصادفات أن يعلن المندوب السامي في بعض جبهات الاحتلال لشرقنا الإسلامي أن لا مستقبل لوجود هذا المحتل في أرضنا العربية والإسلامية إلا باختطاف رسالة المسجد وتشويه معنى الجمعة والجماعة في حياة المسلمين وسلامهم.
كان ذلك في القرن الماضي الذي جاهر فيه الاستعمار القديم بعداوته ضد كل ما يعقد ميثاق الأمة على وحدتها في أعز مقوماتها وقوتها وهويتها، وهذا ما يلجأ إليه الاستعمار الجديد في زمن العولمة الأميركية لضرب أمتنا في قلب هويتها حيث المسجد والجمعة ناظم الوعي بيقظة الأمة وصحوتها فلا تشرك بربها أحداً، فمن شاء أن يتخذ زينته عند كل مسجد فزينة السعي إلى رضوان اللـه حسن الخلق، وزينة المساجد طهارتها من كل رجس أو دنس يفسق عن أمر ربه.
ضمير الرقابة الاجتماعية
وفي مدى ما نراه اليوم من تشويه لرسالة المسجد والجمعة أن لنا أن نكشف عن أصابع المؤامرة وأدواتها ضد الوطن الإسلامي فقد دخل العدو هذه المرة إلى قدس أقداسنا في بيوت الله، ولكن إدراك المؤمنين العارفين لهذا الخطر يهتف في إسماع الذين ينصتون لصوت القرآن: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللـه وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إن أَرَدْنَا إلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنهم لَكَاذِبُونَ»التوبة 107.
ولنا أن نستذكر من قبل ومن بعد رسالة المسجد والجمعة في إيقاظ ضمير الرقابة الاجتماعية وتحصين جوهرة الإيمان بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك بمنهاج الحكمة والموعظة الحسنة التي تنادي للإيمان ولا تكره أحداً عليه، فليس في رسالة المسجد والجمعة بشيء أن يأمر الداعية إلى المعروف الإلهي بأدوات المنكر وشياطينه: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» الأعراف 29.
وما نحتاجه لترميم ما تصدع من مساجدنا المهجورة أن نستعيد طهر تغيير الأنفس بإصلاحها ليظل أفق المحراب في المسجد محراباً للجهاد الأكبر في معركة المسلم مع نفسه الأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.
المساجد للـه
وها هنا ابتهل إلى اللـه سبحانه أن نرد إلى مساجدنا جوهرتها في أن تكون جميعها لله، فلا تنقسم انقسامات مذاهبنا لأن مساجد التقوى يتسع حضنها للجميع بهدي السلف الصالح الذي لم يتورط بتحويل المساجد إلى قوالب وأقفاص مغلقة على هذا المذهب أو ذاك، والمرتجى من وحدتنا الإسلامية ألا تعبد اللـه على حرف: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللـه أن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أن يَدْخُلُوهَا إلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ» سورة البقرة 114.
ويا خوفي أن تتغلل في عصبياتنا فتنة خلق القرآن فتمتد في الراهن المعاصر إلى فتنة المساجد، فلا مصبية بعد ذلك إلا أن تكون المصيبة في هذا الدين الذي أرسل به خاتم الأنبياء رحمة للعالمين: «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً».
وفي حديث النبي ( ص) قال: «جليس المسجد على ثلاث خصال: أخ مستفاد، أو كلمة محكمة أو رحمة منتظرة»، كذلك وفي المعجم الكبير للطبراني من حديث أبي أمامة عن النبي (ص) قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم وأصواتكم وسل سيوفكم وإقامة حدودكم...».
في تراث الشافعية قال الدمياطي: أول من علّق القناديل في المسجد عمر ( رض) ولما رأى علي ( رض) اجتماع الناس في المسجد على الصلاة والقناديل تزهر وكتاب اللـه يتلى قال كرم اللـه وجهه: «نورت مساجدنا نور اللـه قبرك يا عمر».
وفي رواية أحمد وابن ماجه عن فاطمة الزهراء (رض) قالت: كان رسول اللـه (ص) إذا دخل المسجد قال: «بسم اللـه والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك».
وفي المستدرك للحاكم أن النبي (ص) قال: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي (ص) وليقل: اللهم أجرني من الشيطان الرجيم».
الشيخ حسين أحمد شحادة
المصدر: الوطن
التعليقات
الشيخ حسين شحادة من الكتاب
إضافة تعليق جديد