هيئـــة الاستثمار «تنبطـح» أمام المستثمريـن… ومشروع قانـون يــؤسس للفـساد ويحميـه
يعد قانون الاستثمار رقم (10) الصادر عام 1991 نقطة تحول في تاريخ الاقتصاد السوري، لأن ذلك القانون قد أرسى ولأول مرة قواعد عمل واضحة للقطاع الخاص بأنواعه المختلفة خلال تلك الفترة، ولأنه قلص سيطرة الدولة الاقتصادية على الاقتصاد، وقلل من مركزيتها الاقتصادية، وأسس لمرحلة انفتاح وتحرر اقتصادي، وبغض النظر عن تحليل النتائج الاقتصادية والاجتماعية لذلك القانون والفروقات التي أحدثها في الاقتصاد السوري، فإن الحكومات السورية المتعاقبة قد قامت في عام 2007، أي بعد (16) عاماً من صدور ذلك القانون بإصدار المرسوم رقم 8، الذي أنهى العمل بقانون الاستثمار القديم، وأرسى أسس قانونية جديدة للاستثمار لا مجال لمقارنتها مع القانون القديم الآن.
اليوم، وبعد مرور (11) عاماً على المرسوم رقم (8) ها هي الحكومة الحالية تفكر بتغيير قانون الاستثمار الحالي، وتبني قانون استثمار جديد سيلغي العمل بالمرسوم رقم (8) متضمناً تغييرات قانونية واقتصادية عن سابقيه، ويتوقع معدّو مشروع القانون أنه سيكون قادراً على تلبية الطموح الاستثماري في الاقتصاد السوري.
في هذه المادة سيتم نقاش بعض مواد مشروع القانون الجديد، تلك المواد التي تتسم بالعمومية وعدم التحديد أحياناً، مما يترك المجال مفتوحاً ربما لتأويلات وتفسيرات مستقبلية لا تضمن الشفافية الحقيقية بين المستثمرين، أو التي يمكن تفصيلها على مقاسات بعض المستثمرين، وبذلك تفتح مجالاً جديداً من الفساد المغطى بالقانون، أو تلك المواد التي تدور حولها الكثير من التساؤلات عن جدوى وجودها، في مثل هذا المشروع بالصيغ الواردة فيها وعن أبعادها الاقتصادية ونتائجها، أليست المراسيم والقوانين هي رأس التشريعات بين الناس وحكومتهم، وهذ يعني يجب أن تتسم بالوضوح، والشفافية، وتحديد المعايير الدقيقة، وسد باب الاجتهادات والتأويلات! أليست هذه الصفات من صفات التشريعات القوية التي تقيد الفساد مسبقاً وتحد من هامش حركته؟
المناطق الاقتصادية الخاصة
يتحدث مشروع القانون الجديد في مادته الأولى المتعلقة بالتعاريف عن إحداثه ما يسمى بالمناطق الاقتصادية الخاصة، وقد عرفها مشروع القانون بأنها «مناطق استثمارية يتم إحداثها أو اعتماداها لإقامة مشاريع ذات نشاط اقتصادي أو أكثر من النشاطات التي يرى المجلس الأعلى للاستثمار أهمية إعطائها حوافز خاصة.
يعبر مفهوم المنطقة الاقتصادية الخاصة (SEZ) في الاقتصاد، والتي تعني اختصاراً (Special Economic Zones) عن منطقة جغرافية في الدولة، غالباً ما تكون مختصة بنمط اقتصادي معين، كأن تكون منطقة اقتصادية خاصة بالصناعة المعرفية، أو منطقة اقتصادية خاصة بالنشاط التصديري، أو منطقة اقتصادية خاصة بالتجارة، أو منطقة اقتصادية خاصة بالإنتاج التلفزيوني والسينمائي، وهكذا، على أن يتم استثناء الشركات العاملة في تلك المناطق من قوانين الاقتصاد التقليدية داخل الاقتصاد كقوانين العمل والضرائب والجمارك، وأي قيود أخرى مفروضة على الأعمال التجارية.
يلاحظ أن مشروع القانون لم يحدد في متنه صراحة ما هي النشاطات الاقتصادية التي من الممكن إحداث مناطق اقتصادية خاصة من أجلها، وبذلك منحها حوافز إضافية خاصة غير الحوافز الضريبية الواردة في متن المشروع، وقد ترك مشروع القانون للمجلس الأعلى للاستثمار سلطة تقدير تلك المشاريع، وهذا يعني لم يورد مشروع القانون معايير اقتصادية واضحة وصريحة لاختيار تلك المشاريع، لتمييزها عن غيرها من المشاريع الباقية المرخصة على القانون ذاته، أي أنه لم يقيد سلطة المجلس الأعلى للاستثمار مسبقاً، إلا أنه أورد المزايا الخاصة الممنوحة لها، وهنا تكمن المفارقة، فمشروع القانون لا يحدد بدقة مشاريع المناطق الاقتصادية الخاصة، أو على الأقل لم يذكر التخصصات العامة لها فقط، في حين أنه يحدد المزايا التي يمكن أن تحصل عليها، وذلك بنوع من التفصيل، وقد كان من الأجدى تحديد أنماط مشاريع في قطاعات معينة على الأقل لتوجيه المستثمرين إليها لا أن تترك سلطة تقدير تلك المشروعات لقرارات لاحقة قد يلعب الفساد فيها لعبته.
كما يورد مشروع القانون في فقرة المناطق الاقتصادية الخاصة، كلمتي «إحداثها» أو «اعتمادها» فالإحداث هو إنشاء الشيء من الأساس من دون أن يكون موجود مسبقاً، لكن كلمة «اعتمادها» قد تدل على وجود الشيء سلفاً، ليتم بعدها الاعتراف به كواقع وقوننته، فهل يوجد في ذهن المشرع السوري الذي أعد مشروع القانون نية لاعتماد بعض المناطق الجاهزة حالياً على أنها مناطق اقتصادية خاصة؟ وما هي المعايير التي يجب أن تنطبق على هذه المناطق القائمة كي ترتقي إلى مناطق اقتصادية خاصة وتأخذ مزاياها؟ هذه المعايير غير موجودة صراحة في متن مشروع القانون أيضاً، فقد كان من الممكن وضع معايير ولو تأشيرية لاعتماد منطقة حالية كمنطقة اقتصادية خاصة مثلاً، وبذلك فإن الغموض وعدم الشفافية يلف هذه العبارات أيضاً.
جزر اقتصادية جديدة
يضاف إلى ذلك، أن خلق المناطق الاقتصادية الخاصة يعني في النهاية إضافة نموذج استثماري جديد بشروط استثمارية ونظام عمل جديدين، وخاصة أن المادة (10) من مشروع القانون تؤكد ذلك بالقول «يصدر نظام الاستثمار الخاص وضوابط تشكيل واختصاصات، ونظم عمل مجالس الإدارات بهذه المناطق بقرار من رئيس مجلس الوزراء بناء على موافقة الوزير المختص وبالتنسيق مع الهيئة»، وتبعا لذلك سيصبح في الاقتصاد السوري تعددية كبيرة وواضحة في نماذج الاستثمار، منها ما هو مرخص على القانون الجديد بالمطلق، ومنها ما هو مرخص على نظام الاستثمار في المناطق الاقتصادية الخاصة، ومنها ما هو مرخص على نظام الاستثمار في المناطق الحرة، فما هو الهدف من إحداث تلك المناطق أولاً؟ ولماذا لا يتم منح حوافز موحدة ومعيارية لكافة المشاريع المرخصة والمزمع تنفيذها على هذا القانون الجديد لتعمل كغيرها ضمن الاقتصاد لا ضمن مناطق خاصة بها؟ أي بمعنى لماذا يتم خلق جزيرة استثمارية جديدة في مشروع القانون الجديد؟
حوافز خاصة بالجملة
ولو عدنا إلى تحليل عبارة «التي يرى المجلس إعطائها حوافز خاصة» فسنجد أن مشروع القانون قد حدد تلك الحوافز الخاصة في المادة (7) منه بـ (4) حوافز مباشرة وترك لنفسه المجال بإضافة ما يراه مناسباً منها مستقبلاً، لذلك سأقوم بذكر الحافز والتعليق عليه مباشرة بعد كل حافز، لأن تلك الحوافز حوافز مدهشة حقاً وتعطي المستثمرين أشياء تفوق الخيال الاقتصادي فلماذا إذا؟ وهذه الحوافز الإضافية هي:
1 – تحمّل هيئة دعم وتنمية الإنتاج المحلي والصادرات نسبة (50%) من إجمالي اشتراكات التأمينات الاجتماعية المتوجبة على المستثمر، رب العمل، عن العمال المسجلين لمدة 5 سنوات (لاحظ أن الحكومة ستتحمل جزء مباشر من تكاليف الإنتاج وهو نوع من أنواع الدعم المباشر للمنتجين، فماذا سيقدم المستثمر للحكومة مقابل ذلك، هذا ما لم يوضحه مشروع القانون أبداً، علماً أن هذا النمط من أنماط الدعم، وفي حالة دخول سورية في اتفاقيات تجارية دولية، هو دعم مرفوض في قوانين التجارة الدولية، ومن ناحية أخرى لماذا تم تحميل هيئة دعم الإنتاج المحلي ودعم الصادرات هذه التكلفة؟ فهل المشاريع التي ستقام في تلك المناطق ستكون تحت رعاية الهيئة المذكورة؟ أو هل الإنتاج فيها مخصص للتصدير كي يتم دعمه؟
2 – تقسيط أو تحميل هيئة دعم وتنمية الإنتاج المحلي والصادرات نسبة 25% على الأكثر من فواتير تعرفة استهلاك أو بدلات الخدمات العامة. (قد تتضمن هذه الخدمات خدمات الاتصالات والكهرباء والماء والإنترنت أو أي خدمة عامة أخرى، وهو ما يعبر أيضاً عن دعم حكومي مباشر لتلك المشاريع لا بد من الوقوف عنده، والسؤال عن مبرراته وجدواه، فهل تعجز مشاريع رأس مالها ربما بالمليارات عن تحمل نفقات سطحية كهذه النفقات؟)
3 – شراء الدولة لنسبة لا تتجاوز 15% من منتجات المشروع والمساهمة في تسويقها من خلال المؤسسات العامة. (لاحظ أن الدولة ستعمل بمثابة تاجر ومسوق لجزء من منتجات القطاع الخاص تحت غطاء المزايا، وبغض النظر عن حاجة الدولة للمنتج، أو عن جودة المنتج وتكلفته، أو عن أي معايير أخرى قد تحكم تلك الآلية. والسؤال الآخر هو هل ستشتري الحكومة نسبة الـ 15% من منتجات كافة المشاريع أم أنها ستنتقي بعضها لتطبق عليه هذه المزية؟ كما أن تلك الآلية الاقتصادية هي آلية مضرة بمبدأ المنافسة بين الشركات في الاقتصاد، وتعد من الممارسات المشوهة للتجارة الداخلية وتحرم المستثمرين من التساوي في الحقوق الاقتصادية، فهذه الشركات سيكون 15% من إنتاجها مباعاً حكماً بفعل القانون، وهذا سلوك اقتصادي تمييزي من الحكومة تجاه الأسواق، لا بل يفتح مجالاً لممارسات فساد قد تكون ضخمة جداً).
4 – تأمين أراض وعقارات مملوكة للدولة من دون مقابل أو بأسعار مخفضة للمشاريع الاستراتيجية التي يوافق عليها مجلس الوزراء، باقتراح من المجلس الأعلى للاستثمار. (لاحظ أولاً أنه قد تكون قيمة الأراضي المقدمة من قبل الدولة بالمليارات، فلماذا تكون الأراضي من دون مقابل؟ وهل يحق تقديم أراض ملكية عامة لنشاط اقتصادي خاص من دون مقابل؟ أليس استثمار تلك الأراضي أجدى من منحها للمستثمر مجاناً؟ ولماذا سيحصل المستثمر (س) على أراض من دون مقابل ولا يحصل عليها المستثمر (ع)؟ كما أن عبارة المشاريع الاستراتيجية غير محددة بمعايير واضحة، وقد يخضع تحديدها لشروط فضفاضة جداً، وقد تكون مساحة واسعة للفساد لضخامة الامتيازات المقابلة لها)
5 – أي حوافز خاصة أخرى تقترحها الهيئة ويقرها المجلس (لاحظ أن باب الاجتهادات والرغبات غير المقيدة بضوابط ومعايير قد فتح أكثر على مصراعيه أمام الحكومة، فبعد كل الإعفاءات الضريبية، وكل الحوافز غير الضريبية ما زال بالإمكان إضافة إعفاءات جديدة، تلك الإعفاءات المتروكة لمجهول وربما للتوازنات الاقتصادية وغير الاقتصادية أيضاً).
تشير تلك الإعفاءات، وما يضاف إليها من إعفاءات ضريبية أن الحكومة سوف تتحمل الكثير من تكاليف العملية الإنتاجية، في المناطق الاقتصادية الخاصة المزمع إقامتها (تكاليف أراضي + تكاليف تأمينات اجتماعية + تكاليف خدمات + شراء 15% من الإنتاج) فهل لمجرد جذب الاستثمار ستتحمل الحكومة كل تلك النفقات؟ وهل هذه السياسة سياسة اقتصادية مقنعة في التعامل مع المستثمرين؟ والأهم من ذلك كله… ماذا سيقدم المستثمر للحكومة والاقتصاد بعد كل ذلك؟
إن من يمنح كل تلك الإعفاءات الضريبية وغير الضريبية كان الأجدى به أن يحدد معايير موضوعية معينة، عندما يستوفيها المستثمر في المناطق الاقتصادية الخاصة ليمنحه عليها تلك المزايا، كأن يحدد له ضرورة تصدير نسبة معينة من إنتاجه حكماً، وأن يودع كامل عائدات تصديره في المصارف المحلية لمدة زمنية معينة تقابل مدة الإعفاءات الزمنية الممنوحة له، أو أن توضع له شروط تتعلق باستخدام نسب مستوى تكنولوجي معين في عملياته الإنتاجية، أو أن تكون منتجاته فيها قيمة مضافة معرفية بنسبة معينة. أي أن هناك الكثير من المعايير التي يمكن أن تحدد للمستثمرين مقابل كل تلك المزايا، لكن ذلك ما لا وجود له في مشروع القانون الجديد أبداً.
أيهم أسد
إضافة تعليق جديد