هموم سورية وأوروبية وحزبية تمتحنها صناديق الانتخابات التركية

09-06-2011

هموم سورية وأوروبية وحزبية تمتحنها صناديق الانتخابات التركية

لمنطقة «القرن الذهبي» رمزيتها. هنا «الباب العالي»، عقر السلطنة وهيبتها، وهنا حديقة «غولهاني هاتي هومايون»، التي كسر فيها شموخ السلطان العثماني باسم «عصرنة» الامبراطورية قبل اكثر من 150 سنة.
هنا، في محيطك، بحر مرمرة حيث عبر الاتراك كفاتحين الى اوروبا قبل اكثر من 500 سنة. وهنا، في محاذاة «شارع اردوغان» الصغير، في منطقة سيركاجي، الساحرة، «اياصوفيا»، اللاكنيسة واللاجامع، بأمر اتاتورك باسم علمنة تركيا الحديثة، والى جانبك «المسجد الازرق»، أو «السلطان احمد»، أحد رموز الافتخار التركي بالماضي. اتراك يصطادون السمك امام لافتة اعلانية لأردوغان في اسطنبول أمس (ا ب ا)
وفي خلفية المشهد حيث كان يحدثنا الناشط العلماني، «يني جامع»، وهو المسجد الكبير الاخير الذي شيده العثمانيون، قبل ان يشهدوا أفول مجدهم الغابر.
تجمع اسطنبول هذه المشاهد في حي واحد منها. هكذا بكل هذا الثراء الحضاري، والتناقضات. وليزداد المشهد التباسا، تتدفق حشود السياح الاجانب، والعرب ايضا، وينصحك نادل في مقهى يقدم الكحول، ارتياد مقهى آخر ما دامت لحيتك تشي بأنك ملتزم دينيا في هذه المدينة التي ليست عاصمة، ولكنها، كأنما تنتزع اللقب عنوة من غيرها، وتقول: من يستحقه أفضل مني!
تغص اسطنبول بالاسئلة. تتدفق تفاصيل الحياة طبيعيا، وبنجاح، حسب ما يبدو. لكن الاسئلة تتكاثر وكأن القلق أكبر مما هو باد، فيما تقترب انتخابات الاحد التشريعية، والاتراك يستعدون لما يتضح انه «اقتراع عالمي» ينتظره الشرق والغرب.
«الرجل المريض لم يعد مريضا»، يقول محدثنا العلماني، لكن من دون نزعة عداء لمن يختلف معه حزبيا وسياسيا. جينكيز جيفيتشي، هذا الاربعيني الناشط اجتماعيا، يشير الى ان تركيا لم تعد كما كانت قبل أكثر من مئة عام، عندما كانت، ويا لذل الاتراك، توصف بأنها «رجل أوروبا المريض»، ويجري التلاعب بها.
تركيا هذه لها سياستها الخارجية المستقلة، أو «الهجومية» كما يقول محدثنا. الاوروبيون يشكون الآن من هذه الهجومية: في قبرص، في ارمينيا، في فلسطين وفي ايران وغيرها..
ولهذا فإن الاسئلة كثيرة. ليس التساؤل عما اذا كان رجب طيب اردوغان، سيفوز من خلال حزبه العدالة والتنمية. الاجابة محسومة، (وهو بالمناسبة مقلق لهذا الحزب الحاكم منذ نحو عشرة اعوام لما قد يسببه ذلك من تراخ بين القواعد)، بل السؤال بكم؟ بـ45 في المئة من الاصوات؟ ام بأكثر من 50 في المئة، فيسجل انتصارا تاريخيا، يفتح له ابواب الحياة السياسية على مصراعيها؟
بامتلاكه غالبية المقاعد الـ370، وهو الوضع الامثل له، سيكون اردوغان كمن يتسيد في سدة «الباب العالي»، بالمعنى السياسي لا التاريخي.
ولأنه يسبب الازعاج لعموم العواصم الاوروبية، فإن الشبهات تتزايد بأن الاوروبيين يميلون الى زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدار أوغلو الذي يبدو متجهاً نحو رفع حصته الشعبية الى 30 في المئة، بينما سيعزز قوميو دولت باهتشلي شعبيتهم لكن وسط شكوك بما اذا كانوا سيتخطون الشرط الدستوري المتمثل بعشرة في المئة لدخول البرلمان.
وبامتلاكه غالبية الثلثين المريحة، سيكون بإمكان اردوغان استحضار التاريخ، لا من أجل البكاء على الاطلال، أو على المجد الغابر، ولا من أجل الاكتفاء بتمجيد الماضي..
لكنها قد تكون مناسبة لاستذكار «فرمانات» الصدر الاعظم (رئيس الوزراء وقتها) مصطفى رشيد باشا لعصرنة تركيا في حديقة «غولهاني هاتي هومايون»، تحت ضغط الاوروبيين لانتزاع الصلاحيات من السلطان العثماني «المريض».
هذه المرة سينتشي بالثقة الشعبية التي يفترض ان تخول اردوغان، كما يقول، نقل تركيا الى مصاف الدول العشر الاوائل اقتصاديا في العالم في العام 2023، في الذكرى المئوية الاولى لإعلان الجمهورية التركية.
وسط مشاعر عزة استعادة الدور والوزن تحديدا، تتكاثر الاسئلة في الداخل والخارج: هل يستمر النجاح في التوفيق بين انتهاج الليبرالية الاقتصادية والمحافظة دينيا؟ هل تستمر الاتهامات لأردوغان بمحاولة المساس بالحريات الفردية والعامة؟ هل تتبدد الاتهامات له بامتلاكه «أجندة إسلامية مخفية»؟ هل وهو في مسعاه لدفع تركيا الى مصاف الدولة الكبرى اقتصاديا، يفقد قدرته على تحمل الخصوم وتتلبسه تهمة «المستبد»؟ ام يبرهن في سيره على هذا الحبل الرفيع، على قدرة استثنائية للمواءمة بين واجبات «الباب العالي»، ومعايير العصر لرعايا الدولة الحديثة من حريات وديموقراطية وتعددية وعدالة اجتماعية؟ وماذا عن الاكراد، المعادلة الصعبة في الحياة السياسية والانسانية التركية، وفي الوضع الاقليمي؟
وفي السياسة الخارجية، هل تتبدل توجهاته الخارجية في العضوية الاوروبية التي باتت تفتقر الى الإجماع الشعبي حولها؟ هل ينجح في قلب النزعة «العدائية» في المانيا وفرنسا وغيرهما تجاه الاتراك؟ وهل يستمر نزوع أردوغان نحو قضايا الشرق الاوسط اكبر، ام يتراجع، ليتفرغ لمشروعه الاقتصادي الكبير؟ هل يحدث التحول المنتظر طويلا في العلاقة مع ارمينيا؟ وهل تظل قبرص عقدة شائكة في طموحاته الاوروبية ام يفككها؟
وهل يتبين ان ما كان يقال حول سوريا في الاسابيع الاخيرة، لم يكن اكثر من ضرورات «انتخابية» داخلية، تعتدل بعدها اللهجة والاسلوب؟ هل تظهر الانتخابات ان القواعد العلوية النافذة في الاقتصاد والعسكر والسياسة، ستعبر عن تململها من «سياسته السورية» في صناديق الاقتراع؟ أم انها كما غالبية الاتراك، ستظل منهمكة بمصالحها الداخلية؟ هل أكسبته هذه «السياسة السورية» تأييداً أكبر بين الناخبين الاتراك عموما كما فعلت «سياسته العراقية» المدوّية قبل نحو ثمانية اعوام، فعلها ورفعته الى مصاف الزعماء التاريخيين؟ ام انها استهلكت من رصيده؟
وماذا عن لبنان والعراق والثورات العربية عموما والتمردات المسلحة التي يبدو كأنه يناصرها في مكان، ويعاديها عندما تكون في تركيا نفسها؟
«هذه انتخابات شرق اوسطية» يقول محلل تركي، تأثيرها يمتد بعيدا عن صناديق الاقتراع التي ستفتح الاحد المقبل رسميا، حتى لو كانت ملايين الاصوات التي ستتدفق فيها، مؤطرة سياسيا بين الخيار الرباعي المتمثل بأردوغان وكيليتشدار أوغلو وباهتشلي والاكراد.
وبالاثناء، سائقنا علمه باللغة الانكليزية كعلمي بلغته التركية، وطوال نصف ساعة، الحوار معه محال، الى ان برقت عيناه عندما أدرك فحوى الكلام: «توركيش سيتشيم» قال مشيرا الى الانتخابات البرلمانية كما استوثقت لاحقا حتى لا أخطئ التفسير فيكون حديثه عن الحمام التركي! ولكنه ألحقها بجملة وحيدة مفهومة: باهتشلي.. باهتشلي... توركيش سيتشيم باهتشلي، ظل يرددها باعتزاز المتحدث الى صحافي غريب.

خليل حرب

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...