هدى شعراوي.. المرأة التي رفعت الحجاب عن العقل

13-12-2011

هدى شعراوي.. المرأة التي رفعت الحجاب عن العقل

 في مصر هي مجرد شارع، ومدرسة وقطعة أرض متنازع عليها ومتحف مهجور. قصرها الفخم في قلب ميدان التحرير، تبرّعت به للدولة ليصبح متحفاً للفن الحديث. وأصبح بالفعل كذلك. لكن بعد سنوات، هدم المبنى لتصبح الأرض الفراغ ملكاً لوزير الإسكان الأسبق أحمد المغربي نزيل سجن طرة الآن. أما الشقة الفخمة في حي «غاردن سيتي» التي كانت ملكاً لابنتها، وأقامت هي فيها لفترة، فقد تحوّلت إلى نادٍ اجتماعي يرتاده المثقفون. وبات متحفها مجرّد جمعية أهلية مهمتها بناء مدارس للأيتام. هذا هو مصير تراث واحدة من أبرز رائدات الحركة النسائية العربية هدى شعراوي (23 حزيران/ يونيو 1879 ـــ 12 ك1/ ديسمبر 1947). لكن هل سيكون النسيان مصيراً لأفكار هذه المرأة مع صعود تيارات سياسية في مصر تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وترى أنّ «وجه المرأة مثل فرجها»؟...

هدى شعراوي ابنة لحظتها التاريخية، ومجتمع يخلع قيوده وأغلاله. رغم أنّها ابنة جنوب مصر، تحديداً محافظة المنيا بكل ما فيه من تراث أسطوري حول قمع المرأة وحشمتها، إلا أنّ الظروف أتاحت لها والداً سياسياً هو محمد سلطان باشا الذي كان رئيساً لأول برلمان مصري (1882)... ورغم اختلاف المؤرخين حول دورها وتراجعها عن مساندة الثورة، إلا أنّ ذلك لم يقلل من أهمية ما قامت به.
مات الأب بينما كانت صغيرته في الخامسة، تولت الأم مسؤولية تربيتها، وزوّجتها في الثالثة عشرة من ابن عمتها علي شعراوي باشا وهو أحد قادة ثورة 1919. لم تعلم الصغيرة بهذا الزواج إلا قبل نصف ساعة من حدوثه فتمردت، لكنّ صوتها كان واهناً. هكذا، وجدت نفسها أماً وزوجة ولمّا تبارح ملاعب الطفولة. بعد سنوات قليلة، بدأت ملحمة الكفاح من أجل حقوق الوطن قبل أن يكون دفاعها من أجل حقوق المرأة. كانت البداية عندما شاركت في الجهود الأهلية لمقاومة وباء الكوليرا الذي اجتاح البلاد. وفي عام 1909 نجحت في تنظيم ندوة نسائية في الجامعة المصرية حول المرأة الغربية والشرقية ومسألة الحجاب، وترأست الجلسة الأخيرة في الندوة، ففتحت الباب أمام المرأة المصرية لحضور الاجتماعات العامة، وانتزعت الاعتراف بإمكانية رئاسة امرأة لندوة عامة.
سعت إلى تأسيس عدد من الجمعيات الخيرية التي حشدت جهود النساء المصريات الراغبات في المساهمة في العمل العام مثل «مبرة محمد علي» لمساعدة أطفال المرضى عام 1909. كما ساهمت في تشكيل «اتحاد المرأة المصرية المتعلمة» عام 1914، وأسّست لجنة تحت اسم «جمعية الرقي الأدبي للسيدات».
لكن انطلاقتها الكبرى كانت مع ثورة 1919. في 16 آذار (مارس) عام 1919، خرجت على رأس تظاهرة نسائية من 300 سيدة للمناداة بالإفراج عن زعيم الثورة سعد زغلول ورفاقه. شهد ذلك اليوم التاريخي مقتل أول شهيدة للحركة النسائية التي أشعلت حماسة بعض نساء الطبقات الراقية اللواتي خرجن في مسيرة ضخمة رافعات شعار الهلال والصليب دليلاً على الوحدة الوطنية، وندّدن بالاحتلال الانكليزي، وتوجهت المسيرة إلى بيت الأمة. تحكي شعراوي عن ذلك اليوم: «بينما كنت أتأهب لمغادرة منزلي للاشتراك في التظاهرة، بادرني زوجي بالسؤال: إلى أين تذهبين والرصاص يدوّي في أنحاء المدينة؟ فأجبت: للتظاهرة التي قررتها اللجنة. أراد أن يمنعني، فقلت له: هل الوطنية مقتصرة عليكم معشر الرجال وليس للنساء نصيب فيها؟ فأجابني: هل يرضيك إذا تحرش بكن الإنكليز فيفزع بعض النساء ويولولن: يا أمي... يا لهوتي؟ قلت له إن النساء لسن أقل شجاعة منكم ولا غيرة قومية أيّها الرجال. وتركته وانصرفت لألحق بالسيدات اللواتي كنّ في انتظاري».

عندما سافرت إلى روما في بداية العشرينيات للمشاركة في مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي مع وفد من النساء المصريات، التقت موسوليني الذي صافح عضوات المؤتمر. وعندما جاء دور شعراوي، قال لها إنّه يراقب باهتمام حركات التحرير في مصر. لم تصمت، بل طلبت منه أن يمنح المرأة الإيطالية حقوقها السياسية. كان هذا المؤتمر بداية التفكير في تكوين «الاتحاد النسائي المصري» الذي ناضلت من خلاله بهدف تحقيق مطالب رآها البعض تجاوزاً وكان أهمها: المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة وأهمها حق الانتخاب، وتقييد تعدد الزوجات، والجمع بين الجنسين في مرحلتي الطفولة والتعليم الابتدائي.
عندما عادت من هذا المؤتمر، رفعت النقاب عن وجهها، مكتفية بالحجاب بهدف اتاحة الفرصة للمرأة المصرية للانخراط في الحياة الاجتماعية السياسية. ثار كثيرون عليها، لكنّ كفاح شعراوي الجاد جعل الآباء يقتنعون تدريجاً برفع الحجاب عن وجه المرأة المصرية. كانت مبرراتها قوية: «كيف يرقى الرجال إذا لم ترق النساء؟ وكيف تنتظم حال بيت تنيره امرأة جاهلة لا رأي لها في الحياة؟ كيف تريد الأمة رجالاً صالحين أكفاء للحياة المجيدة القوية، إذا كانت تتولاهم في نشأتهم وتطبع تفكيرهم أمهات جاهلات وضيعات التفكير؟».
أسئلة شعراوي التي طرحتها في عشرينيات القرن الماضي، هل وجدت إجابة لها في بدايات القرن الحادي والعشرين؟ أم التاريخ يعيدنا دوماً إلى النقطة التي بدأ منها؟ هل يمكن أن تدخل أفكار شعراوي «متحف الذكريات». وعندما نقرأها اليوم، لا نتحسر بل نقول: لقد تطورنا. كيف كنّا وكيف كانوا؟ الإجابة يكشف عنها المستقبل القريب.

محمد شعير

عن الربيع العربي ووعوده الناقصة: كيف نخرج من «عصر الحريم»؟
ترافق النضال الوطني لديها مع كفاحها من أجل التحرر... فيما نرى اليوم معظم الليبراليين العرب يخوضون معاركهم «التنويريّة» في أحضان الاستعمار. كيف نطبّق تجربتها على المشهد السياسي العربي؟

ما معنى إحياء ذكرى وفاة هدى شعراوي الذي يتقاطع مع زمن التحولات العربية المباغتة؟ تبدو العودة الى الفترة التي عايشتها رائدة التيار النسوي العربي، شاقةً ومقلقةً إذا أجرينا مقارنة بين عصرها الذي شهد حراكاً نسوياً داخل مصر وخارجها، وبين أوضاع المرأة العربية في القرن الحادي والعشرين.

مبعث القلق يعود الى العودة الكثيفة للحجاب في العالم العربي منذ السبعينيات. النقاب الذي نزعته شعراوي بعد عودتها من روما يحضر اليوم بكثافة. ما يدفعنا إلى التساؤل ـــ في ضوء تلك الظواهر المستحدثة ـــ عن امكانية خروج المرأة العربية نهائيّاً من عصر الحريم، هي التي احتلّت الفضاء العام، وأماكن العمل ومراكز التعليم والفضائيات... هي التي نزلت الى الشارع في الربيع العربي، مثل شعراوي وزميلاتها في مصر أيام الاحتلال الانكليزي... كيف يمكنها تجاوز ما تسمّيه فاطمة المرنيسي «الحجاب الرقمي»؟
حالما تذكر هدى شعراوي، يسطع اسمها كأول سافرة. كرّست قواها للثورة المصرية التي طالبت باستقلال مصر عن الحكم الانكليزي. وقبل أن تخلع نقابها، استهلت نضالها السياسي بالنزول الى الشارع منقبةً بعد احتجاز سعد زغلول ورفاقه. لم يكن نزع النقاب جديداً. كانت ترفعه كلما سافرت الى أوروبا لحضور مؤتمر نسائي. لكنّها ذات مرّة أبقته مرفوعاً بعد عودتها. كانت تلك رسالة سياسيّة واجتماعيّة، تعلن ولادة عالم جديد.
الارستقراطية السافرة، رأت في النقاب أداة لاستعباد المرأة وتقزيم دورها الاجتماعي والسياسي. رأته أكبر عائق أمام مشاركة النساء في الحياة الفاعلة. دشنت الجيل الأول المؤسس للنسوية العربية الذي تابع مسيرته مع الرائدات النسويات اللواتي تعاقبن جيلاً بعد جيل ومن بينهن: نوال السعداوي، وفاطمة المرنيسي، وآمنة ودود، وألفة يوسف، وآمال قرامي، ورجاء بن سلامة...
في المرحلة التي عاصرتها، برزت أقلام نسوية مهمة في الصحافة والأدب والتاريخ، مثل نبوية موسى (أول امرأة تحصل على شهادة البكالوريا سنة 1907، وألفت كتاباً بعنوان «ثمرة الحياة في تعليم الفتاة»)، ودرية شفيق (لها الفضل في حصول المرأة المصرية على حق الانتخاب والترشح في دستور مصر عام 1956)... وتعدّ نظيرة زين الدين من أولى الكاتبات اللواتي قرأن التراث بعين نسوية في أطروحتها «السفور والحجاب» وعاصرت شعراوي التي شكرتها على كتابها قائلة: «إنه نداء حارّ لتحرير المرأة».
في 1923، أسست شعراوي جمعية «الاتحاد النسائي المصري» وضعت قانونه الأساسي. وبين 1924 و1926، رفع الاتحاد تقريرين الى رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس الشيوخ مطالباً بمنع تعدد الزوجات ورفع الظلم الذي يقع على المرأة بسبب «قانون الطاعة» ورفع سن الحضانة في حال افتراق الزوجين. وحضرت عشرات المؤتمرات المصرية والدولية. عملها النضالي، والسياسي والنسوي دفعها الى تأسيس مجلتين نسائيتين: واحدة بالعربية وأخرى بالفرنسية. كتبت مقالات في صحف عدة، وألّفت «عصر الحريم» الذي تروي فيه وضع المرأة المصرية بين 1880 و1924.
ولا بد من الاعتراف بأن زوجها علي شعراوي باشا، ساعدها في بلورة أفكارها السياسية خلال ثورة 1919 التي كان أحد قادتها. شاركت في قيادة تظاهرات السيدات عام 1919. الأجواء التي رافقت مسيرتها ساعدتها على نسج أفكارها التنويرية. كانت مصر تعيش آنذاك ذروة حراكها. المسألة لا تتعلق فقط بنزع الحجاب، بل إن صعود الاتجاه النسوي تزامن مع تفجّر الطروحات المطالبة بتحرير المرأة. ولعل قاسم أمين رسم معالم الانعطافات النسوية العربية التي سبقت الغرب. وأهمية هذه الحقبة أنها تقاطعت مع الارهاصات الفكرية المطالبة بالاستقلال والتحرر والمساواة.
بعد ستة عقود ونيف على رحيل شعراوي، ما الذي تغير بين الأمس واليوم؟ وهل استطاعت المناضلات العربيات خرق «الأبوية المستحدثة» كما يسمّيها هشام شرابي؟ والسؤال الأهم: لو كانت رائدة النسوية العربية على قيد الحياة في زمن الثورة المصرية، فماذا سيكون ردها على نتائج المرحلة الأولى من الانتخابات التشريعية في مصر؟ قد تكون التحولات التاريخية التي رافقت شعراوي أنضج من حقبة «الربيع العربي» على أهميتها. وهذه الردّة الدينية قد تكون موجة ارتدادية عابرة، لكن واقع العصر يملي على الحركات الإسلامية بوجهيها المعتدل والسلفي، أن تجري مراجعات جادة لخطابها حول المرأة... أما زال من الممكن، في الحياة السياسيّة الراهنة، التنظير لحقوق المرأة من خلال شعارات (ذكوريّة) ملتبسة.

ريتا فرج

مذكرات هدى شعراوي: شرق «عاطفي» وغرب «راقٍ»
 في «مذكّرات هدى شعراوي» (نشرت عام ١٩٧٦ بعد رحيلها بـ29 عاماً)، يأتينا صوت المرأة من خلف القبر. يترصد الكتاب محطات مختلفة من حياة امرأة كسرت قيود التبعية للرجل، فصارت رائدة من رائدات الحركة النسوية العربية. تستعيد شعراوي الطفولة، لكن خصوصاً وفاة والدها «كنت في الخامسة من عمري عندما وقع هذا الحدث الجسيم. توفي والدي المرحوم محمد سلطان باشا يوم 14 آب (أغسطس) 1884 في مدينة غراتس في النمسا». الانطلاق من الوفاة، ليس سوى مبرر للحديث عن الأصول. العائلة ذات الأصول الحجازية تنتمي إلى برجوازية الصعيد، والوالد تدرج في سلك الخدمة العمومية قبل أن يصبح أول رئيس للبرلمان المصري، والحاكم العام للصعيد رغم أنها تنفي الأمر في الكتاب، فالمرأة مشغولة بالدفاع عن ذاكرة والدها الذي يتهمه منافسوه بالخيانة وبيع مصر للإنكليز. على مر الصفحات، تستعيد طفولتها: «ختمت القرآن والكتابة ودراسة اللغة التركية والخط الرقعة والنسخ» قبل أن تستدرك بأنها لم تكن تكتفي بما يلقّنها إيّاه معلموها: «كنت أشتري من أمام الباب خلسة الكتب العربية من الباعة المتجولين، وكان ذلك محظوراً علينا. وكنت بفطرتي أميل للشعر».

شعراوي الطفلة كانت تعي منذ البداية أنها قريبة من المهمشين في المجتمع. لهذا، كانت تحب المربي («العبد») سعيد آغا: «كنت أحب سعيد لأنني كنت أشعر بحبه وإخلاصه لنا رغم ما يظهره من القسوة أحياناً». مذكرات شعراوي لا تغفل لحظة الزواج وهي طفلة. تتذكر أنّها رأت في عيون النساء لطفاً ستفهم بعد سنوات أنه كان شفقةً على حداثة سنها، وهي تساق إلى زواج مبكر. تتذكر حلوان، وكيف كانت مصيفاً للبرجوازية المقربة من البلاط، وكيف كانت النساء يتجوّلن فيها بكل حرية بعيداً عن قيود المدن الكبرى. كبرت الطفلة وصارت امرأة ناشطة ستحاول خلق رابطة أدبية للنساء. وحين ستفشل المحاولة الأولى «بقينا نتلمس كل فرصة لتوجيه اهتمام السيدات إلى الأمور الاجتماعية من خلال دعوتهن إلى معارض الفنون الجميلة».
في الكتاب، تتحدث شعراوي عن أسباب تخلّف الشرق ببعض القسوة. تقول: «تسامح الشرق ورقّة شعوره هما سبب تأخره واضمحلاله». شرق وجدت نقيضه في أوروبا وتحديداً في فرنسا. «دعيت إلى اجتماع نسائي تطالب فيه السيدات بمساواة المرأة مع الرجل في الحقوق والانتخاب. صرت أعتقد أن الأوروبيين وصلوا إلى درجة عظيمة من الرقي». رحلات شعراوي الأوروبية، تلقى صدى كبيراً في الكتاب، وخصوصاً زيارتها إلى عاصمة الأنوار باريس. أنوار نقلت بذرتها إلى مجتمع عربي كانت لا تزال نساؤه في ظلمة التبعية للرجل.

محمد الخضيري

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...