نحو موقف يساري تحرري من الحرب على غزة
يرفض اليساريون التحرريون أية مزاعم لضرورة تسلط أقلية أو نخبة ما بحياة الناس و يصرون أن الشكل الأمثل , الوحيد , لتسيير المجتمعات البشرية هو أن يقوم الناس أنفسهم بتنظيم حياتهم و اتخاذ القرارات التي تواجههم مباشرة عبر مؤسسات ديمقراطية قاعدية تقوم على التضامن و المشاركة العامة المباشرة و المساعدة المتبادلة على قدم المساواة بين الجميع بعد استئصال فعل الوقائع الاجتماعية و الاقتصادية المصطنعة التي تعطي الأفضلية لأقلية ما على بقية البشر , و أن يجري توزيع السلطة , أي سلطة اتخاذ القرارات التي تؤثر و تتحكم في حياة الناس , و الثروة الاجتماعية , و التي ازدادت صفتها الاجتماعية أي إنتاجها من معظم المجموعة البشرية العاملة بيدها أو بفكرها , باستثناء الأقلية الكسولة التي تعتمد على عمل و فكر الآخرين , مع تقدم و هيمنة نموذج الإنتاج الرأسمالي , أن يجري توزيعها بين البشر..إن هذا ليس ترفا , و ليس بغرض البحث عن إصلاح واقع سيطرة هذه الأقلية أو النخبة على حياة الناس و تحكمهم بها و توجيههم لهذا النشاط لصالحها , إنه ثورة على هذا الواقع و لصالح ضحاياه تحديدا..هكذا لا يمكن لأصحاب هذه المقاربة اليسارية التحررية للواقع مثلا أن يخدعوا لا بإدعاءات الممانعة التي تتصدرها أنظمة رأسمالية الدولة البيروقراطية و لا بإدعاءات مواجهة الأصولية التي تزعمها أنظمة استبدادية , إننا نرفض هذا الضجيج مرتفع النبرة عن أفضل السادة الذين يحق لهم دون الآخرين التحكم بحياة الناس و الاستيلاء على نتاج عملهم و فرض نموذج نهائي للأخلاق و للسلوك عليهم..بالعودة إلى الحرب ضد غزة التي تخوضها إسرائيل اليوم فهي ليست حربا بين معسكرين إقليميين , إنها بالتحديد جزء من الحرب التاريخية التي تخوضها لإلغاء الشعب الفلسطيني معنويا و ماديا منذ أكثر من ستين سنة , بحماية دائمة من الإمبريالية العالمية و بمشاركة متزايدة و مباشرة من النظام العربي الرسمي الذي يريد استئصال الشوكة الفلسطينية التي طالما كانت تكشف العجز التاريخي لهذه الطغم الحاكمة و تشكل عاملا دائما للتحريض ضدها , إننا نرفض أيضا أن يكون البشر , كما يريدهم "المقاومون" مجرد شهداء "بالملايين" ضحايا لا حساب لأعدادها أمام أولوية دوغما أو عقيدة أو حتى فكرة الصمود نفسها , إننا نرفض هذه "المقاومة" التي ترى الناس فقط وسيلة لانتصار العقيدة أو الدوغما تهون لأجلها حياة و تضحيات كل هؤلاء البشر , بل إن هؤلاء البشر , حياتهم و حريتهم و سعادتهم , هي جوهر القضية , و القضية هي في تحويل العالم ليكون أكثر جمالا , أقل قبحا , أكثر حرية , لهؤلاء الناس تحديدا , عالم يكفل أفضل تحقق ذاتي لكل إنسان بأقصى ما يمكن من حرية , الناس ليسوا وقودا لحروب الأصوليات أو الدوغما , إنهم جوهر القضية , إن حريتهم هي جوهر القضية , لا داعي للسؤال عن الطرف الذي يقف اليسار التحرري إلى جانبه في هذه الحرب : الناس , الناس العاديين , لا أي ممن يدعون أنهم سادة أفضل أو ينسب إليهم هذا الفضل من قبل النخب المثقفة..و إننا كما نرفض محاولة تقديم سلطة رام الله على أنها أفضل السادة الممكنين للشعب الفلسطيني نرفض أيضا الزعم بأن سلطة حماس هي أفضل هؤلاء السادة , إننا نرفض أن يكون من حق سلطة رام الله أن تعتقل خصومها و تعتبر من حقها أن تكمم أفواه الناس و أن تحمي الفساد الذي يمارسه كبار موظفيها , و نرفض أن يكون من حق سلطة غزة أن تعتقل خصومها و تكمم أفواه الناس و تعتبر أن من حقها أن تجلد الناس لما تراه "جرائم تستحق إقامة الحد أو الجلد" , من المؤكد أن سلطة رام الله و غزة لا تقفان على نفس الدرجة , من المؤكد أن الفساد المستفحل في حكومة رام الله و "الدلال" المادي و المعنوي الذي تحظى به أمريكيا و إسرائيليا و من النظام العربي الرسمي لإخلاصها "غير المحدود" لخيار "السلام" لا تشكو منه سلطة غزة بنفس الدرجة رغم أنها تحولت بسرعة إلى بيروقراطية حاكمة ورغم أن الفساد نفسه أخذ التغلغل في جسد سلطتها ذات السرعة , لكن سلطة حماس في غزة فرضت نفسها على الشارع الفلسطيني , و ليس فقط على سلطة رام الله التي اختفت من القطاع بمجرد انهيار أجهزتها الأمنية , بقوة السلاح و مارست سلطتها عليه بقوة السلاح و أقامت معتقلاتها الخاصة و ردت بالسلاح على أي تحدي لسلطتها من أية أقلية قادرة ذات نفوذ هام ( عائلة حلس و دغمش ) , هناك بالتأكيد وجوه للمفاضلة بين هذين السيدين , لكننا نرفض أن تكون السلطة الأمثل للشعب الفلسطيني تفترض وجود سادة سواء في رام الله أو في غزة , الوحيد الجدير بأن يكون سيد نفسه هو الشعب الفلسطيني نفسه , الفلسطينيون أنفسهم , السلطة الوحيدة التي تستحق مثل هذا اللقب , هي السلطة التي يتولى فيها الفلسطينيون أنفسهم زمام أمورهم عبر مؤسسات قاعدية ديمقراطية من الأسفل إلى الأعلى يمارس فيها كل فلسطيني الإشراف و المشاركة المباشرين في اتخاذ كل القرارات التي تتحكم بحياته..أما فيما يتعلق بالدين ( و في النهاية أية دوغما أخرى على قدم المساواة ) , فإن الديمقراطية المباشرة التي تتمحور حول الإنسان , كما يقول بها اليسار التحرري , ترفض أية تقييدات اصطناعية على حرية كل إنسان في التفكير و التعبير , و بالتالي فإن الحرية الدينية للجميع حق يستمد من واقع إنسانية كل إنسان و من واقع المساواة بين البشر , الشيء الوحيد الذي لن يتمكن الدين من أن يمارسه هو أن يكون أساسا لسلطة أية أقلية على الآخرين أو لأية امتيازات على حساب المجموع....
مازن كم الماز
الجمل
إضافة تعليق جديد