مهمة الديمقراطيين في الانتخابات الأمريكية
يخطئ من يعتقد أن مهمة الحزب الديمقراطي في الانتخابات الفدرالية الأميركية المقرر عقدها في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2006 هي مهمة سهلة، فتدني شعبية الإدارة الأميركية والجمهوريين في الفترة الحالية لا تمثل في حد ذاتها ضمانة كافية لفوز الديمقراطيين بالانتخابات خاصة إذا علمنا أن التحدي الانتخابي الحقيقي الذي يواجهه الديمقراطيون حاليا هو تحد قديم تعود جذوره لأكثر من ثلاثة عقود.
تحدي الديمقراطيين الحقيقي نابع من تآكل قواعدهم الجماهيرية الانتخابية والتي كانت تعتمد تقليديا على أربع كتل انتخابية رئيسية، وهي المثقفون الليبراليون والعمال والكاثوليك والأفارقة الأميركيون، وقد ساهمت تغيرات ديمغرافية وأخرى سياسية عديدة اجتاحت المجتمع الأميركي منذ أوائل السبعينات في إضعاف تحالف الديمقراطيين مع كتلتين من الكتل الأربعة وهما العمال والكاثوليك.
التطور التكنولوجي وانتقال أميركا من اقتصاد التصنيع إلى اقتصاد الخدمات ثم إلى اقتصاد المعلومات أضعف من ثقل الجماعات العمالية وتحالفاتها ونقاباتها، كما شعر العمال البيض بمرور الوقت أن النخب الليبرالية الحاكمة لا تختلف كثيرا عن نظيرتها الجمهورية في نخبويتها وفي حرصها على اجتذاب الأثرياء والتعبير عن قضاياهم على حساب أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
كما شعرت الفئات ذاتها بأن خطاب النخب السياسية الليبرالية خطاب معقد متعال يهتم بقضايا -مثل البيئة والحقوق المدنية وحقوق الإنسان- بعيدة عن اهتمامات المواطن الأميركي العادي.
كما شعر بعض البيض من أبناء الطبقتين الفقيرة والمتوسطة بأن اهتمام الليبراليين المتزايد بالحقوق المدنية جاء على حسابهم، ودفعهم إلى تقديم تنازلات متتالية في الوقت الذي يخضعون لظروف البطالة والاقتصاد الأميركي المتحول.
وفي ظل هذه الضغوط مال مزيد من البيض من أبناء الطبقتين الفقيرة والمتوسطة لأجندة الجمهوريين المحافظة أخلاقيا واجتماعيا والتي ألقت بعبء البطالة والمعاناة الاقتصادية على المهاجرين والأقليات وعلى المنافسة الدولية المتزايدة.
أما الكاثوليك وغيرهم من النخب الليبرالية المحافظة أخلاقيا فقد قلت مساندتها التقليدية للحزب الديمقراطي تدريجيا بسبب ميل الديمقراطيين المتزايد لترويج أجندة اليسار الجديد على المستوى الأخلاقي، وهي أجندة أفرطت -من وجهة نظر الديمقراطيين المحافظين- في تحدي أخلاق المجتمعات الغربية التقليدية من خلال مساندة قضايا كحقوق الإجهاض والشواذ.
الأسباب السابقة دفعت العمال والليبراليين المتدينين للابتعاد تدريجيا عن الحزب الديمقراطي ولهجرة المدن الكبرى والشمالية الشرقية حيث تتركز النخب الليبرالية بأجندتها الليبرالية والانتقال للعيش في الأرياف والمناطق النائية والجنوبية والتي مازالت محافظة على بعض الأخلاق الغربية التقليدية.
وهناك وقعت تلك الفئات فريسة لمشاعر الاغتراب عن الحزب الديمقراطي ولأجندة الحزب الجمهوري والتي مالت للتدين ولرفض ثورة الحقوق المدنية وللوم المهاجرين والأجانب على المعاناة الاقتصادية المتزايدة للطبقة الأميركية المتوسطة.
وبهذا اقتصرت قواعد الديمقراطيين الانتخابية على تحالف نحيف يضم النخب الليبرالية المثقفة والأفارقة الأميركيين وبقايا الجماعات العمالية والليبرالية المحافظة، لذا وضع الديمقراطيين أمالا متزايدة على الأقليات وإمكانية انضمامهم للحزب وتعويضه عن الناخبين البيض الذين فقدهم الخاصة, خاصة وأن الديمقراطيين يشتهرون بمواقفهم المساندة للفقراء وللمهاجرين وللأقليات وأن أميركا تفتح أبوابها سنويا حاليا لحولي 1.2 مليون مهاجر.
ولكن نمو الأقليات وزيادة مشاركتهم السياسية أمر يحتاج لفترة زمنية طويلة، كما أن الحزب الجمهوري دخل بقوة مجال التنافس على اجتذاب الأقليات، وذلك لأنه يمتلك زمام وبريق السلطة حاليا ويحاول الاستفادة من هذه السلطة في ضم مزيد من القوى والجماعات إليه.
ومن الواضح أن الجمهوريين استفادوا من التحولات الكبرى السابقة في بناء قواعدهم الانتخابية حيث فتحوا أبوابهم أمام البيض الذين شعروا بالاغتراب عن أجندة الحزب الديمقراطي لأسباب مختلفة، كما استفادوا من الصحوة الدينية المتزايدة بالمجتمع الأميركي منذ السبعينيات، والتي جاءت -في جزء منها- ردا على تطرف أجندة الليبراليين العلمانية.
ورفع الجمهوريون شعارات الأخلاق التقليدية المحافظة، والخوف من الأجانب، ورفض ثورة الحقوق المدنية، كما وثق الجمهوريون تحالفاتهم الجديدة عن طريق تقوية صلاتهم بأثرياء الجنوب المعنيين بخفض الضرائب وبالنخب المثقفة المحافظة التي تميل للعزلة وللحد من نمو الحكومة الفدرالية وبالمحافظين الجدد المعنيين بالسياسية الخارجية بالأساس.
كما استفاد الجمهوريون خلال السنوات الأخيرة من زيادة اهتمام الأميركيين بقضايا الأمن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وهي قضايا قوت مشاعر الأميركيين المنادية بالعزلة وغلق الباب أمام الأجانب، والمحافظة على التقدم الأميركي على بقية بلدان العالم في المجالات المختلفة بما في ذلك المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
كما سعى الجمهوريون -بنجاح في أحيان كثيرة- لتصوير النخب الديمقراطية على أنها نخب ناعمة غير قادرة على حماية الشعب الأميركي وفرض الإرادة الأميركية على العالم خاصة وأن الديمقراطيين -كما يصورهم الجمهوريون- يفرطون في نقد الذات والتراث الغربي والسياسات الأميركية وكأنهم باتوا مشغولين بنقد أميركا وسياستها أكثر من انشغالهم بمقاومة أعداء الولايات المتحدة.
في مواجه التحدي السابق وجد الديمقراطيون أنفسهم منذ الثمانينيات أمام خيارين أولهما التوجه نحو اليمين لاجتذاب القوى الجماهيرية اليمينية متزايدة النفوذ كالمتدينين، وذلك من خلال اهتمام الديمقراطيين المتزايد بالحديث عن الدين والقيم التقليدية والأسرة وعدم الإفراط في الحديث عن قضايا الإجهاض وحقوق الشواذ والحقوق المدنية ومعارضة النزعة العسكرية الأميركية.
حيث يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الديمقراطيين لن يتمكنوا من الوصول للسلطة الفدرالية إلا إذا استطاعوا أن يجتذبوا نسبا أكبر من الناخبين المتدينين (كالناخبين الإنجليكيين الذين وصلت أعدادهم في انتخابات عام 2004 إلى 28 مليون ناخب، والناخبين الكاثوليك المتدينين الذين بلغ عددهم في الانتخابات ذاتها تسعة ملايين ناخب).
في المقابل يرى آخرون أن تحرك الحزب الديمقراطي نحو اليمين لن يعود عليه إلا بالخسارة، فسوف يفقد الحزب طبيعته الليبرالية العلمانية، كما أن الديمقراطيين لن يتمكنوا من إرضاء الناخبين اليمينيين المتدينين في القضايا الأخلاقية وسيظهرون في النهاية بصورة المنافق والذي يسعى للتلون الكاذب من أجل أغراض سياسية انتخابية.
وفي المقابل يرى هؤلاء أن الحزب الديمقراطي يحتاج لإستراتيجية جديدة تقوم على تنشيط قواعد الحزب الديمقراطي الانتخابية في الولايات وفي المدن المحلية من أجل الوصول إلى الطبقات الفقيرة والمتوسطة وتوعيتها بأجندة الديمقراطيين الحقيقية المعنية بقضايا كالاقتصاد والتعليم والصحة والضمان الاجتماعي والحريات المدينة.
مشكلة التوجه الثاني هي أنه بعيد المدى ومكلف يحتاج لرؤية وقيادة جديدة ومثابرة على فترة طويلة من الزمن، وأنه قد لا يسعف الديمقراطيين في الانتخابات المقبلة أو في السنوات القليلة التالية لها.
وحتى الآن لا يبدو أن الديمقراطيين قد توصلوا لحل نهائي يجمعون عليه لعلاج هذا الانقسام المحوري، فالمعروف أن الرئيس الأميركي الديمقراطي السابق بيل كلينتون هو من المؤيدين لتوجه الحزب الديمقراطي نحو اليمين والوسط من أجل اجتذاب الناخبين المعتدلين من أبناء تلك التوجهات.
وقد نجحت إستراتيجية كلينتون في منحه الرئاسة الأميركية لفترتين متتاليتين في التسعينيات، ولكنها لم تسعف الديمقراطيين -خلال الفترة ذاتها- في الفوز بأغلبية مقاعد الكونغرس والتي استمروا في خسارة المزيد منها منذ عام 1994.
ومن المعروف أيضا أن هوارد دين رئيس اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي هو من أنصار المذهب الثاني، وأن دين -عندما رشح نفسه في انتخابات عام 2004 الرئاسية- تبنى أجندة يسارية معادية لحرب العراق بوضوح، كما رفع دين شعار أنه ينتمي "للجناح الديمقراطي من الحزب الديمقراطي" في إشارة إلى عدم مهادنته مع قوى اليمين والوسط وإلى انتمائه القوي لأجندة يسارية ليبرالية.
ويقول البعض إن فشل دين في الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة الأميركية السابقة كان بسبب عدم رضا قادة الحزب الديمقراطي أنفسهم عنه، حيث شعر هؤلاء بأن خطاب دين يساري متشدد، وفضلوا عليه شخصا مثل السيناتور جون كيري والذي صوت لحرب العراق ولكنه عارض أسلوب الإدارة في إدارة الحرب.
حيث رأت نخب الحزب الديمقراطي أن خطاب كيري أكثر اعتدالا وتوسطا، خاصة وأن كيري أكد في خطابه الانتخابي على "القيم" وأهميتها في حياته وتصرفاته السياسية، ولكن حديث كيري عن القيم لم يسعفه. وفشل في الحصول على تأييد الشعب الأميركي بمن في ذلك الناخبون المعنيون بقضايا القيم والأخلاق والذين فضلوا جورج دبليو بوش عليه بفارق كبير، في المقابل نجح الجمهوريون في تصوير كيري على أنه قائد متردد وأنه مجرد صدى لموقف الجمهوريين القوي بخصوص قضايا الأمن والأخلاق.
في فبراير/شباط 2005 انتخب الديمقراطيون هوارد دين لرئاسة اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي، ومنذ انتخابه -والذي جاء في جزء منه ردا على فشل جون كيري مرشح النخب الديمقراطية المسيطرة في انتخابات 2004 الرئاسية- عمل دين على وضع خطة إستراتيجية لتنشيط قواعد الحزب عبر مختلف الولايات الأميركية، وهي خطة ينتقدها بعض الديمقراطيين لأنها تعطي اهتماما متساويا للولايات الأميركية المختلفة، ولا تركز بشكل كاف على الدوائر الانتخابية التي يتنافس فيها الديمقراطيون مع جمهوريين ضعفاء قابلين للهزيمة، كما يرى البعض أن خطة دين إيجابية على المدى البعيد ولكنها قد لا تسعف الديمقراطيين على المدى القريب.
ويخشى هؤلاء من أن خطة دين وتفرق الديمقراطيين وعدم اتحادهم خلف قيادات مركزية -كما هو الحال لدى الجمهوريين- قد لا يساعدهم على الفوز بالأغلبية في الانتخابات المقبلة حيث ينبغي على الديمقراطيين لكي يحققوا ذلك أن يحافظوا على جميع مقاعدهم الحالية بمجلس الشيوخ والنواب مع الفوز بستة عشر مقعدا إضافيا بمجلس النواب وبستة مقاعد إضافية بمجلس الشيوخ.
في المقابل يتمتع الجمهوريون بقيادة مركزية واضحة تتمثل في البيت الأبيض ومن خلفه قيادات الجمهوريين بالكونغرس، كما يتمتعون بقواعد جماهيرية قوية تتمثل في جماهير الكنائس اليمينية، كما يتمتعون بإعلام يميني قوي وبمساندة أثرياء الحزب وأقلام المحافظين الجدد وقدرتهم غير المحدودة على الجدل.
ولكن الجمهوريين أضعفوا أنفسهم بسبب أخطائهم السياسية وعلى رأسها العراق، وبسبب قلة ما أنجزوه على الساحة الداخلية خلال سنوات سيطرتهم على الكونغرس بمجلسيه وعلى البيت الأبيض معا، وبسبب خطاب بعض قادتهم المتطرف والذي أخاف الأقليات والجماهير الليبرالية المعتدلة، وبسبب تفرق عدد من أكبر قادتهم من حول الرئيس وإدارته، حيث يخشى هؤلاء من أن استمرار ارتباطهم بسفينة الإدارة الأميركية المحملة بالأعباء والأخطاء سوف يضعف من موقفهم في انتخابات عام 2008 الرئاسية.
أخطاء الجمهوريين ومشاكلهم العديدة دفعت البعض للقول إن الديمقراطيين سوف يفوزون بالانتخابات المقبلة بشكل لا محالة فيه حتى ولو دخلوا الانتخابات بأجندة تقتصر على ما ارتكبه الجمهوريون من أخطاء.
ولكن هذه الرؤية يعيبها إغفال حقيقية هامة وهي أن الديمقراطيين يحتاجون بشكل قاطع لقواعد انتخابية تضمن لهم هذا الفوز، وأن قواعد الديمقراطيين الانتخابية تعاني منذ فترة ليست قصيرة، وهذا يعني أن مهمة الديمقراطيين في الانتخابات المقبلة لن تكون بالسهولة التي يتصورها البعض.
علاء بيومي
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد