مصائر المسيحية العربية
لا تحتاج الكتابة عن المسيحية العربية ومصائرها الى سببٍ خاص. فالموضوع شديد الأهمية في الزمان المعاصر. ومع ذلك فإن للكتابة في الموضوع اليوم سببه الخاص فعلاً. فقبل خمسة أيام، وكنا في خضم الاهتمام بما يجري في فلسطين ولبنان، قرأت في صفحةٍ داخليةٍ لإحدى الصحف اللبنانية خبراً صغيراً عن مقتل مسيحي أشوري في كركوك بشمال العراق. ولأن الخبر جاء في يومٍ قُتل فيه أربعون عراقياً آخر في مناطق مختلفةٍ من العراق، فما بدا الخبر باعثاً على الكثير من الدهشة أو الاستنكار. والواقع أن تضاؤل الاهتمام بالمسيحيين العرب ومصيرهم يعود الى أسباب عدة: الاختلال الكبير الذي طرأ على الاجتماع العربي في شكلٍ عامٍ بحيث بدا التراجع المسيحي وجوداً وحضوراً وتأثيراً إحدى الظواهر المؤسسية لكن العادية من ضمن التردّي العامّ. والسبب الآخر صعود التيارات الإسلامية المتشددة، وهذه أثرت في جهتين، في جهة اعتبار المسيحية عملاء الغرب في مرحلتها التأصيلية المُعادية للغرب والغريب، ولجهة النبذ والتكفير في مرحلتها السلفية الطهورية. أما السبب الثالث، فهو فقد الاقتناع من جانب المسيحيين العرب وفئاتٍ اجتماعيةٍ أخرى بالوجود والمستقبل، ويحدث ذلك توتراً شديداً في تحديد الأدوار والمصائر من جهة، وفي الإعداد للرحيل والهجرة وفي المدى الطويل من جهةٍ ثانية.
ولا يمكن في هذا الصدد تعزية النفس بأن الاجتماع العربي مأزوم كله. فهناك وجوه كثيرة للأمة ذات أبعادٍ عالميةٍ أو عولمية. فقد تغيرت العلاقات والتوقعات والأفكار والممارسات، وبخاصةٍ لدى الفئات الاجتماعية الأكثر تعلماً والتي تؤدي أدواراً صغرت أو كبرت في الحياة العامة في الوطن العربي. ولذلك فهناك أفهامٌ مختلفةٌ أو متنوعةٌ للعلاقة بالعالم داخل الأكثرية الإسلامية ذاتها، كوجهٍ من وجوه التغير. وعلى سبيل المثال: فإن صاحب المكتب الهندسي الذي يرسل ابنيه للدراسة في الخارج، قد يعود الاثنان أو أحدهما الى بلد والدهما بعد اكمال الدراسة، في حين لا يعود الشاب المسيحي العربي الذي أكمل تعليمه في الخارج في 70 في المئة من الحالات، حتى لو كان والده صاحب موقعٍ مقبولٍ في الحياتين الاجتماعية والعملية. وما أقصده أن الأزمة الناجمة عن التغير في الواقع والتوقعات ورياح العصر ليست كافيةً لتعليل تضاؤل المسيحيين العرب وجوداً وأدواراً واقتناعاً بالمصائر المشتركة أو بالعيش المشترك الذي يتخذ منه اللبنانيون شعاراً منذ عقودٍ وعقود، وان يكن قدرٌ كبيرٌ من هذا التغيير قد نالهم منه نصيبٌ طبعاً، وقبل أن ينال من رصفائهم المسلمين.
لقد عرف المسيحيون العرب (اللبنانيون والفلسطينيون على الخصوص) الغرب العلمي والغرب الاقتصادي والغرب الثقافي والديني، قبل المسلمين بشكلٍ عام. وقد لعب ذاك الغرب (في القرنين التاسع عشر والعشرين) دوراً كبيراً في الميزات التفاضلية – بلغة رجال الأعمال - التي نافسوا بها، فنمت تطلعاتهم، وبدوا بصورة أصحاب المشروع المتعلق بالهوية من جهة، وبالتقدم من جهةٍ ثانية، ولذلك فقد كان هناك نوعٌ من التوازن في حركتين: لجهة الهجرة، ولجهة العودة والاستتباب. وقد بلغ الاقتناع بذلك لدى الدارسين حدود اعتبار الإرساليات الدينية (التي قسمت المسيحيين العرب والمشرقيين في الواقع والوعي) ظاهرةً ايجابيةً باعتبارها ناشرةً لثقافةٍ أرقى مفيدة للمسيحيين والمسلمين على حدٍ سواء.
بيد أن الغرب عانى في الوعي والواقع من انتكاستين بعد الحرب العالمية الثانية. الأولى سياسية واستراتيجية، تمثلت في قيام دولة اسرائيل على أرض فلسطين، ووقوف الغرب الثقافي والسياسي (وبعض الديني) معها مما وضع العربَ في مواجهتها ومواجهته. وقد أثّر ذلك في المدى المتوسط في الوعي بثقافة التقدم المرتبطة بالغرب، وثقافة الحرية وثقافة الديموقراطية. والثانية ثقافية وأخلاقية، وتتمثل باستعلاء وعي الهوية والخصوصية لدى تيارات الإحياء الإسلامي. والطريف أن الإحياء (وهو غير الإصلاح بل هو مناقضٌ له) نال أيضاً قسطاً من وعي المسيحيين الأرثوذكس والأقباط على الخصوص فانصرفوا للدفاع عن بُناهم التقليدية وتجديدها، واتجهوا بشيءٍ من الخصوصية تُعين على الصمود. وعلى أي حال، وكما سبق القول، تراجع المشروع العربي في زمن الإحياء الإسلامي، ومع تراجعه تراجعت فكرة التقدم والتحديث التي كانت نُخبُ الأربعينات والخمسينات تعتنقها، وجرى النظر الى ذلك كله من الحكام الاشتراكيين، ومن الإسلاميين الصاعدين باعتباره استعماراً وامبريالية، ويتضمن ذلك أنماط الحكم والتنظيم الاجتماعي، والتي اعتُبرت امبريالية جديدة، قاسية القلب تجاه الفئات الاجتماعية الأكثر عقلانيةً وحباً للتعامل مع الغرب. ومع الحكام العرب الاشتراكيين، ومع الإسلاميين، على حدٍ سواء، لا يمكن دائماً التمييز بين ما هو مقصودٌ حقاً وفعلاً، وما هو مقصودٌ للإعلام والدعاية. لكن كان من حق فئاتٍ مسيحيةٍ عدةٍ أن تعتبر نفسها غير مرغوبٍ فيها من جانب الحكام (المقبلين على التأميم وعلى تقييد الحريات الشخصية والسياسية أو الغائها)، ومن جانب خصوم هؤلاء الحكام من الإسلاميين الذين اتهمومهم بالتغرب تارةً وبالكفر والعداوة تارةً أخرى. وما كان مشروع العروبة، ولا كان مشروع التقدم مشروعاً خاصاً بالمسيحيين العرب، بل كانا مشروعين عربيين عامين. لكن عندما خسر المشروعان أو تراجعا، كان المسيحيون العرب الأكثر تعرضاً للضغط والانحصار وضيق سُبُل العيش والتدبر. ولذلك بدأت موجةٌ جديدةٌ من الهجرة في ستينات القرن العشرين، والستينات تلك هي عقدُ الصراع بين الحكام والإسلاميين، واشتداد الحرب الباردة، وظهور أطروحة الدولة الإسلامية التي تطبّق الشريعة والاشتراكية ذات الوجه العربي أو التطبيق العربي للاشتراكية.
ولدينا السبب الثالث، وقد يكون الأهم، فبالإضافة الى التضييق السياسي والاقتصادي والديني، ظهر احساسٌ قويٌ باللاجدوى أو بعدم جدوى التشبث بالانتماء العربي ما دام ذلك لا يستتبع مشروعاً، ولا يجنّب التأزيم، ولا يؤدي الى المشاركة أو الإرضاء. فالإسلاميون – وهم في الأصل انشقاق – لا يفهمون الفئات الاجتماعية الأخرى المسلمة التي لا تفكر مثلهم، فكيف تريدهم أن يفهموا ما يريده المسيحيون العرب وما لا يريدونه؟! والضباط الاشتراكيون الذين سيطروا على الدولة في الستينات والسبعينات، سُرعان ما ضيّعوا المشروع، وصارت السلطة والاحتفاظ بها بالنسبة اليهم هدفاً بحدّ ذاته. وبذلك تكوَّنت علاقات زبائنية مع الفئات الاجتماعية، كأنما صار المجتمع أو الفئات الأفضل حالاً فيه مضطرةً لرشوة المتسلطين أماناً وحمايةً وكي تتمكن من الاستمرار. وهكذا نشأت احساسات ونشأ وعيُ اللاجدوى، وصار الهمُّ كيف يمكن الخلاص بأقل تكلفةٍ ممكنة، فبدت الهجرةُ هدفاً عزيزاً لفئات عدة اجتماعية تمتلك الحركية والقدرة على استجلاب التسهيلات اللازمة لذلك.
تضاءلت أدوار المسيحيين العرب السياسية والاقتصادية في سائر بلدان المشرق العربي. وكانوا يشكّلون حوالى العام 1955 نسبةً تتراوح بين 15 و 20 في بلدانٍ عربية عدة، وهم الآن لا يشكلون أكثر من 10 في المئة. وتكاد المسيحية تختفي من العراق خلال جيل، أما في فلسطين فخلال جيلين على الأكثر. ويعرفُ التاريخ أن المجتمعات العربية وخلال العصور الإسلامية كلها، ما كانت مجتمعاتٍ أوحدية، بل ظلت تعددية دينياً وثقافياً. وقد كان القوميون العرب اندماجيين لا يقبلون التعددية، والإسلاميون أفظع منهم لهذه الناحية. واذا كانت الإرساليات الدينية الغربية قد قسمت المسيحية واستلحقتهم بالديانات في الغرب، فإنّ القوميين والإسلاميين وبوعيٍ أو من دون وعيٍ سعوا الى إنهاء التمايزات من أي نوع. بيد أن التعددية ما انتهت بل تحولت من ظاهرة وممارسة تاريخية، الى انقسامات بدأت سياسيةً وانتهت اجتماعية واثنية ودينية. واذا كان ذلك يهدّد المسيحية العربية وجوداً ومصائر، فإنه أيضاً يطرح أسئلةً مصيريةً على الإسلام العربي والمسلمين العرب وسط ما يحدث في العراق وفلسطين ولبنان وسورية. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
رضوان السيد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد