مدرسة فرانكفورت؛ أو الانتباه لفجوات العقل الحديث.

_بدءاً..

يمكن القول إن مدرسة فرانكفورت هي حلقة انتباه نظري واستشكالي مهمة جدا، انتبهت إلى أن عملية السيطرة التي بدأها العقل الحديث ضد الطبيعة، انتهت في الأخير إلى محاولة السيطرة على الإنسان، فالمدرسة التي أطلق اسمها على معهد العلوم الاجتماعية الذي تم تأسيسه سنة 1923 من طرف مجموعة من النشطاء الماركسيين الذين تجمعهم اهتمامات مشتركة تتراوح بين الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والنقد الثقافي، وتتوزع كتاباتهم حول العقلانية والحداثة، والفرد والسيطرة، والتقنية والتواصل والاعتراف، والفن والموسيقى… حيث يقسم الباحثين مسار هذه المدرسة الى ثلاثة حقب، لكل واحدة روادها واشكالياتها الخاصة، فـالمرحلة الأولى التي ابتدأت من سنة تأسيس المدرسة انصبت اهتماماتها على ضرورة إحياء البعد النقدي للنظرية الماركسية التي تحولت في نظرهم الى أرثوذكسية جامدة وكان من روادها: ماكس هوركهايمر، وثيودور أدورنو وهربرت ماركوز” وايريك فروم و والتر بنيامين، ثم يورغن هاربرماس في مرحلة ثانية، وإلى حدود أكسيل هونيت وسيلا بنحبيب كممثلين للجيل الأخير للمدرسة.


نقد الطابع الأسطوري للتنوير.

1. ابتدأت مدرسة فراكفورت زخمها النقدي، بتوجيه سهام النقد نحو المشروع الأنواري، وخصوصا ما ادعاه من سيادة وعقلانية، ورغبة جامحة في التقدم، فالتنوير كمشروع كان مقرونا بالتقدم، ومستندا على الإيمان المطلق بنمط معين من العقلانية ظُنَّ أنها هي العقل، ما جعل المشروع الأنواري يسقط في نوع من الأسطورية الجديدة، قائمة على أقنمة العقل، العقل بمعناه الاحتكاري والاستحواذي لا على الطبيعة فقط، بل على الإنسان أيضا، فالسيادة الأداتية على الطبيعة وخيراتها، ذاك الشعار القديم، صار سيادة على الإنسان وإهدار له، تحويله إلى مذخرات وأداة سلب، بل صار وبحكم هذه النزعة العقلية التكميمية المفرطة رقما في معادلات رياضية، حيث تم تحويل كل مجالات الحياة الإنسانية إلى معادلات رياضية؛ فالتنوير الذي كان محاولة خروج من الأسطورة وتحررا منها، هو بنفسه ليس سوى أسطورة لها طوباوياتها، والتي لا تقل فجاجة عما كانت تقاوم، فالتنوير والبرجوازية واللبرالية والعقل، هي ذات جذور أشد غوصا من ذاك التحقيب الذي يجعلها شرارة مستجدة، وليدة، غرضها الخروج من قصور وظلام العصور الوسطى. 

2. استقى التنوير جوهر مادته من الأساطير مع أنه كان يريد القضاء عليها، وحين مارس وظيفة الحكم ظل واقعا أسير سحرها فالتنوير لم يتخل عن الأساطير، وإنما عمل على خلق أساطيره الخاصة به، وأكبر هذه الأساطير هو التقدم العلمي، والسيطرة على الطبيعة وعلى الإنسان، ولم يكتف التنوير بذلك، بل جعل من الأسطورة محركا للتنوير. إن الأسطورة تنجز التنوير، والتنوير في كل خطوة يغرق أكثر فأكثر في الأسطورة. على الرغم من نقد مدرسة فرانكفورت للعقل الأنواري، وخصوصا النص الذي اقتبسنا منه سلفا، وهو نص جدل التنوير هوركهايمر وأدرونو، فالتوجه الخاص هنا ليس هدما للتنوير ولا تعارضا جذريا معه، بل هو أقرب ما يكون للتقويم النقدي له، تقويم لعقلانية أداتية بعقلانية أوسع وأشمل وأكثر انتباها وحذرا، وبجرعات نقدية وتقويمية عالية.

النزعة الوضعية كروح للعصر.

1. لم تكن الوضعية بمنأى عن التوجه التشييئي الاختزالي للمعرفة وللإنسان، بل لتصحيح هذه العبارة يمكن القول أنها كانت روح هذا التشييء، فالوضعية في صلبها هي توجه نظري يقف فقط عند حدود التجريب وترتيب الوقائع وتصنيفها، والإعلاء من الموضوعية قصد كشف القوانين والتنبؤ بمجرى الظواهر، ثم التقسيم المنهجي بين الذاتي والموضوعي، في إقصاء للأول وإعلاء للثاني . من هنا سيتم توجيه نقد حاد من طرف مدرسة فرانكفورت نحو الوضعية وتبيان تهافتها، من خلال الكشف عن كونها تُعامل البشر على كونهم أرقاما وظواهر في تعاطي من الحتمية الميكانيكية دونما وعي بالطبيعة الإنسانية المتجاوزة لهذه الحتمية، وأن الإنسان أعقد من أن يُنظر له كظاهرة فيزيائية أو اجتماعية أو اقتصادية، فرقمنة الإنسان وتشييئه بالمعني الكمي والميكانيكي هو نزوع عدواني نحوه، مع الإشارة إلى كون نقد النزعة الوضعية  ليس مستجدا على المدرسة، بل يتوفر في طيات جذورها الماركسية، فماركس لطالما عبر عن نقد لاذع لهذه النزعة، خصوصا في امتداتها داخل الاقتصاد السياسي، فالاقتصاد الوضعي كان مجالا خصبا لهذه النزعة التكميمية كما يعرضها هذا النص المقتبس الذي يطرحه ماريو هيرش المحال عليه سلفا: «هنا ستظهر كيف تتمثل العقول الصغيرة والاقتصاديون المبتذلون هذا لأنه في أدمغتهم ينعكس فقط الظهور الفوري الآلي لظاهر الحقائق ولا تنعكس في عقولهم تماسكها الداخلي»، هذا الطابع الساخر الذي يحلل به عقول المفكرين انطلاقا من نزعة وضعية اختزالية وسطحية، سيتسلمه مفكري مدرسة فرانكفورت، غير أن المعطى الذي سيتغير هو أن هذه النزعة وخصوصا في النصف الأول من القرن العشرين ستتعاظم بشكل أكبر بكثير بالمقارنة مع أواخر القرن التاسع عشر كما نظر لها ماركس.

جدل الواقع، أفاق أرحب للنقد.

1. لا يعتبر هربرت ماركيوز إنّ التقدم التقني وحده كافٍ لتحرر الانسان من السيطرة، وما يسمى بالتغيير السياسي والاقتصادي لم يعد كافيا اليوم، لذلك يضيف ماركوز على ذلك أموراً أخرى، من قبيل اعادة تنظيم البنية الغريزية للإنسان والتي يقصد بها ضرورة إيجاد تغيير جذري في دوافع وحاجات وغرائز الإنسان، لأن التحول الذي يتم على هذا المستوى يعتبر عاملا ومؤشرا على تغيير وضع الإنسان المعاصر وتحريره من السيطرة؛ وإذا كان فرويد في تحليلاته قد اعتبر قمع الغريزة الجنسية عاملا ضروريا لقيام الحضارة، وأنها يمكن أن تستقل عن الشروط الاقتصادية والاجتماعية، فإن ماركوز يعتبر أنه يمكن للإنسان أن يُطلق الحرية لغرائزه دون أن يعني ذلك توقف مسار الحضارة، وعلى هذا الأساس فإن الحرية الجنسية التي يعنيها ماركوز هي تلك الحرية التي تكون غير خاضعة للمؤسسات الاقتصادية، بمعنى أنها الحرية التي لا ترتبط بالعمل والسوق والانتاج والاستهلاك.

2. إن ماركوز يدعو الى إحداث ما يسميه "الحساسية الجديدة" وهي ضرورة أن يكون هنالك توازن بين "اللوغوس" و"الإيروس"، أو بين "العقل" و"الغريزة"، ففي الوقت الذي ركزت فيه المجتمعات الأوروبية الحديثة على إعطاء قيمة أكبر للعقل على حساب الجسد، الأمر الذي عمل على طمس جانب هام من حياة الانسان وهو المتعلق بالجسد وغرائز الحياة، ولذلك يدعو ماركوز كما الكثير من الفلاسفة الغربيين المعاصرين إلى ضرورة اعادة الاعتبار للجسد وغرائز الحياة في مقابل غرائز البربرية والتوحش.3. من جهة أخرى يعتبر ماركوز إن ملكة الخيال لدى الإنسان هي القدرة الذهنية الوحيدة التي بقيت حرةً تجاه مبدأ الواقع، ففي الوقت الذي عملت المجتمعات الغربية الحديثة على إعطاء العقل أهمية قصوى واعتباره القوة الذهنية الوحيدة القادرة على تنظيم حياة الانسان، كانت في مقابل ذلك تتجاهل الخيال، بل تنظر إليه بحذر شديد وإذا كان المجتمع الصناعي المتقدم يسمح بنشاط الخيال داخل المجال العلمي والتقني إذ من المعلوم أن العلماء والمخترعين قد يوظفون الخيال في أبحاثهم العلمية والتقنية وفي التوصل لاكتشافات جدية، فإن ماركوز يفرق بين الخيال العلمي والخيال الفني، فإذا كان الأول لا يخرج عن نطاق الواقع فإن الخيال الفني لا يتقيد بالقوانين العقلية والمنطقية ولا يلتزم بالواقع بل قد يتمرد عليه وعلى نظمه القائمة.

_ختاما..

ما أسماه هوركهايمر بـ "أفول العقل" عن طريق النزعات الأسطورية التي شابت التنوير الأوربي وانزلاقاته المفرطة، ثم جموح النزعات الأداتية والوضعية في التعاطي مع الإنساني وتحجيمه واختزاله، قومه هربرت ماركوز بإعادة الاعتبار للتحرر الغريزي وللخيال، فوحده الخيال الخلاق الذي يمكن أن يتملص من عقلانية صارت شديدة الصورية والشكلانية الجافة، مع العلم أنّ بديل ماركوز مقاومة وتملصا من منطق الإنسان ذو البعد الواحد ليس سوى بديل من ضمن بدائل عديدة، ليست العقلانية التواصلية أو توسيع أفاق الاعتراف مع يورغان هابرماس وأكسيل هونيت سوى أمثلة عنها، ليبقى عموما رهان مدرسة فرانكفورت منذ تشكلها الأول، كتوجه نقدي، بل كتوجه مرجعي في تأسيس النقد بمعناه الفلسفي والسياسي والقيمي، وكان صوتا أوليا لوقف مزامير الاحتفاء مفاهيم كالعقلانية والأنوار والتقدم والعلم الموضوعي، وتعويضهم بمفاهيم جديدة، بعد تقويمها بمشارط التطبيب والاستئصال والمعالجة.

- وفاق القدميري