مدخل إلى فلسفة جاك دريدا
- لا يزال "جاك دريدا" الفيلسوف الأكثر إثارة للجدل في القرن العشرين وفي قرننا الحالي. يقترن اسمه في المقام الأول بالنظرية التفكيكية. وهي نظرية ذات نهج مُعقَّد ودقيق لكيفية قراءة وفهم طبيعة النصوص المكتوبة. والمقولة الأشهر لدريدا : "لا شيء خارج النص". ولنفهم ما تعنيه هذه العبارة لابُدّ من نظرة فاحصة عن نهج دريدا التفكيكي بشكل عام.
- يرى دريدا أنّنا عندما نختار كتاباً ما لمطالعته ، ككتاب فلسفة أو رواية مثلاً ، فإننا نتخيّل أن مابين أيدينا موضوع يمكن أن نفهمه وأن نُفسِّره كعمل متكامل قائم بحدِّ ذاته. فعلى سبيل المثال : تخيّل أنك ذهبت إلى المكتبة وحصلت على كتاب "في علم الكتابة" لمؤلِّفه "جاك دريدا" ، فإنك تتوقع بأنه سيكون لديك فكرة عامة وشاملة بمجرد قراءتك لهذا الكتاب. والواقع - برأي دريدا نفسه - أن النصوص لا تعمل على هذه الشاكلة بما في ذلك النصوص البديهية والبسيطة. لأنه - أي دريدا - يعتقد بأن كل النصوص تحتوي على ثغرات وتناقضات ، ولذا فإن مهمة التفكيكية هي إيجاد تلك الثغرات والتناقضات ، ومن خلال اكتشاف هذه الثغرات يتم توسيع دائرة فهمنا لتلك النصوص.
- النظرية التفكيكية إذن هي طريقة لقراءة النصوص وإظهار المفارقات والتناقضات الخفية إلى العلن ، أو بعبارة أخرى ( قراءة مابين السطور ). ويجب الأخذ في الاعتبار أنها - أي التفكيكية - ليست مجرد طريقة لقراءة الفلسفة والأدب ، فنظرية دريدا تثير التساؤل حول العلاقة بين اللغة والفكر والأخلاق.
- ومن المصطلحات التقنيّة المهمة التي تدور حولها نظرية دريدا : مصطلح "الإرجاء" أو "التأجيل" ، ومصطلح "الاختلاف". لنبدأ بفكرة "التأجيل" : نقول مثلاً ( رأى صديقي ) و نضيف ( سيارة بيضاء ) ثم نكمل ( في الشارع ) ونتابع الحديث (.....). مع كل كلمة نضيفها يطرأ تغييراً على معنى العبارة ، ويتغيّر معنى كلمة ( سيارة ) ، وبالتالي فإن كل معلومة تُضاف تؤدي إلى تأجيل المعنى الكامل للعبارة. وهناك أمر آخر يجب أخذه في الاعتبار : حيث أن كلمة ( سيارة ) لا يرتكز معناها على السيارة الحقيقية الموجودة في العالم الخارجي ، لأن الكلمة تأخذ معناها من خلال موقعها في نسق اللغة ونظامها. ولذلك فكلمة ( سيارة ) لا تكتسب معناها بسبب الرابط الخفي بينها وبين السيارة الحقيقية بل تكتسب معناها من اختلافها عن كلمة ( دراجة ) أو ( عربة ) مثلاً ، وذلك ما يسميه دريدا ( الاختلاف ).
- النتيجة التي نتوصّل إليها من خلال مفهومي "التأجيل"و "الاختلاف" : إن معنى أي شيء نقوله دائماً مؤجَّل لأنه يعتمد على ما سنضيفه ، والأمر الذي سنضيفه يعتمد معناه على ما سنضيفه لاحقاً ؛ وهكذا. ثم إن أي كلمة نقولها يعتمد معناها على الأمور الأخرى التي لا تعنيها أيضاً.
- لقد اعتاد الفلاسفة منذ القدم على اعتبار الكتابة انعكاس شاحب للكلمة المنطوقة. وتلك الأخيرة كانت تعدّ الوسيلة الأساسية للتواصل آنذاك. لكن دريدا يرى عكس ذلك : إذ عنده أن الكلمة المكتوبة تُظهِر أموراً لا يمكن للكلمة المنطوقة أن تكشفها. حتى أنه يُعتقد في الماضي أن المعنى يأتي من خلال الحضور ، ذلك أننا حين نتكلّم مع شخص ما بشكل مباشر ، وحصل التباس معين أثناء الحديث ، فإننا نستطيع أن نطلب من هذا الشخص أن يوضِّح ويزيل الالتباس ، وهذا أدى إلى الاعتقاد بأن المعنى بشكل عام يظهر من خلال هذا الحضور ؛ أي حضور الشخص بشكل مباشر. لكن دريدا يرى أننا حين نتعامل مع النص المكتوب ، فإننا نتحرِّر من طغيان هذا الحضور ، فمثلاً عندما نقرأ نصّاً لا يكون مؤلِّفه حاضراً ، فإننا نتخلّص من تفسيراته وأعذاره ، ونبدأ بملاحظة التناقضات والطرق المسدودة في النص.
- فعندما يقول دريدا "لاشيء خارج النص" فهو لا يعني أن كل ما يهم هو عالم الكتب والكتابة ، وأن العالم الحقيقي ليس مهماً ، إذ أنه لا يُقلِّل من أهمية القضايا الاجتماعية الكامنة وراء النص. بل إن ما يرفضه دريدا هو القراءة التقليدية والتاريخية وتقسيم العصور ، لأنها تبحث في مؤثرات غير لغوية وتبعد الباحث عن الاختلافات اللغوية في النصوص. فكل شيء يوجد في المغايرة والتأجيل وسلسلة الاختلافات. أي أن النص يخلق واقعه ويفرض نفسه ويُكوِّن مجاله.
في علم الكتابة ، جاك دريدا ، ترجمة أنور مغيث ، منى طلبة ، المركز القومي للترجمة ، مصر.
مدخل إلى فلسفة جاك دريدا ، روجي لابورت ، ترجمة إدريس كثير - عز الدين الخطابي ، أفريقيا الشرق.
إضافة تعليق جديد