ماري كوسني: كتابتي تحية إلى الكتّاب الذين أحبهم
عبر عدد من الروايات، استطاعت الفرنسية ماري كوسني، أن تجد مكانا لها في المشهد الروائي الفرنسي المعاصر، عبر كتب، من الصعب تحديد أسلوبها، بمعنى أنها تستفيد من التقنيات والأنواع كلها، لتكتب رواية خاصة بها. مؤخرا كانت في بيروت، حيث شاركت في معرض الكتاب الفرنكوفوني، حيث التقيناها.
قد يكون السؤال غريبا بعض الشيء، لكن أحب أن أطرحه عليك: كيف تولد الرواية عندك؟
لا أعتقد أنه سؤال غريب، بل أعترف أنه سؤال صعب.. على الأقل لا أعرف كيف أفسر ذلك، ولكن سأحاول القول إنه في العادة، أعرف من أين أنطلق كما أنني أعرف إلى أين سأصل. وبين الأمرين، هناك تتابع من الصور التي تأتيني على شكل مقتطفات متفرقة. من ذلك كله، أصل إلى نهاية العمل، بيد أن النتيجة لا تكون دوما مثلما تخيلتها في البداية أو مثلما توقعت لها.. لكن مهما كان عليه من أمر، أستطيع القول إن نقطة البداية تأتي من نصوص أخرى أكون قرأتها أو من أفلام كنت شاهدتها. في رواية «أندريه الظلال»، على سبيل المثال، نرى حضور الشاعر فيرجيل، وهذا عائد إلى ترجمتي له. في كتاب «أفراح مانتو»، نجد أنه – أيّ الكتاب – يقع تحت تأثير الشاعر باول تسيلان، الذي صاحبني نصه مثلما صاحبتني نصوص الشاعر الإيطالي فيتوريني، لكن أيضا هناك أفلام غوس فان سانت.
هل بهذا المعنى أستطيع الحديث عن كتابة على كتابة؟ ولنضف إلى ذلك، أن الشعر له المكانة الكبرى في كلامك هذا، كما السينما.
إذ أردت أن أتحدث عن مفهوم الكتابة على الكتابة، مثلما تطرحه، لا بدّ أن أقول إن الكتابة، عندي، في أساسها، ليست سوى تحيّة بطريقة ما، للكتّاب الذين أحبهم، الذين وجدوا مكانة عندي. ومن بين هؤلاء الشعراء بالتحديد، لسبب بسيط، إذا جاز القول، بدأت بكتابة الشعر، ونشرت بعض النصوص في المجلات قبل أن أتحول إلى الرواية. وهنا أحبّ أن أوضح فكرة، أجدها تلخص مفهومي للكتابة: رواياتي ليس قصصا بالمعنى المتعارف عليه، بل هي نصوص تستفيد من جميع المنجزات، ومن بينها السينما، بكونها صورة مدهشة قبل أي شيء. أميل إلى الصورة، لكن بالتأكيد، أميل إلى كيفية كتابة هذه الصورة.
محترفات الكتابة
هل هذا ما ترددينه في محترفات الكتابة التي تقيمينها أمام المشاركين فيها؟ هل تتحدثين عن عملك الكتابي؟
حين بدأت بإقامة محترفات الترجمة من اللغة اللاتينية مع طلابي في المدرسة الثانوية، تساءلت عن الذي يهمني شخصيا في هذا المجال. وما يهمني في واقع الأمر، كان القواعد والأدب. من هنا، كان باستطاعتي إذاً أن أنقل هذه النصوص التي أحبها، مثل نصوص أوفيد، كاتول.. إنها نصوص جميلة جدا. بالطبع، نجد أن الترجمة تمرّ من خلال عمل القواعد الذي يدعو إلى السأم والضجر، لكن في النهاية، أي فرحة يجدها التلاميذ حين يقتربون بحرية من نص يشكلونه على طريقتهم.
والنتيجة؟
غالبا ما تكون النتائج مدهشة. من ثم شعرنا بالغربة في تكملة هذه التجارب في الترجمة بطريقة مختلفة. كان أستاذ مادة المسرح، الذي يُدرس هذه المادة في بعض الثانويات، يساعدنا على مسرحة بعض النصوص. أعتقد أنها كانت تجارب ناجحة وكانوا، التلاميذ، يشعرون بالفخر مما حققوه. ذات مرة، قدمنا أيضا عرضا برفقة موسيقيين، انطــلاقا من النصوص التي ترجمناها لفيرجيل. لم يكن هنــاك أي ديكور على الخشبة، فقط كان هناك الموسيقى والعبارات.
في أي حال، مع طلاب المدارس، لا أتحدث عن كتبي مطلقا، ولا عن سيــرورة الكــتابة، بل فقط عن النصوص التي أعتمد عليــها من أجل العمل. وبالتأكيــد إن ســيرورة الكتـــابة، تنهض بقوة من أسئلة الـترجمة. وحتى من أسئلة الحياة.
ومن الناحية الثانية، أقصد اللقاءات مع الجمهور الراشد؟
في جميع الأحوال، لا أذهب إلى هذه المحترفات من أجل الحديث عن كتبي، بل لكي أجعل الكلمات تنبثق من المشاركين.
لكن في مناسبات مماثلة، عرفت العديد من التجارب المدهشة. لكنني أذكر بخاصة، أمرا مميزا حدث لي في إحدى مدن منطقة الباسك – حيث ولدت، وحيث أعيش الآن، بعد أن عدت من باريس بعد سنوات طويلة – في إحدى تلك المدن، وكنت قد حضرت للمحترف طويلا وبجهد وبطريقة معقدة، وجدت أن المشاركين لم يرغبوا، ولا بأي شكل من الأشكال، أن يكتبوا ولو كلمة واحدة. لكنهم أحبوا أن يرووا لي، شفهيا، كيف أن البعض منهم عاد من الجزائر العام 1962، والأحداث التي جرت خلال الإضرابات الكبيرة التي دارت العام 1968 في «بايون»، أي رووا لي ذكرياتهم الشخصية.
سجلت كل ما قالوه. وفي كلامهم، كان هناك العديد من الأشياء المهمة، من وجهة نظر تاريخية، من وجهة نظر الذاكرة الجماعية والفردية وكيف كانا يتداخلان مع بعضهما البعض. حين أعدت صوغ ذلك كله، أي كلماتهم، وقرأت لهم ما كتبته بدا التأثر الواضح عليهم. أنا أيضا تأثرت بدوري. من هنا، أجد أن هذه اللقاءات مهمة جدا.
ما دمت قد ذكرت العودة إلى الباسك، أحب أن أسأل، لماذا عدت إلى بايون، بعد هذه السنين من مغادرتك لها؟ هل نستطيع الحديث عن قضية جذور مثلا؟
ما زلت لغاية اليوم أطرح السؤال عينه حول الأسباب التي قادتني إلى العودة. أمضيت 15 عاما في «اللاند»، التي عشت فيها طفلة. لقد ولدت في قرية صغيرة بالقرب من بايون. ولم يكن عندي سوى رغبة واحدة: الذهاب إلى باريس. قمت بذلك. ومع ذلك عدت إلى هنا. ليست قضية جــذور، فأنا لا أطرح هذا السؤال أبدا.
لأقل إنني التقيت بشخص في العام 1997 كان من هذه المنطقة، وكان يعمل هنا، وبعد سنتين عدنا. صحيح أن القصة لم تستمر، إلا أنني بقيت. من هنا السؤال كان لماذا بقيت ولم أغادر مجددا. في أي حال، القضية بالنسبة إلي تبدو أنني غير مستقرة في أي مكان..
هل نستطيع القول إن هذا كان وراء فكرة كتاب «تنقلات»؟
صحيح أن الكتاب يحمل بعض النقاط الذاتية، إلا أنه يميل كثيرا إلى المتخيل. افهم سؤالك جيدا، وبخاصة أن الراوية – وهي امرأة شابة - في الكتاب، تعود إلى منزلها القديم، إلى حديقتها لتلتقط لها الصور. لكن من هنا، ينحو الكتاب إلى المتخيل، أي عندما تعيد لها هذه الحديقة «المشهد المستحيل» الذي حدث قبل 6 سنوات، وهو مشهد بقي غامضا بالنسبة إليها.
سأحاول أن أقول للقارئ إنه المشهد الذي رأت فيه طفلها عاريا مع زوجها، ليحاول الفرار بسيارته حيث قتل، بعد أن حاول خنقها؟
هذا هو الحدث، ولكن الكتاب يقوم على قضية أخرى: هل رأت الراوية ذلك فعلا أم لا، من هنا تحاول البحــث عما رأته. لذلك تعود في بحثها هذا إلى ذكرياتها، إلى الأسطورة، إلى التراجيديات القديمة، حيــث نجد هذه التضحيات بالأطفال، عبر حرقهم أو قتلهم أو افتراسهم، لتفهم. وكلما تقدمت فوق هذه النقاط، يبدو الفهم بالنسبة إليها أمرا ممكنا، أي يصبح أقل ألما.
هل هو بهذا المعنى كتاب عن السر أم الحقيقة؟
يخلي السرّ مكانه للحقيقة، والخوف للطمأنينة.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد