لا إكراه في الدين
على الخروج عن الإسلام، وإنما يعاقب على الخروج عليه، أي على الدولة الإسلامية، كما سيتضح ذلك عندما نأتي إلى بحث مسألة الردة.
وبناء عليه نفهم حركة الفتح الإسلامي، فالفتح لم يكن بقصد إكراه الناس على الاعتقاد بالإسلام، بل كان القصد منه تحرير الإنسان من أنظمة كانت حاجزاً أمام وصول البلاغ القرآني، بل محاربة لوجوده ابتداء، فكانت إزاحتها لتوصيل رسالة الحق إلى الإنسان، فيؤمن بها عن اقتناع أو يكفر بها عن حرية واختيار «وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (الكهف/29).
وهذا المفهوم هو ما ينسجم مع التحديد القرآني لوظيفة الرسول، حيث يحصرها في التبليغ والتذكير فحسب، أي في إنجاز عملية تواصلية حوارية ترتكز الى البراهين وتحفز عقل المخالف للنظر والتفكير. وحتى الوظيفة التبليغية التواصلية لم يتركها الإسلام مطلقة من كل ضابط، بل حرص على أن يحدد لها نهجاً وأدباً حتى لا تنقلب إلى إلزام أو إساءة لمعتقد المخالف. حيث لا يجوز فيها ممارسة أساليب السيطرة والإكراه والإلزام. فلا ينبغي للمسلم في علاقته مع المخالف عقدياً أن يستغل ضعفه وحاجته إلى حق من حقوقه فيجعل اقتناعه بالدين شرطاً لقضاء حقه. لأن مثل هذا السلوك هو إخلال مباشر بالمبدأ القرآني المحدد في آية «لا إكراه في الدين»، وغيرها من الآيات المؤكدة على قدسية مبدأ حرية الاعتقاد. مثلما أنه يخالف سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) في سلوكه مع المخالفين له عقدياً. وهذا ما أدركه صحابة رسول (الله صلى الله عليه وسلم)، فالتزموا به في التعامل مع المخالف في العقيدة. ومما يجدر استحضاره هنا حادثة عمر بن الخطاب عندما جاءته امرأة مشركة تطلب حاجة لها، لكن عمر قبل أن يوفي حقها وحاجتها دعاها إلى الإسلام، قائلاً «اسلمي تسلمي. إن الله بعث محمداً بالحق» فرفضت. فأدى لها حقها، ولكنه خشي أن يكون في أسلوبه هذا نوع من المساومة والاستغلال لحاجة المخالف فاستغفر ربه واستدرك قائلاً: «اللهم إني أرشدت ولم أكره». وتلك حساسية شعورية ذات معنى تكشف لنا مكانة مبدأ حرية الاعتقاد وقدسيته. فقد أحس الخليفة الراشد (رضي الله عنه) بكونه مس حق الاعتقاد عند تلك المرأة، لمجرد أنه بدل إسراعه في قضاء حقها دعاها إلى الاقتناع بالإسلام.
وهذا التقدير لحرية الاعتقاد هو الذي جعل الشرع الإسلامي يلزم المسلم بالاحتياط في بيان الإسلام لزوجته المخالفة له في الاعتقاد، حتى لا ينقلب البيان إلى إلزام أو إكراه. يقول الأستاذ فهمي هويدي: لقد ثار في الفقه الإسلامي جدل «حول حق الزوج المسلم في مناقشة زوجته غير المسلمة، في مسألة إسلامها، وهل يعد ذلك في ظل عقد الزواج القائم بينهما من قبيل الإكراه على اعتناق الإسلام أم لا؟ فقد رأى الإمام الشافعي ألا يفاتح الرجل زوجته في هذا الأمر، ولا يعرض عليها الإسلام... بينما يرد الأحناف بقولهم: يعرض الإسلام على الزوجة، لمصلحة من غير إكراه». («مواطنون لا ذميون»، ص 90) وتلك ولا شك علامة على عمق مبدأ حرية الاعتقاد في حضارة الإسلام، ورقي في الحساسية الحضارية للشخصية المسلمة.
وقدسية مبدأ حرية الاعتقاد هي التي تجعل مسؤولية المسلم محصورة في الدعوة فحسب، ولا تتعدى ذلك إلى محاسبة المخالف له على عدم إيمانه بما دعاه إليه. فإذا أصر المخالف في العقيدة بعد البلاغ والبيان على كفره، فإن حسابه عند ربه ولا يجوز أن نؤسس على هذا الخلاف موقفاً إلزامياً، نتعدى فيه وظيفة الدعوة والبلاغ إلى وظيفة الحساب والعقاب. فأمر الحساب موكول إلى الله عز وجل: «عليك البلاغ وعلينا الحساب» (الرعد/40) «فان أسلموا فقد اهتدوا وان تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد» (آل عمران-20) «ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون». (المؤمنون/117). «اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظاً. وما أنت عليهم بوكيل». (الأنعام/106-107)
وهنا يجدر أن نسأل: لماذا هذا التقدير البالغ لحرية الاعتقاد في الإسلام؟
أولاً: أرى أن هذا في حد ذاته دليلاً على كون الإسلام وحياً منزلاً، وليس فكرة بشرية مشروطة بلحظتها التاريخية ومحدودة بأفقها الثقافي المحدود. إذ من الصعب أن نتصور ظهور مثل هذا التقدير للمخالف في الاعتقاد من داخل ثقافة قيلية. فمنطق القبيلة لا يسمح بهذا الأفق الإنساني المفتوح، وهذا التقدير للاختلاف والسماح بوجوده.
ثم ثانياً: إن الاختلاف العقدي والفكري أمر اقتضته مشيئة الله «ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» (يونس/99). «ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين» (الأنعام/35). ولذا فممارسة فعل الإكراه في العقيدة هو تضاد ومعاندة لمشيئة الله.
ثم ثالثاً: حتى لو تمت ممارسة فعل الإكراه على معتقد أو دين معين، فلن تخلص إلى تنميط الناس باعتقاد واحد، وذلك لحتمية وجود الاختلاف واستمراره. فالاختلاف العقدي أمر حتمي الوقوع؛ لأن الكائن الإنساني خلقه الله عز وجل وجعل امتيازه عن غيره من الكائنات في قدرته على التفكير، وحريته في اتخاذ القرار وسلوك الفعل. فإذا كانت الملائكة مفطورة على الطاعة، فإن الإنسان بحكم حريته قادر على الطاعة والمعصية على حد سواء. وحريته هذه هي ما تجعله مسؤولاً.
ومن ثم يجب أن ندرك أنها من إرادة الله سبحانه أن يكون الإنسان قادراً على الأيمان وقادراً على الكفر. ومن مقتضى التكريم الإلهي للإنسان تمليكه الاقتدار العقلي، ولذا فالمساس بحرية الاعتقاد هو مس بكرامة الإنسان، فضلاً عن كونه مساً بكرامة الدين الحق بجعله مادة الإلزام لا موضوعاً للحوار والإقناع.
الطيب بوعزة
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد