قسطنطين باوستوفسكي الكاتب الروسي الحر الذي لم يترجم العرب أعماله
جودت هوشيار:
كتب قسطنطين باوستوفسكي ( 1892- 1968) العشرات من الروايات والقصص القصيرة بينها عدد من الحكايات والقصص الممتعة للاطفال وتم تحويل العديد منها الى افلام سينمائية ناجحة . و على حد علمي لم يترجم أهم اعماله الى العربية لحد الآن ، رغم أنه ومنذ الخمسينات معروف عالميا ، وترجمت أعماله مرات عديدة الى أهم لغات العالم ، وكان في مقدمة المرشحين لنيل جائزة نوبل في الأدب لعام 1965 ، بل أن لجنة نوبل أتمت كل التحضيرات لأعلان فوزه بالجائزة ، ولكن الأتحاد السوفيتي والرئيس الروسي ليونيد بريجنيف مارسا ضغطاً هائلاً على السويد ، لصرف النظر عن منح الجائزة لباوستوفسكي . وفعلاً أثمر الضغط الدبلوماسي والاقتصادي عن منح الجائزة الى مرشح الدولة السوفيتية ميخائيل شولوخوف ، الشيوعي المتشدد ، وعدو كتاب روسيا الأحرار ،والداعي الى تصفيتهم بلا هوادة ، وفي مقدمتهم باوستوفسكي .
باوستوفسكي أحد الكتّاب القلائل الذين حافظوا على استقلاليتهم وحريتهم الداخلية في ظروف بالغة القسوة في ظل النظام الستاليني الشمولي . لم ينتم الى الحزب الشيوعي ، ولم يكن عضوا في مجلس السوفييت الاعلى كما العديد من زملائه الكتاب . بل أنه لم يكن حتى عضوا قيادياً في اتحاد الكتاب السوفييت بل عضوا عاديا . لم يكتب كلمة واحدة في مديح ستالين أو النظام البلشفي ، ولم يحاول التسويق لنفسه بالتملق لذوي النفوذ . وظل ضميره حياً ، ويقظاً ، ونقيا . واستطاع أن يحافظ على سمعته ككاتب صادف وانسان نزيه
كان أحياناً يسخر من نفسه . يقول سكرتير باوستوفسكي في مذكراته عن لسان الكاتب : " ذات مرة اضطرتني الظروف الى مراجعة مسؤول كبير . قلت له " مرحباً ! أنا كاتب من موسكو . اسمي قسطنطين باوستوفسكي " . قال المسؤول - دون أن يرفع نظره عن الأوراق التي كان يطالعها : " ثم ماذا ؟ . تفاجأت بمثل هذا الجواب . قلت : " ألم تقرأ شيئاً من كتاباتي ؟ " وعندئذ قال المسؤول بإعتداد وهدؤ : " أنت لم تكتب لي شيئا " . وغرق باوستوفسكي في الضحك طويلاً .
كان يتجنب لقاء المشاهير بعد لقائه بالشاعر ماياكوفسكي في عام 1927 في شقة الشاعر نيكولاي أسييف . حاول باوستوفسكي أن يقول للشاعر كيف أن صيد جراد البحر في نهر سيريبريانكا شيء ممتع ، ولكن الشاعر لم يلق له بالاً . ثم جلس باوستوفسكي صامتاً ،وضجراً ليلعب الشطرنج مع أسييف ، واستغل اول فرصة سانحة لمغادرة الشقة. ويقول باوستوفسكي منذ ذلك الحين أنا أخاف من المشاهير , وأخاف من الرؤساء . اشعر بالحرية والهدؤ مع الناس البسطاء .
كان يؤكد أهمية كل كلمة ، ودقة كل وصف، وصعوبة المزج بين المأساوي والكوميدي ويتكلم عن الكلمات التي يحبها ، وتلك التي يكرهها . كان رئيسا لقسم الكتابة الابداعية في معهد الادب العالمي لسنوات طويلة ، ولكنه لم يكن يفرض رأيه على الطلبة . وقد تخرج على يديه كثير من الكتاب والشعراء الشباب الذين اصبحوا في ما بعد من اهم الأدباء السوفيت . وكان ينصح الكاتب الشاب قائلاً : " حافظ على بساطتك عندما تتحدث الى الملك ، وعلى صدقك عندما تتحدث الى الجمهور ".
كان في منتهى الصدق في كل ما كان يعمله، وفي كل ما كان يكتبه، وفي كل ما يتحدث عنه .
- لم يكتب في حياته رسالة الى مسؤول ، ولم يدع الى ادانة أي كاتب – كما فعل بعض الكتّاب السوفيت ، وفي مقدمتهم ميخائيل شولوخوف - ولكن عندما جرت محاكمة الكاتبين اندري سينيلفسكي ويولي دانيل عام 1964 بتهمة نشر أعمال أدبية في الخارج . نشررسالة مفتوحة موجهة الى المحكمة يعلن فيها تضامنه مع الكاتبين .
في عام 1967 ايد رسالة سولجينيتسن الى مؤتمر الكتاب السوفييت للمطالبة بإلغاء الرقابة على الأعمال الأدبية ، ودفع ثمن هذه الرسالة غاليا ، بحرمانه من جائزة لينين الرفيعة لمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين من العمر ، ومنح بدلا منها ميدالية " الراية الحمراء" المتواضعة .
عندما القى احد الكتاب المشهورين كلمة هاجم فيها الشاعر بوريس باسترناك عند مناقشة رواية " دكتور زيفاكو " رفض باوستوفسكي علنا وامام انظار جميع الحاضرين مصافحة هذا الكاتب الشهير ، الذي ظلت يده الممدودة معلقة في الهواء
وكان ذلك درسا اخلاقيا . ولكن هل للمنافقين أخلاق ؟
كان يثمن عاليا ادب فيكتور نيكراسوف الذي كتب عن الحرب بين المانيا الهتلرية والإتحاد السوفيتي بصدق وعمق . في حديث جرى بينهما وصف باوستوفسكي ستالين قائلاً : " زعم ستالين انه يطبق القانون .ولكن كل ما كان يحدث في الدولة يتم بموجب قوانين الجريمة المنظمة " . كان ذلك في عهد بريجينيف الذي كان يفكر في اعادة الإعتبار لستالين .
كان باوستوفسكي مريضا يعاني من قصور القلب، عندما علم بأن السلطات تعتزم فصل يولي لوبيموف ، رئيس المخرجين في مسرح " تاكانكا " .وهو مسرح طليعي يقبل الجمهور عليه بكثافة ومن الصعب الحصول على تذكرة لمشاهدة احد العروض فيها . فما كان من باوستوفسكي الا أن اتصل هاتفياً برئيس الوزراء الروسي آنذاك الكسي كوسيجين . قال باوستوفسكي لكوسيجين . يتكلم معك كاتب يحتضر . أتوسل اليك أن لا تدمر هذا السرح الطليعي ، ثروتنا الفنية القومية " . وفعلا تم صرف النظر عن الموضوع .
باوستوفسكي وديتريش
كان باوستوفسكي على فراش المرض في المستشفى عندما زارت الممثلة والمطربة الأسطورية مارلين ديتريش – ايقونة هوليود – موسكو في عام 1964، لتقديم عروض غنائية امام الجمهور الموسكوي . وفي الدقائق الأولى لوصولها الى مطار موسكو الدولي ، قالت ديتريش انها تريد أولاً أن تقابل باوستوفسكي .
كان الكاتب في هذا الوقت طريح الفراش في المستشفى .
وعندما طلبت السلطة من الكاتب حضور حفلة ديتريش ومقابلتها ، أعتذر بسبب مرضه ولكن السلطة اصرت على ذلك ، وجاء باوستوفسكي متكئاُ على يد زوجته . وفور انتهاء الحفلة صعد الى خشبة المسرح بصعوبة بالغة . تفاجأت ديتريش بوجود الكاتب الشهير وارتبكت ، ولم تجد طريقة للتعبير عن امتنانها له ، سوى الركوع امام الكاتب وتقبيل اليد التي كتبت قصة " البرقية " ، وهي تذرف الدموع . وساد الصمت المطلق أرجاء القاعة الفسيحة ، ثم هتفت احدى الفتيات بكلام غير واضح ، ونهض الجميع لتحية باوستوفسكي وديتريش ، ودوت عاصفة من التصفيق . كان الجميع مذهولين امام هذا المشهد النادر ، ولم يدر بخلد أحد من الحضور تسجيل هذه اللحظة التاريخية ، سوى مشاهد مجهول التقط صورة واحدة يتيمة لهذا اللقاء المؤثر. ومن يزور اليوم متحف باوستوفسكي في موسكو سيجد الصورة معلقة على احد جدران المتحف .
إضافة تعليق جديد