قراءة في سردية مسرحية "ليلى والذئب"
الآن وبعد مراحل متعدِّدة قطعها المسرح العربي، ما بين التنظير لتأصيل المسرح، وتسييس المسرح، والمسرح التجريبي، وغيرها.. وما بين محاولة جذب جمهور للمسرح، وتقديم أشكال مسرحية مختلفة، والاستكانة لسطوة التلفزيون كبديل فرجة.. تبدو الأشكال المسرحية أكثر تنوُّعاً- نسبياً- ولكن في السؤال عن التواصل يمكن العودة إلى الحكاية والحكاية هنا عن ليلى والذئب.. أكثر الحكايات شهرة في العالم والتي أعاد صياغتها ضمن نصٍّ مسرحي قوي الكاتب فارس الذهبي وطبعه في آخر كتبه.. ومن ثم قدَّمها على المسرح القومي من إخراج باسم عيسى..
تتجلَّى أهمية الحكاية هنا بمتنها، الذي كان أسلوب الكتابة والشكل المسرحي الذي صنع العرض. المتن هو السرد، ولعله أحد أشكال المتعة التي قدِّمت للمتلقي، وهيَّأت للتواصل.
السردُ شكل تواصل يومي حياتي، مادة شعبية بشكلها الشفاهي والمكتوب والمتوارث، سواء كان للأطفال، أم هو نكتة، أم سيرة وحكواتي، أو خطبة جامع.... الأخبار سرد.
على هذا اعتمد الكاتب، ليكون خيار الكتابة بغير قصد ربما، وبالتأكيد قاصداً إعادة تكوين الحكاية ذات المرجعية العالمية عن ليلى والذئب، ليغيِّر رموزها، وسياقها، وأقطاب الصراع فيها، وبالتالي مفاهيم الخير والشر، ومعها مفهوم الضحية والمفترس.. تغيراً غير متوقع.
إذ تتحوَّل قصة من لا تسمع كلام أمها وتكاد تقع ضحية الذئب الشرير.. إلى قصة حب ما بين ليلى والذئب.. لينتقل تموضع الشخصيات وتموضع العلاقات إلى تشكيل رموز جديدة عما كانت ترمز إليه هذه العلاقات في نصوص مكتوبة وشفاهية أخرى.
ومع هذا التحول يتغيَّر المغزى، متناقضاً مع الأساس، ناسفاً إياه بسياق يعطي الفرصة لليلي أن تخوض تجربة لطالما كانت أمها تحرص على ألا تمرّ بها.
ها قد كبرت ليلى، وصار من حقها إن روت حكايتها.. أن ترويها من منطق مختلف، تاركة خلفها حكاية الأطفال بنمطها المعروف.
فماذا لو أحبَّت الذئب وأحبَّها؟.. ماذا لو لم يكن هنالك ذئب من أصله في الغابة وأمُّنا التي ورثت الخوف منه عن أمها، كانت توفِّر مخاوفها فلا ترسلنا من طريق الغابة؟..
أما ليلى التي اكتشفت غواية الجديد.. فقد نزعت القناع عن علاقة الرجل والمرأة التي نمطت بالمخاوف تجاهها، وبالموروث عنها، فالرجل ليس ذئباً ولا الآخر.. والحبُّ ليس حالة حيوانية.
الذئب في العرض.. دياب العاشق الذي عاش في طفولته ذات مشكلة النظرة إلى علاقة الرجل والمرأة، حين زواج أخته الكبرى.. من بكاء الأم والأب، والتوصيف الشائع الذي ساقه أصدقاء دياب في الحارة عن (أكلها من قبل العريس)، وإن تكن ليلى كشخصية وكمسار حياتي اجتماعي أكثر وضوحاً.
الفكرة على أهميتها وعلى ما تظهره من ذهنية ليلى الجديدة (النشاز في عصر القطيع) لكنها سيقت بشكل ناشز عن السرد، بطرحه غير المباشر لتشكيل حكاية ليلى، وما بين انتقال من رمز إلى كثافة إنسانية.
في الحكاية الجديدة صوتان سرديان أساسيان هما ليلى ودياب، وللسرد الجزء الأكبر حتى في التواصل المباشر ما بينهما، إذ يمكن أن ينتهي حوارها بروي.. ويمكن أن يتحاورا كروي، كمشهد لقائهما الذي يجسِّدانه، ويحكيانه لنا ولنفسيهما.
تتداخل مع السرد أصوات ليست حوارية، أي لا تدخل في منطق الأخذ والرد، وهذا ما يؤكد قصدية الروي المباشر لنا.. أما المخرج فيكرِّس السرد من خلال ممثلين اثنين، وعدة أصوات خرجت منهما، قاما بتمييزها عنهما، بطريقة أقرب إلى المونودراما لكنها بصوتين.. والمونودراما شكل من أشكال السرد.
يتابع المخرج في رؤيته الإخراجية الأسلوبية الكتابية الراقية، ويظهر نفسه راوياً هو الآخر.. كل شيء يعلن عن نفسه في الروي، كما منطق السرد الحياتي في النكتة أو الأخبار (وإن كان ينقص المذيع التبني) وخطبة الجامع، إذ لا يخبِّئ الراوي نفسه ونصدِّقه في آن واحد، ما بين الإيهام والإنكار.
وهكذا يروي المخرج الحكاية بطريقته، أول ما تطلع علينا ليلى تخبرنا أنها تروي حكايتها، وفي منتصف العرض يظهر شريط تسجيلي لعملية البروفة.. وهكذا يعلن المخرج عن نفسه كراوٍ.
في خياره لشاشة السينما يعزِّز السرد بصرياً، وإن تعاطى معها كجزء من فضاء العرض الدرامي والمكاني.
الشخصية هنا تروي عن نفسها أكثر مما تقوم بفعل.. الفعل هو الحكي، وقد تروي عن الآخر(في المشهد الذي يروي فيه دياب قصة عرس أخته يقوم بالروي وتقوم ليلى بالأداء فيتوزَّع أداء شخصية واحدة على ممثلين.)
وإن بقي مفتوحاً ما آل إليه مصير ليلى ودياب، فالفضاء المكاني وبشكل غير مباشر، وضع الشخصيتين في حيِّز بيت واستقرار كأنه ارتباط.. في مشهد جميل سرداً "مشهد الكرز كلمة مني وكرزة منو" يضيقه المخرج في زجِّه بالكامل ضمن شاشة السينما، وهو الذي قام بتوزيع متقن، جمالياً ودرامياً ما بين خشبة المسرح المنتمية إلى (هنا /الآن) وما بين شاشة السينما كمكان أو زمن مختلف، أو كشخصية ، فيدمجها في مكان (هنا) ساحباً إياها إلى زمن التذكر. هذا المشهد أُسر في شاشة السينما، وقد فقد نكهته المسرحية، وكأن ذلك الخيار أتى حلاً سهلاً، وبكل الأحوال قد يراه المخرج أسلوبياً ليحبك إيقاع العرض ويجنبه الرتابة.. وهذا حقه في رؤيته.. لكنه اكتفى بالسرد هنا، ضمن تقطيع المشهد بكادر واحد، ولعله إن قدِّم بالطريقة ذاتها التي قام بها قبلاً لربما كان أجمل.. وهذا رأي.
لكن وفي هذا المشهد بالذات يظهر الاستقرار المكاني لليلى ودياب. وحتى في الشاشة يظهران وكأنهما يقلبان ذكريات..
ظهرت قوة السرد في منطق الأداء الذي وزِّع ما بين الشخصية والراوي.
السرد القادر على التشكل بعدة قوالب وصيغ.. وهذا ما أثبته عرض "خمسون" للمخرج في نصِّ "ليلى والذئب" قصد الكاتب خياره الذكي وإن لم يقصد.. المتعة التي لُمست في العرض تأخذنا إلى قدرة السرد على التقرُّب من المتلقِّي دون فذلكة، من خلال ذلك الاتجاه إلى ما هو من ضمن الحياة نفسها، وطرق الناس في التعبير عن أنفسهم وتواصلهم... إنها قوة السرد.
ميسون عمران
إضافة تعليق جديد