قانون الانتخابات: صناعة النخبة السياسية بنكهة سورية
الجمل ـ عبد الله علي: تنبع أهمية قانون الانتخابات من أنه يمثل الأداة التي يصنع بها الشعب صولجان سيادته، فهو الآلية الوحيدة التي تتيح تحويل أصوات الناخبين إلى مقاعد نيابية في مجلس الشعب المكان الذي يفترض أنه الأصل الذي ستتفرع عنه جميع السلطات الأخرى ولاسيما السلطة التنفيذية ممثلة بمجلس الوزراء تحقيقاً لمقولة "السيادة للشعب". وقانون الانتخابات هو الحبل المشدود الذي تقتضي الديمقراطية أن تسير فوقه، في طقوس مهرجانية، كافة الأحزاب والقوى والفعاليات السياسية لاختبار مدى قدرتها على التوازن والثبات والاطمئنان إلى أنها تملك المهارات والخبرات اللازمة لممارسة النيابة عن الشعب، واستكمالاً فإن قانون الانتخابات هو القسيم بين السلطة والمعارضة، ليس كالقسيم بين نعيم الجنة وجحيم النار، وإنما كشركاء يتقاسمون الأعباء الجسيمة التي يستلزمها بناء الدولة والحفاظ على وحدتها وصيانة استقلالها.
مما سبق تتبدى لنا الأهمية الكبيرة لهذا القانون في صياغة الحياة السياسية وتحديد الأحجام والأوزان وتوزيع المواقع والأدوار بين مختلف الأطراف بشكل دوري متبدل يضمن لعربة الوطن أن تسير بسلاسة إلى بر الأمان.
من هنا فإن صدور قانون جديد للانتخابات في سورية ينبغي النظر إليه على أنه تأسيس لمرحلة مختلفة في مسار الحياة السياسية السورية، مرحلة قد لا يكون تشكيل ملامحها حكراً على قانون الانتخابات، فهناك دور لقانون الأحزاب وقانون الإعلام وقانون الإدارة المحلية وقانون السلطة القضائية وغيرها، لكن قانون الانتخابات سيكون بمثابة المطبخ السياسي الذي تختلط فيه كافة المكونات السابقة لإنتاج النكهة الخاصة بالسياسة السورية.
وقانون الانتخابات الجديد في مجمله قانون جيد من حيث النص، رغم بعض الملاحظات التي قد يسجلها البعض عليه، لكن العبرة ليست في النص وإنما في التطبيق. وانسياقاً مع تشبيهنا قانون الانتخابات بالمطبخ ينبغي ألا ننسى المقولة الشعبية "الطبخ نفس".
***
فالقانون يقوم على أساس الاقتراع المباشر، وهذا يقتضي أن تربط الناخب بالمرشح علاقة معرفة وثقة وطيدة، وأنه بناءً على هذه المعرفة والثقة يقوم الناخب بمنح صوته الانتخابي لهذا المرشح دون سواه. أما في الاقتراع غير المباشر فإن العلاقة مقطوعة بين المرشح والناخب بوجود شخص ثالث هو الوسيط الذي تفوضه مجموعة من الناخبين لانتخاب أحد المرشحين بالوكالة عنهم، وبالتالي ينبغي على القانون انسجاماً مع نفسه أن يقضي على ظاهرة الوسطاء والسماسرة التي تتفشى بكثرة في الموسم الانتخابي.
واعتبر القانون كل محافظة دائرة انتخابية واحدة، وهذا يقتضي أن يكون لكل مرشح برنامج انتخابي واضح وصريح، والناخب يختار بين هذه البرامج ما يناسب تطلعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأن توسيع الدائرة لتشمل كل مساحة المحافظة يهدف إلى جعل العلاقة بين الناخب والمرشح علاقة برامجية وليست علاقة مؤطرة بالانتماءات الصغيرة. لذلك ينبغي على القانون أن يضرب بيد من حديد أي محاولة لاستغلال الطائفية أو العشائرية أو غيرها من الروابط الضيقة بهدف التأثير على نتائج الانتخابات. لأن الواقع يشهد أن هذه الانتماءات الصغيرة والروابط الضيقة ما زالت تلعب دوراً مؤثراً جداً في العملية الانتخابية ويجري استغلالها بحذاقة وأنانية من قبل بعض المرشحين الذين ليست لديهم أي رؤية سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.
وسار القانون الجديد على خطى القانون القديم في تخصيص نسبة خمسين بالمائة من المقاعد لفئة العمال والفلاحين، وبغض النظر عن مخالفة هذا التخصيص لمبدأ المساواة بين المرشحين، فإن مذهب القانون يقتضي أن يكون نصف أعضاء مجلس الشعب من أبناء الطبقة الكادحة الذين يصدق عليهم وصف العمال والفلاحين. بينما تبين لنا التجربة الانتخابية السابقة أن معظم المرشحين عن هذه الفئة هم من كبار التجار والإقطاع الجديد. لذلك ينبغي على القانون أن يضع معايير واضحة للعامل والفلاح ونحن مع المرونة في وضع هذه المعايير والتوسع بها قدر ما يشاء شريطة ألا يسمح بشمول أرباب العمل والإقطاع ضمن هذه الفئة لأن مصالح العمال والفلاحين أكثر ما تتناقض مع مصالح هؤلاء فكيف نقبل أن يكونوا ممثلين لهم في مجلس الشعب؟
وأقرَّ القانون مبدأ الإشراف القضائي على العملية الانتخابية، ويقتضي هذا وجود سلطة قضائية قوية ومستقلة ذات كوادر كفؤة ومؤهلة تستطيع تحمل مسؤولية الإشراف على الانتخابات ومنع عمليات الغش والتزوير ومحاسبة مرتكبيها. وليس خافياً على أحد الأسباب الكثيرة التي تجعل القضاء غير قادر على الاضطلاع بهذه المسؤولية أولاً بسبب تبعيته للسطلة التنفيذية فما الفرق أن يكون الإشراف بيد السلطة التنفيذية أو بيد جهاز تابع لها؟ ثانياً بسبب قلة الخبرة ولعله من الممكن تفادي هذا السبب بإجراء دورات تدريبية أو ورشات عمل للقضاة بما يمكنهم من اكتساب بعض المعارف والخبرات حول العملية الانتخابية واساليب التزوير والغش وكيفية مواجهتها! ثالثاً بسبب الفساد ولن نتكلم عنه لأنه معلوم.
***
نحن ندرك أن أي قانون بشكل عام وقانون الانتخابات بشكل خاص، لن يعدم من ينتقده ويعترض على نصوصه والأسلوب الذي اختاره للاقتراع وطريقة توزيع الدوائر وكيفية حساب الأغلبية وفعالية الإشراف القضائي ... الخ، وقد تكون هذه الانتقادات محقة وواقعية وعلمية وقد تكون محض تعبير عن عدم ملائمة القانون لمصلحة بعض الأطراف أو شماعة لتبرير فشلهم في الانتخابات. لكن الأكيد أن مهارة القائم على تطبيق القانون والأسلوب الذي يتبعه في ذلك، قد يغطي على الكثير من عيوب القانون ونواقصه، تماماً كما أن الطباخ الماهر يستطيع بمواد بسيطة أن يستخرج نكهات عديدة مما لذ وطاب، قد يعجز عن استخراجها طباخ آخر تتوفر لديه كل المواد والمعدات اللازمة لكنه لا يملك "نفس الطبخ".
إضافة تعليق جديد