في تفكير العراق والسعي إلى توقّع عصفه

22-10-2006

في تفكير العراق والسعي إلى توقّع عصفه

يغلب على الظن ان عرباً كثيرين، بل حتى من غير العرب، صاروا منذ أسابيع عدة، وربما أكثر، يتعاطون بسلبية متزايدة مع الوقائع الساخنة للبلد العراقي ونزاعاته القاسية والمفتوحة. ويتخذ هذا التعاطي السلبي صورة الاستنكاف عن متابعة ما يجري في العراق من خلال اقفال جهاز الاذاعة والتلفزة، ما يعني انه لم يعد هناك ما يرتجى من الحالة العراقية وقد بلغت حد الإعضال الذي لا مخرج منه ولا شفاء. ويتخذ هذا التعاطي في حالات أخرى على ما نحسب، صورة القفز فوق الحدث العراقي كما لو ان الأمر يتعلق بقفزة تحول دون السقوط في هاوية أو في حفرة عميقة.

ويكفي هذا للتدليل على أمرين بارزين يكملان بعضهما بعضا. الأمر الأول هو تحول العراق، أو أجزاء منه في الأقل، الى مسرح لمقتلة مفتوحة ومستديمة تتغذى من نفسها، على ايقاع قتل يومي وتصفيات جسدية فردية وشبه جماعية، بحيث يصبح اجترار القسوة واثارة غرائز الانتقام والثأر آلية لإعادة انتاج المعضلة. لنقل باختصار، إننا أمام نوع من الهذيان السياسي الدموي الذي يقود، بل حتى يفترض، تفريغ مشروع الدولة الوطنية الجامعة من أي مضمون وقوام قابلين للعيش وقصر السياسة على سلطة هذه العصبية أو تلك فوق الرقعة التي تعتبرها اقليمها ومدارها الحيوي.

الأمر الثاني هو تزايد الشعور بالعجز عن احتمالات توليد الشروط التي تسمح بتثبيت أفق وطني مشترك لمختلف أطياف المجتمع العراقي.

لقد وصلنا تقريباً الى الحد الذي يجعل من مجرد النظر في وقائع اي يوم من ايام العراق، في المعنى المحدود والحرفي لكلمة يوم، اختباراً للقدرة على التحديق في القسمات النافرة لفظاعة مفتوحة ومتناسلة. لا مبالغة في القول ان مياه العراق تعكرت كثيراً وان عدداً كبيراً من متابعي الشأن العام صار يأنف، شعورياً أو لا شعورياً، من النظر في مياه عكرة، خصوصاً بعد ان ولغت فيها عصبيات متعطشة للكثير من السلطة وليس للدولة القائمة على تجديد العقد الاجتماعي واجتراح الضوابط والقواعد المشتركة لاشتغالها. البحث في النتائج الحالية، وهي غير نهائية بطبيعة الحال، يقتضي البحث في المقدمات والأسباب، لا لغسل اليدين من المياه العراقية السوداء، بل لمحاولة التعقل والفهم. وها هنا تتواجه نظريتان طاغيتان تفتقدان كلاهما الى التماسك النقدي التاريخي. النظرية الأولى وهي تعج بالبلاغة الصاخبة واللاغطة، تميل الى تثبيت الاعتقاد بأنه لولا الاحتلال الاميركي لكانت أحوال العراق بألف خير، ولكان من السهل العثور على السياق الوطني الذي يقنن ويدير الانقسامات العراقية على أسس عقلانية مقبولة من الجميع. النظرية الثانية تقول، على العكس، إن الادارة الاميركية لم تخترع الانقسامات القائمة والموروثة من العهد العثماني والضاربة بجذورها في أشكال تنظيم اجتماعي يرقى الى زمن بعيد، بل هي تعاطت بواقعية مع هذه الانقسامات بوصفها معطيات تاريخية ناجزة ينبغي بناء النصاب السياسي العام عليها. وإذا بدا ان الادارة الاميركية الحالية تسترشد بتصورات اتنوغرافية - سياسية تعود الى زمن الحملات الاستعمارية في القرن التاسع عشر (خصوصاً الحملة العسكرية الانكليزية على افغانستان والتي باءت بفشل ذريع وقاس، واحتلال الهند)، فإن أصحاب النظرية المذكورة يخلصون الى اعتبار ذلك دليلاً ساطعاً على ان التحولات الاجتماعية والسياسية التي حصلت خلال عقود طويلة من الوصاية الأوروبية، ومن ثم في مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني، لم تحقق ترجمتها السياسية في دولة قانون ومؤسسات بسبب تخلف الثقافة الاجتماعية ومقاومتها للتحديث وبسبب الاستبداد الداخلي.

ما يغيب عن كلا النظريتين هو بالضبط المنظار التاريخي المعاصر لتشكل حقل السياسة والدول الناشئة في كنفه. فالمصير الوطني لكل بلد من بلدان منطقتنا لا ينعقد على الحذف الحسابي أو بالعكس، على الجمع الحسابي، بين قوة خارجية طارئة ومكونات داخلية. حقل السياسة يقوم على العلاقة التاريخية بين النصابين هذين، وعلى الرهانات المعقودة عليها. فلننظر مثلاً في آخر الوقائع العراقية وهي حافلة بمفارقات وغرائب تنم عن تحويل خريطة الانقسامات الى متاهة حقيقية. فاللجنة الخاصة التي شكلها الكونغرس الاميركي بدعم من إدارة الرئيس بوش ويرأسها وزير الخارجية السابق جيمس بيكر، تنوي التقدم باقتراحات لاجراء تغييرات كبيرة على استراتيجية الولايات المتحدة في العراق. ويجري الفتكير داخل هذه اللجنة، بحسب معلومات صحافية أميركية، في سحب القوات الأميركية على مراحل، وفي اشراك إيران وسورية في جهود مشتركة لوقف الاقتتال في العراق. في الوقت ذاته، يعلن تنظيم «مجلس شورى المجاهدين» التابع لتنظيم «القاعدة» عن ولادة «إمارة إسلامية» في العراق تشمل محافظات بغداد والأنبار والموصل وديالى وأجزاء من بابل، وتستثني كردستان والجنوب الشيعي. وتؤكد عشائر سنّية في الأنبار عزمها على محاربة «القاعدة» وطردها من المناطق التي تسيطر عليها، لأنها تسعى الى تقسيم العراق. وفي الوقت ذاته ايضاً يعلن متحدث باسم «الجيش الإسلامي» أمام صحافيين في منطقة كركوك أن مبادرة «الجيش الإسلامي» الذي يضم 17 فصيلاً، ما تزال قائمة، «لكننا لا نتفاوض إلا مع القوى الحاكمة وهي الاحتلال. فنحن والأميركان نحكم ونسيطر على وضع العراق». ويؤكد هذا المتحدث أن العمليات ضد الاحتلال مستمرة، و»لا خيار لهم سوى العودة الينا لضبط الأمن والتخلص من هذه الفوضى التي جلبوها للعراق والمنطقة».

وكانت عشائر سنّية في كركوك نظمت تجمعاً شارك فيه علناً بعثيون وجماعات مسلحة أخرى، وطالبت باطلاق سراح صدام حسين الذي رفعت صوره. ولم يبخل هذا الأخير بإطلالة خطابية يدعو فيها، من سجنه، الى ضبط العنف وعدم الانجرار الى الهوى والطيش، و»إلى التسامح بدل التشدد مع من تاه وأضاع الدرب الصحيح». وها هنا، يمكن للمرء أن يسأل لماذا لم تجر محاكمة الرئيس المستبد المخلوع إلا بعد أكثر من سنة على اعتقاله؟ ولماذا تحولت هذه المحاكمة إلى نوع من المسلسل الإعلامي الفولكلوري؟ ولماذا لا تجري محاكمته في محكمة دولية ما دام متهماً بجرائم ضد الإنسانية، علماً أن خلعه يكاد يكون المبرر الأخلاقي الوحيد للحرب الأميركية على العراق واحتلاله، بعدما تبيّن أنه لا يمتلك أسلحة دمار شامل ولم يكن على صلة بتنظيم «القاعدة»، وهما الحجتان اللتان جرى النفخ فيهما بمقاييس فلكية مشبعة بالأكاذيب والتلفيقات. من خلال الدعوة إلى «اجتثاث البعث» جرى اجتثاث الدولة العراقية التي استولى عليها المستبد وحاشيته. ويجري في فلسطين شيء من هذا القبيل، ولا يشذ لبنان عن الصورة العامة هذه، وإن كانت حظوظ التسوية الداخلية فيه أكبر. والتلويح باستعادة صدام حسين لبعض مكانته هو وعد بحرب أهلية. لدينا، في العراق وفلسطين، وبدرجة اقل في لبنان، نماذج على كيفية رهن الدولة بعلاقة غير متكافئة بين قوة ضاغطة وقوة مضغوطة. ومعنى هذا أن من يفكر بتعديل العلاقة تنتظره حرب أهلية قاسية.

حسن شامي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...