فلسفة إرنست بلوخ ( ١٨٨٥-١٩٧٧)
- عبد الغفار مكاوي
على الرغم من صعوبة تلخيص فلسفة تَعُدُّ نفسها رسالة ثورية حيَّة، ودعوةً موجَّهة للإنسان لتحقيق الحلم والأمل الكامن في المادة ذاتها لا في وعْيِه ولا وعْيِه وأحلام يَقَظَتِه فحسب، فيمكن إجمال معالمها الهامَّة على النحو التالي:
ظلام اللحظة المَعِيشَة
يمكن القول بأن فلسفة «بلوخ» تنطلق من الوصف الخالص لظواهر الوعي الذاتي للإنسان وتجاربه، ومن تأمُّل الشواهد الدالَّة على إرادته المبدعة عبر التاريخ البشري؛ لتصل إلى رؤى عامة في تركيب الوجود نفسه وبنائه الأنطولوجي (أي من ناحية نظرية الوجود العام) والأنثروبولوجي (أي من جهة الدوافع الأساسية المحرِّكة للإنسان). وقد ظلَّت تجربة الوجود الشخصي المُتناهي، وعَرَضِيَّة الوجود الكوني لنظامنا الشمسي بأسره، وراء الدَّفعة الإنسانية والثورية لذلك المنطلق. ولم يكتفِ بلوخ بتقرير هذه العرضيَّة وذلك التناهي — اللذين يشترك في مُعاناتهما مع كثير غيره من فلاسفة العصر وبخاصة فلاسفة الوجود — وإنما توغل في مفارقة «اللحظة المعيشة» التي تَنْساب وتَفْلت منَّا مهما امتلأت تجربتها بالسعادة، وتَعْبُر وتزول مهما توهَّمنا أنها هي «لحظة الأبدية» والخلود، وابْتَهَلْنا إليها على لسان فاوست: «تَرَيَّثِي قليلًا فما أجمَلَك!» فنحن نخرج — في هذه اللحظة العميقة المُمْتَلِئة التي سرعان ما يُغَيِّبها ظلام «الماضي» — بمعرفةٍ يُمكن التَّعبير عنها على هذه الصورة: «أنا موجود، ولكنِّي لا أملِك نفسي»، فوجودي يفرُّ من قبضتي. ويُصبح السؤال الأساسي: متى يعيش الإنسان إذًا على الحقيقة؟! غير أن بلوخ لا يتوقَّف عند هذا السؤال الحزين، فالتجربة الأليمة بالتَّناهي الزَّماني والمحدودية المَكَانية التي تَتَخلَّل اللحظة الممتلئة، تجعله يكتشف «إمكان» التحقُّقِ الكامل والامتلاء غير المحدود في صميم ذلك الألم والحزن؛ ولهذا يفاجئنا — بعد القول السابق بأنه لا يملك نفسه — بهذه العبارة الواعدة: «ولهذا سنصِير في المستقبل»، وكأنما لَاحَ له بريق النور الدائم في ظلام اللحظة المعيشة؛ إذْ لو كان التعرُّف على السعادة الكامنة في هذه اللحظة أمرًا متعذِّرًا، لما أمْكَنَ أن يُصبح الافتقار إليها مُشكلة. وتجربة هذا الافتقار أو النقص دليل على أن الإنسان لا يُسَلِّم به ولا يَسْتسلِم له، وإنما يبذل جهده على الدوام لتجاوزه وملئه. يرى «بلوخ» أن الحنين والشوق إلى «الإنسانية الكاملة غير المحدودة» الذي يتمثَّل في الأمل والحلم «اليوطوبي» الدائم بمملكة الخلاص والحرية، هو المضمون الحقيقي للإبداع البشري في مختلف مظاهره الحضارية والثقافية والفنية والدينية … إلخ، سواء نظرنا إليه من خلال الحكايات الخرافية القديمة أو اليوتوبيات (المدن المثالية الفاضلة) الاجتماعية العديدة، أو في «الإيمان بوجود الله» في الديانات السماوية وغير السماوية، أو عبر الحضارات والفلسفات الشرقية والفكر الفلسفي اليوناني وفلسفة العصور الوسطى والحلم بمملكة الله المسيحية، مرورًا بفلسفة عصر النهضة ومذاهب الفلسفة الحديثة — وبالأخصِّ الفلسفة المثالية الألمانية عند هيجل وشيلنج في فلسفته المُتأخِّرة عن الطبيعة — حتى الفلسفات المعاصرة وبخاصة فلسفة الحياة وفلسفة الوجود، بجانب ما لا يُحْصَى من المذاهب والتيارات والاتجاهات والأعمال الأدبية والفنية — في الموسيقى والعمارة قبل كل شيء — ممَّا يكاد يستوعب مظاهر إبداع العقل البشري في الموسوعة الثرية الهائلة التي يضمها كتابه «مبدأ الأمل». والواقع أن هذا الكتاب الضخم لا يقلُّ أهمية عن ظاهريات الروح لهيجل، تسري فيه روح صوفية ودينية ووجودية تتفاعل مع اشتراكية ماركس وإنجلز والرؤى المختلفة عن نهاية العالم والتاريخ، والتبشير الثوري والمأساوي بحتمية الخلاص، في لغة متدفِّقة وغنيَّة بالصور الشاعرية — وإن كانت لا تخلو من الغموض والتشوُّش والبُعد عن التنظيم المنطقي والاتساق المنهجي! — وتُرَدِّد دعوةً ملِحَّة للإنسان أن يجد نفسه، وأن يتَّحِد بالوجود الكلي الواحد الذي أصبح رمزًا ﻟ «الماوراء» أو العالم الآخر وبديلًا عنه. وكأني ببلوخ قد خَلَط التصوف والمسيحية واليهودية والاشتراكية وسائر ما أبدعه الروح البشري وقَلَبَها جميعًا رأسًا على عقب، ثم راح يتجوَّل بين أنقاضها داعيًا إلى تحقيق «الأمل» الأكبر والأخير، مُردِّدًا صَيحتَه بأن العالم المادي والتاريخ والوجود الإنساني لم تتحقَّق كلها ولم تكتمل بعد.
أنطولوجيا أو نظرية الوجود الذي لم يتحقق بعد (الليس-بعد)
ليس الإحساس أو الوعي الأليم ﺑ «لا واقعية» الوجود المُتحقِّق في اللحظة السعيدة المُمتلئة مقصورًا على التجربة الإنسانية، فظلام اللحظة المعيشية المنقضية لا يكمن فينا وحدنا، وليس أمرًا ذاتيًّا وحسب، وإنما هو ماثل كذلك خارجنا، سارٍ ومتغلغلٌ في كلِّ شيء. إنه صورة من «الظلام الموضوعي» الكامن في كل موضوع.
بهذا نصل إلى القضية الميتافيزيقية الأساسية: إن الوجود الفعلي المَحْض يفجِّر حدوده الخاصة ويتخطَّى نفسه، وهذا الوجود الأجْوَف الخالص الذي يَحتوينا لا يُهدِّئ من نزوعه الدائب شيئًا، فهو لا يصبر أبدًا على «اللا» الكامنة في «الأنا أكون» أو في «الهو يكون» ولا يُطِيقها؛ ولذلك يتطلَّع على الدوام إلى «الأمام» والجديد، ويتطور بنفسه نحو «الليس-بعد» أو «الوجود الذي لم يتحقق بعد» الذي يرتسم أمامه. هذه «الليس-بعد» أشْبَه ما تكون بنوع من النَقْص الذي يتعيَّن عليه أن يتجاوز نفسه، هي أشبه بذلك «الرعب من الخلاء» الذي كان يُحِسُّ به القدماء ويشعرون بضرورة ملئِه بالوجود، وتخطِّيه بالنزوع المستمرِّ إلى الواقع المُتحقِّق. وهذا النزوع نفسه تعبير عن «الجوع» الذي يرى بلوخ أنه دافع أساسيٌّ داخلٌ في «بِنية» كلِّ موجود، أي إنَّه بِلُغة الفلسفة المختصَّة «مقولة أنطولوجية».
ومع الأمل وبالأمل يصبح «الليس-بعد» أو «غير المُتحقِّق بعد» هو «إمكان» الوجود على المستوى الإنساني. وكما تشعر «الذات» بأن عدم تحققها أو «عدم امتلائها» هو الذي يدفعها أبدًا إلى ضرورة تَجاوُز وضعها الحاضر الذي لا ترضى عنه ولا تكتفي به — وبذلك تمثل نموذج «الذات الطبيعية» التي تُحفِّز الطبيعة المادية والحيوية إلى تجاوز نفسها في أشكال متجددة باستمرار — فإن «الأمل» في رأي بلوخ ليس مجرَّد «حلم يَقَظة»، ولا هو مجرَّد فكرة أو اعتقاد أو ميل يحرِّك الإنسان في كلِّ فعل يُقدم عليه وكلِّ إبداع يوَفَّق إليه، وإنما هو — قَبل ذلك — الخاصية الأساسية والمُقولة الرئيسية للوجود من حيث هو وجود. ويرتبط هذا بتصوُّره الطَّريف عن المادة الذي سنقف الآن عنده وقفة قصيرة.
تصور المادة
عرفنا أن «الإمكان» هو أهمُّ مقولات «أنطولوجيا» الليس-بعد أو الوجود الذي لم يتحقق بعد. ولكي يحدِّد بلوخ هذه المقولة بوصفها إمكان وجود «شيء» في سبيله إلى التحقُّق الفعلي، نَجِدُه يرجع إلى مفهوم المادة عند أرسطو ويتأمَّله من وجهة نظر جديدة؛ فليست المادة هي الوجود بالقوة أو بالإمكان كما نعرف جميعًا فحسب، (كاتا-تو-ديناتون) — أي المادة الأولى التي تمكِّن لظهور الصورة العينية الملموسة — وإنما هي — قبل كلِّ شيء — «الموجود الكامن في الإمكان (ديناموي أون)، أي المبدأ الميتافيزيقي للوجود المُمكن ذاته. ويُؤكِّد بلوخ — دون أن يستطيع العثور في هذه المرَّة على سَنَد من أرسطو! — أن المادة تُبدِع من ذاتها — بفضل الإمكان الكامن فيها وحده — جميع أشكال وجودها المُتنوع، ومن أدنَى مستوياته إلى أعلاها، وهو مستوى الحياة العقلية: «فهي تختمر في «اللا»، وتتولَّد في «الليس-بعد»، وتَحمِل كل شيء وتشعر به وتشمَله، أي إنها تشمل نفسها أيضًا. إنَّ المادة لَتَكون في حركة دائبة، حين تكون في علاقتها بالمُمكِن الذي تنفتِحُ عليه في داخلها وجودًا لم يَبْرُز أو لم يظهر بعد، وهي ليست سلبية أو مُنفعلة كالشَّمع، وإنما تحرِّك نفسها أثناء تَشَكُّلها على صُوَرٍ مختلفة، وحتى الطبيعة غير العضوية لها يوطوبياها …»
هكذا يكون بلوخ قد قدَّم تصوُّرًا جديدًا للمادة بعد أن تَتَبَّع فكرتَها، كإمكانٍ غير محدود منذ أرسطو وابن سينا وابن رشد وابن جبيرول حتى ممثلي «اليسار الأرسطي» في أواخر العصور الوسطى، ومن جوردانو برونو في عصر النهضة حتى اسبينوزا في القرن السابع عشر، إلى أن اكتملت — في رأيه — في المادية الجدلية والتاريخية عند ماركس وإنجلز (راجع في هذا كتابه الطريف عن ابن سينا واليسار الأرسطي، فرانكفورت مطبعة زوركامب). والمهم في هذا كله أنه قد توسَّع في تصوُّره للمادة أكثر بكثير مما فعلت المادية الجدلية؛ فلم يكتفِ بأن يفهمها فهمًا تاريخيًّا واقتصاديًّا، وإنما جعلها المنبع الدائم لإمكانيات مُتجَدِّدة تتخَلَّق في أشكال مختلفة على مستوى الطبيعة العضوية وغير العضوية، في الكون والإنسان على السواء. وقد ذهب إلى أن الطبيعة المادية هي الأساس الذي يقوم عليه كل تاريخ ممكن، وبالأخص تاريخ العمل البشري المُناضل الواعي الذي يُغيِّر من الطبيعة نفسها دون أن ينفصِل عنها. ومعنى هذا أن تاريخ البشرية جزء من تاريخ الطبيعة، وإن كان في الوقت نفسه هو الضِّدُّ المقابل لها؛ لأنه يقوم على الوعي.
ولما كانت المادة نفسها — كما رأينا الآن — مُتَفَتِّحَة على إبداع الجديد من الناحية الكيفية، ومُتَضَمِّنة من ناحية القوَّة أو الإمكان لكلِّ أشكال التَّحقُّق المُقبلة التي تكمن في داخلها قبل ظهورها أو بالأحرى قبل إظهارها بالفعل، فإن الوَعْي البشري — بما في ذلك اللاوعي وما قبل الوعي، وبوصفه تأمل المادة لذاتها! — يُمكن أن يعكس مَجال الإمكان لِمَا لم يُوجَد أو لِمَا لم يَتحقَّق بعدُ. وهنا يكمُن مبدأ «الأمل» ومقُولته الأساسية — وهي الإمكان أو «الليس-بعد» — التي تحتل مكانة بالغة الأهمية في رؤية بلوخ الفلسفية.
مقولة الإمكان والليس-بعد
عرفنا أن العالم الموضوعي عالم لم يكتمل بعدُ؛ ولذلك ينعكس على وعي الذات البشرية في صورة السُّخط على واقعها والرغبة في تجاوز معطياته. ومبدأ الأمل هو القوة الفعالة المُغَيِّرة لهذا العالم، وقد تطوَّر عن جذرين أساسيَّين، أحدهما وجودي (أنطولوجي)، والآخر إنساني (أنثروبولوجي).
أمَّا عن الجانب الأنثروبولوجي، فيرى «بلوخ» أن الدوافع هي الأصل في السلوك الإنساني، وأن التاريخ يحرِّكه دافعان هما الجوع والأمل؛ فأوَّل ما يُواجه الإنسان هو الحاجة أو الافتقار و«اللا — تملك». إنه لا يملك ما يجب أن يملِكَه لكي يَصِل إلى حدِّ الرِّضا والإشباع؛ ولهذا يتجاوز «الهُنَا والآن» باستمرار نحوَ ما لم يحصل عليه بعدُ، حتَّى إذا تملَّكَه تَجاوَزَه من جديد إلى غيره. هذه «اللا» ليست مجرَّد سلبٍ أو نفيٍ منطقيٍّ، وليست عَدَمًا ولا مواجهة للموت الحاضر فينا وفي كلِّ ما هو موجود — كما عند بعض فلاسفة الوجود مثل هيدجر، أو بعض الوجوديين مثل سارتر — وإنما هي المحرِّك أو المسار الجدلي للواقع الطبيعي وللوعي.
من هذا التحديد الأنثروبولوجي اشتَقَّ «بلوخ» التحدِيدَات الأنطولوجية والمقولاتيَّة التي ذكرناها. ولقد سبق ﻟ «سارتر» في كتابه «نقد العقل الجدلِيِّ» أنْ وصَفَ الإنسان بأنه هو الكائن المُحتاج، ولكنَّه لم يَستخلِص من هذه الحقيقة سوى تأكيد انتقالِه من المجال الطبيعي والحَيَوي إلى المجال الاجتماعي والإنتاجي، وتقرير أصل العمل. أما «بلوخ» فيتوسَّع في الحقيقة السابقة، ويرى أن العَوَز أو «اللا — تَمَلُّك» — باعتباره البناء الأنثروبولوجي للإنسان — من حيث هو كائن يتَّسِم بالوعي والاحتياج والافتقار — هو علامة «اللا» الكامنة في الوجود، أي علامة تركيبه أو بنائه الجدلِيِّ نفسه. واللاوجود ليس نفيًا للوجود ولا عدَمًا، وإنما هو النفي أو السَّلب الكامن في الوجود نفسه، والذي يُمكن «رفعه» أو إلغاؤه وصولًا للوجود ذاته. وهذا تعبيرٌ عن المقولة الأساسية في فلسفة بلوخ، وهي مقولة الليس-بعد — كما سبق القول — التي ترتبط بدورها ارتباطًا وثيقًا بمقولة الإمكان المُبدع — إذا جاز هذا التعبير — في صميم تركيب المادة، أو بالأحرى «وعي» المادة أو «ذاتها».
مَمْلَكة الحريَّة والاكتِمَال والامْتِلاء
ما هي نتيجة «عملية الصَّيرُورَة» الهائلة هذه؟ إنها في الواقع تَحتَمِل أمرين يبدو أنْ لا ثالث لهما؛ فإمَّا أن تُخفق وتُؤدي إلى الترَدِّي في «العَدَم»، وإمَّا أن تُوَفَّق فَتُفضِي إلى «الكل». وإذا تمَّ لها التوفيق ارتفع كلُّ اغترابٍ، وتحقَّقت في النهاية تلك الوحدة الجوهرية المُبتَغَاة بين الموجود والوجود، ولا ينفكُّ بلوخ يُهيب بهذه النهاية أو هذه الغاية المُتَمَنَّاة بكلِّ الأسماء المُمكنة التي تدلُّ على المدلول الأكمل المأمول؛ فهو: الجديد والنهائي والكل والموجود الكامل، وهو النور والخير الأقصى والمملكة، وهو في آخر المطاف يتسَمَّى بأعزِّ وأجمل الأسماء على الإطلاق فيصبح هو «الوطن».
بَيْدَ أن اكتمال مادة العالم لا يمكن أن يمرَّ على الإنسان أو يمرَّ عليه الإنسان مرور الكرام؛ فامتلاء الوجود أو الوجود الممتلئ متوقف على جُهدِه ومبادرته. إذا تنَكَّر ﻟ «اليوتوبيا» — أو بالأحرى لوعيه بها وحركة شوقه المُلِحِّ إليها — أمكن للعالم أن يَسقُط في حضيض «العَدَم»؛ ذلك أن العالم هو «مختبر» نجاته المُمكِنَة أو «معمل» خلاصه المُحتَمَل. وبين الذات البشرية والذات الطبيعية «الصائرة» علاقة باطنية وثيقة. ويؤكد هذه العلاقة أن فاعليَّة الذات البشرية التي تستجيب لأحلامها اليوطوبية هي التي تستطيع أن تُظهر الكائن أو الموجود «الكامن» في العالم في حالة صيرورة. (وكأني ببلوخ يريد للإنسان أن يتقمَّص شخصية «اللغز» الخالد سُقراط ليقوم بدور «القابِلَة» التي تساعد أُمَّنا الطبيعة على الولادة والإبداع المتجدِّد أبدًا).
ويُهاجم بلوخ تلك الفلسفات التي تفترِض — أثناء عملية التوحيد سالِفة الذِّكر بين الموجود والوجود — تحقُّقَ موجود مُسبق أو مِعيار قَبْلي أو أوَّلي؛ فمثل هذا الافتراض من شأنه أن يَستَبعِد صيرورة الجديد الواقعي، ولن يكون في الحقيقة إلَّا نوعًا من النُّكوص أو التراجع. صحيح أنًّ النَّواة الذاتية هي شرط إمكان الوحدة التي يُرْجَى تحقُّقُها، إلا أنها تظلُّ بالضرورة «شرطية» أو افتراضية، ومن ثَمَّ لا يجوز مقارنتها بالروح الهيجلي المُطلق ولا بالمُثُل أو الصور الأفلاطونية المُتَعالية؛ بل إنَّ بلوخ — المُصِرَّ على ماديَّتِه المَزعومة برغم كلِّ الأنفاس الدينية والصوفية والمِثاليَّة التي بَثَّها فيها — لَيَصِلُ به الأمر إلى حدِّ الرفض العنيد لفعل الخلق الإلهي؛ لأنَّ الموجود الأكمل وهو الله سبحانه لا يُمكن في زعمه أن يُوجَد إلا في نهاية التَّطور المُنبَثقِ من صميم الإمكان الخالص لا في بدايته كما يعتقد المؤمنون.
اليوتوبيا المضادة
وأخيرًا يعترِف «بلوخ» بأن الموت يضع مشروع أمله موضِع الشكِّ، ويُثير حوله عاصفة التَّساؤُل. غير أن الموت في رأيه ليس هو الكلمة الأخيرة، ولا يُمكن أن تخرج «يوتوبياه المُضادَّة» مُنتصِرة على اليوتوبيا الاشتراكية الإنسانية التي يصفها بأنها هي وحدها اليوتوبيا «الواقعية».
ولكن كيف يتصوَّر هذا الانتصار على الموت؛ أي على «اليوتوبيا المضادة» المُتربِّصَة بالواقع الكوني وبالواقع الإنساني في كلِّ لحظة من لحظات اليَقَظة والأحلام؟ هل يتَحَقَّق — كما قال في كتابه المُبكِّر «روح اليوتوبيا» (١٩١٨م) — عن طريق نوع من النُّضوج التدريجي الذي ينتهي إلى عَملية «معرفة ذاتيَّة» على المُستوى الكوني؟ أم يمكن التخلُّص من اليوطوبيا الضِّدِّ المُمِيتة، أو على الأقلِّ التهوين من رُعبها وخطرها باللجوء إلى حلم الجماعة الاشتراكية العادلة الكاملة، هذه الجماعة التي سيَحْيَا في ظلِّها الإنسان الذي أصبح في النهاية إنسانًا مُتفرِّغًا للسَّعادة المُبدِعة أو الإبداع السعيد؟!
الواقع أن هذا هو الذي يحاوله بلوخ في كتابه الأكبر «مبدأ الأمل». غير أنه لا يقتصِر على ذلك، بل يشير إشارات غامضة إلى نوع آخر من الحياة (التي لا يُهدِّدُها كابوس «هادم اللذات ومفرق الجماعات» كما نقول في أمثالنا العربية)، أو نوع آخر من «الإمكان» الذي لا يعرِف الفناء المُرتبط بالصَّيرورة على الدَّوام؛ ذلك أن الموت الذي يمثِّل القضاء المُطلق على كلِّ مضمون مستقْبَلِيٍّ، هذا الموت نفسه الذي يتَهدَّد الفرد والكون على السواء، سوف يَنغمِسُ ويذوب في تلك الحالة الأخيرة أو الحالة «الجوهرية» التي تستضيء ﺑ «الفرح المعلن» وﺑ «أنوار الحق الكامنة». عندئذٍ لا يكون الموت نفيًا ﻟ «اليوتوبيا» وأهدافها، بل سيكون على العكس من ذلك نفيًا لكلِّ ما لا ينتمِي في هذا العالم لليوتوبيا. وعندئذٍ لا ينطوي مضمون الموت نفسه على الموت؛ لأنه سيكون نوعًا من الكشف عن المضمون الجديد المُكتسب للحياة، وإظهار اللبِّ أو الجوهر الحقيقي إلى النور.
بِمثلِ هذه الصُّور المَجَازيَّة والشاعرية المُحيِّرة يحاول فيلسوف الأمل أن يعبِّر عن التحوُّل المُنتظر للعالم والتاريخ نحو الأمل الأخير.
***
المصدر:النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت: تمهيد وتعقيب نقدي (١٩٩٤)عبد الغفار مكاوي
إضافة تعليق جديد