غسان رفاعي: أوراق نجت من الإتلاف
البارحة انتهت «الإجازات»، وعاد هواة الاستجمام إلى أقفاصهم المهنية، وعبقت الفضاءات الثقافية والاجتماعية « بالواعظين الموسميين»، المولعين باصطياد المناسبات لإفراغ حمولتهم من «الفنتازيا» وقد تلاحمت أمام ناظري، بهذه المناسبة أوراق قديمة استعصت على التلف، فاخترت منها أربعاً، لارتباطها المحرج بالأحداث الطازجة.
ـ 1 ـ
لا لسنا فرسان الكلام!
إن الإنسان العربي الذي يتهم عادة بأنه يفرط في الكلام أكثر من اللازم ويهدر مخزونه اللفظي دون طائل، لا يتكلم بما فيه الكفاية، أو على الأقل، لا يكثر من الثرثرة الحرة، بما فيه الكفاية، مفضلاً الاستقالة اللفظية دون مبرر، ثم إن الذين يتكلمون يؤثرون دوماً أن يدرسوا ما يتكلمون عنه بعناية زائدة، حتى أضحى الكلام أقرب ما يكون إلى «التقارير المصمغة» التي تخلو من البراءة والعفوية، ثم إن ثرثرتنا هي ثرثرة موظفة توظيفاً مصلحياً، ويغلب عليها «الانتهاز المسكين»، إذ ما معنى هذه الأمثال التي تغزو حياتنا « ابعد عن الشر وغن له»، أو «فخار يكسر بعضه» أو «اليد التي لا تقدر عليها قبلها وادع عليها بالكسر»، إنها تطالبنا، بكل وقاحة بألا نفتح أفواهنا إلا لتأمين حاجاتنا الآنية المباشرة، وتحظر علينا التحدث بالقضايا العامة، حيطة وتحسباً، بل إنها تجعل من أعظم القيم سلعاً تخضع لقانون الربح والخسارة.
يقدِّم المستنكفون عن الاسترسال بالكلام الحر أربعة أسباب لتبرير موقفهم البائس الرخو: أولها أنه كثيراً ما يكون الكلام فناً لاخفاء الفكرة، وإذاً لا بد من الصمت لايقاف الرقص المجنون بالألفاظ، وثانيها قد نقع أسرى «اللعبة اللغوية» وعندئذ لا تصبح الحقيقة هدفنا، وإنما التلذذ بالمهارة اللفظية، وثالثها يفقد الكلام قيمته حينما يصبح «وظيفة إعلامية» ورابعها لا فائدة من الكلام لأنه: استوى الماء والخشب لدينا، وتولد اليقين بعدم الجدوى، سواء تكلمنا أم أخلدنا إلى الصمت.
ولست مقتنعاً بهذه الحجج ومازلت مصراً على ضرورة الثرثرة.
من المحتمل أن ينزلق الكلام ليصبح فناً لإخفاء الفكرة ولكن الصمت هو دوماً مؤامرة لاغتيال الفكرة، المتكلم ـ صادقاً كان أم دجالاً ـ مفضوح، وإذاً يمكن محاسبته، ايجاباً أو سلباً ولكن الصامت ـ نزيها كان أم مدعياً ـ مستقيل، متوار، وإذاً يتعذر القبض عليه، مأساة الوطن العربي هي في تضخم عدد المستقيلين، خوفاً أوقرفاً أو يأساً، لا في تضخم عدد الثرثارين الذين «يجيدون فن إخفاء الفكرة»، إن قساوة المعركة في الوطن العربي ما عادت تسمح بازدهار هذا الفن «المشبوه».
إن أكثر ما نشكو منه، هذه الأيام هو ليس غزارة المهارة الكلامية، وإنما اختفاءها نهائياً، والسمة المميزة لعصرنا هي ليست في كون الغث يعتقد أنه دسم عتيق، وإنما في مطالبة الغث بحقه في أن يكون غثاً، وبمعنى آخر، أصبحت الغثاثة من الحقوق المشروعة، لقد اختفى فرسان المهارة الكلامية، وطفا على السطح فرسان الغثاثة، وهؤلاء لا يتكلمون، وإنما يجعلون من صمتهم ضجيجاً ومن خوائهم امتلاء.
لم يعد الكلام «هواية مترفة» إنه وظيفة اجتماعية وسياسية، ولم يعد الكاتب إنساناً «فائضاً عن الحاجة» إنما هو «محترف» يؤدي وظيفة أو مهمة خطيرة للغاية، لقد مللنا الكلام «المتطفل» الذي يملأ الساحات دون دعوة رسمية، وضقنا ذرعاً بالكتاب الهواة الذين يحتشدون في كل مكان، حاملين معهم براءة مصطنعة، وتعالياً مزوراً، إننا بأمس الحاجة إلى الكتابة ـ الوظيفة، وإلى الكتاب المسؤولين فهؤلاء وحدهم يقدمون الأدب الرفيع، والحضارة اللائقة.
ـ 2 ـ
لا للجثث المتجرجرة
ما أعجز الأقلام التي تملأ أعمدة الصحف بسواد ألفاظها عن احتواء ما نعانيه ونكابده، وعن التفاعل مع فواجعنا، بحرارة ونزاهة، إنها تجترح لنا، مجاناً، تبريرات جمالية، ترضي كبرياءنا ولكنها تستغفلنا، إن الواقع التاريخي المتحرك يبقى دوماً ينبوع كل بناء فوقي، ولكن الذين يتخوفون من حركة التاريخ يميلون دوماً بسوء نية مبيتة، إلى تعويم مفهوم للطليعة، فوق التاريخ، إما باصطناع تعارض مزوّر بين الفكر والتاريخ وإما بالإسراف في ربط الفكر بالتاريخ، وكلا الاتجاهين لابد من أن يؤدياً في نهاية المطاف، إلى إلغاء دور الطليعة، فقد نتحدث عن قيم وفضائل سرمدية، وهذا ما يدفعنا إلى سحبها نهائياً من تاريخ المناداة بها، بحيث تنقلب إلى جثة عطرة تتجرجر من عصر إلى عصر دون أن تفقد معاصرتها، وحينئذ قد تنتقل كالإرث الملعون من جيل إلى جيل، وهذا بالضبط ما يفعله «التراثيون» الذين يعودون بنا إلى قرون وسطى، باسم «البراءة العقائدية»،وقد نبالغ في تقديس الحداثة، بغض النظر عن المضمون والشكل، وحينئذ يحق لنا أن نسخر من كل مثقف لايزال يعجب بالمتنبي أو المعري، إلا أن عملية التقويم بشقيها المتضادين، تفقدنا الحكمة، وتجعلنا حمقى، نجيد «الهذر» لا يجوز أن تباغتنا الأحداث فتسقط عنا «ورقات توت» كنا نتدثر بها، كما لا يجوز أن تغرقنا الأحداث بين لججها، فتجعل منا جثثاً مرمية على الشواطئ.
ـ 3 ـ
الجريمة السياسية وماري أنطوانيت
طفت على سطح المطارحات الساخنة الملكة التعيسة «ماري أنطوانيت» التي تدحرج رأسها على المقصلة بعد أن أقدمت أميركية مولعة «بالصرعات» على إخراج فيلم عنها، يمتاز بالسطحية وسوء فهم، لقد اختارت أن تركز على حياة «ماري أنطوانيت» في قصر فرساي، ولم تبرز من خصائصها إلا الطيش والبذخ والاستهتار، والغطرسة والولع بالثياب الباذخة والقبعات المزركشة بريش الطواويس والفراء الأبيض واحتقار الدهماء، ما جعلها ترد بسخرية على من قرأ لها فقرة من منشور ثوري يتحدث عن مرارة الجوع الذي يفتك بأطفال الفقراء، وعن فقدان الخبز من الأفران: «ولماذا لا يأكلون البسكويت، عوضاً عن الخبز، هؤلاء الحمقى».
ويطرح المثقفون الموسميون عدة قضايا جادة، مرتبطة بسيرة «ماري أنطوانيت» ضحية الجهل والكراهية والتعصب، في مقدمتها «الجريمة السياسية عبر التاريخ» وكما يقول «جان دومرسون» عضو الأكاديمية الفرنسية: لا يشك أحد الآن في أن ماري أنطوانيت كانت بريئة، ولا علاقة لها بامتيازات النظام الملكي، ولا تجاوزات المقربين من البلاط وقد سيقت إلى المقصلة وكأنها مسؤولة عن الجوع والاضطهاد في فرنسا، وقطع رأسها ولكنها ظلت محافظة على رباطة جأشها وشجاعتها، وقالت قبل هبوط المقصلة على رقبتها : «أسامحكم، أغفر لكم، أنا أفهم غضبكم وأطلب من الله أن يعفو عنكم»..
وقد يكون المطلوب من المثقفين العرب، موسميين كانوا أم غير موسميين، وهم يتعرضون للتاريخ المعاصر أن يرصدوا سجلات «الجريمة السياسية» لاكتشاف طوابير من الأبرياء الذين أعدموا أو قتلوا أو اغتيلوا ولم يكن لهم من ذنب إلا التمسك بمفهوم خاص بالوطنية قد لا يقبل به الجميع ولعل الشعور بالذنب، عبرالتاريخ العربي الإسلامي مازال المحرض لكثير من النزاعات والخصومات التي نعيشها هذه الأيام ولم ننجح في تجاوزها على الرغم من كل الدعوات إلى التسامح والتغاضي والتناسي..
ـ 4 ـ
البدانة والديالوج
نشعر، في لحظة من التوهج أننا جميعاً وعلى امتداد الوطن العربي مدجنون متعفنون لحوم مضغوطة في علب سردين، شفاه دبقة لا تنفرج إلا بترخيص قصبات مجوفة بلا نغم، قلوب مترهلة مثقوبة في الوسط، لقد اختنقنا بما فيه الكفاية في أقبية المونولوج السلطوي، وصوامع المونولوج السلفي، ولم يعد أمامنا إلا أن ننوس كالدراويش بين القناعة المفروضة والاقتناع المنعزل، بين البوح المزور والاحباط القاتل، واحتضر فينا، أو كاد، ذلك الحنين إلى الحوار، إلى الهندسة الروحية، إلى الافتضاح الفكري، وفضلنا هكذا مجاناً أن نحتبس في المقاسات واللوالب والضواغط والغريب في الأمر أننا مارسنا التخلي دون أن نوعد بالثواب، وقبلنا الزلفى دون أن نوعد بالثواب.
نشعر، في لحظة من التوهج، أننا بدينون وأن الشحم يغزونا ويفتض أنفاسنا، إنه شحم روحي، دبق نفسي، تورم غير طبيعي في الروح، وفي الفكر، البدانة هي الاغتراب، السأم، الخوف، الوحدة، الفشل.
إن أكثر ما نحتاج إليه هو كرنفال للألفاظ الجامحة، بازار للأفكار الغاضبة، والديالوج الصاخب، والاشتباك الفكري حتى ولو كان بربرياً.
غسان رفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد