غازي أبو عقل : ونفسك أكرمها ...
الجمل- غـازي أبـو عقـل:
ونفسَكَ أكرِمْها فإنكَ إن تَهُنْ
عليكَ .. فما شَخْصٌ لها قَطُّ يُكْرِم
أَسدَى هذه "النصيحة" مُعلّمُنا الراحل صدقي اسماعيل في مُعَلَّقة العام 1951 التي نُشرت بعدئذ في صحيفة "الكلب". وعلى قلّة اطلاع "مبدعي" هذه الأيام على تلك المعلّقة، إلا أنهم أخذوا بتلابيبها وراحوا يتسابقون إلى احتفالات "التكريم" في مشارق أرض العروبة ومغاربها. لا ضير في هذا السعي مبدئياً لولا بعض الشوائب العالقة به بنيوياً، بمعنى حضورها الدائم في النسق الأول من هذه "الاحتفالات". فلنحاول التوقف قليلاً عند كل شائبة.
أُنوّه أولاً بشائبة عالقة بظاهرة "التكريم" السائدة لدينا، هي الالتزام شبه الحَرفي بالمعنى المباشر للكلمة، والتوقف عند "محاسن" – كدت أقول الفقيد - وإيجابياته، أي غلبة الشخصي على الموضوعي، وإضفاء هالة "طهرانية" تقريظية غير نقّادة على الأشخاص تُرسّخ نوعاً من صفة القداسة في مجالات ينبغي لها البعد عن هذا المفهوم، مع أن بعض الاحتفاءات تُوسَم "بالتكريم والنقد"، مع الأخذ بوجه واحد من وجوه معنى "النقد".
تُقام في بلدان (أجنبية) تهتم بالثقافة والفكر، ندوات تعالج شؤونَهما وتتعرض بالنقد والتكريم إلى الأشخاص ذوي الاهتمام بالموضوع المطروح للبحث. وهم يقومون بالاستعدادات المتنوعة الضرورية، قبل مدد طويلة من موعد انعقاد تلك الندوات، مما يتيح لمن يريد المشاركة الوقت اللازم لإنضاج ما يريد قوله. بينما يُدعى إلى ندوات التكريم والنقد في دنيا العروبة قبل وقت قصير دائماً من موعد انعقادها انسجاماً مع أسلوب السَّلْق السائد في المجالات كلها، باستثناء مجال واحد منها. في الدول المُتَحضّرة يطالبون الراغبين في المشاركة أن يدفعوا بدل اشتراك مادي معروف القيمة سلفاً، وأن يتحملوا نفقات السفر وأحياناً تكاليف الإقامة. بذلك يختصرون "المتوافدين" على الثقافة والفكر، ويحبطون مسعى مدمني التنقّل بين حفلات التكريم حاملين معهم بضاعتهم الكاسدة، ومنهم من يحمل النص نفسه إلى احتفالات عدة مع تعديل طفيف.
أما عندنا، "فالتكريم" لا يُعلن عنه إلا بعد تأمين الجهة التي سوف تتحمل العبء المادي، وهي وحيدة في الأعم الأغلب، أي دافع الضرائب، وأحياناً بعض المحسنين الساعين إلى أنوع جديدة من الثواب لتبييض أموالهم كما هو سائد في عصر العولمة المتوحشة كما يُقال.
أتخيل ندوة تكريم تقام "لمبدع" ما يطلب منظموها من الراغبين في مديح المُكَرَّم بما ليس فيه دفع تكاليف السفر والإقامة. أيكون من قبيل التشاؤم تضاؤل عدد "المتكلمين" واكتفاؤهم بإرسال مدائحهم عبر الشبكة العنكبوتية أو عن طريق SMS إسوة بالعشاق الجدد الذين يَتَطاحَون الهوى على الهواء مباشرة، مما نشاهده في عشرات الفضائيات ذوات الاختصاص.
من أكثر الشوائب أهمية في موالد التكريم العربية المعاصرة، رفض المبدع المُكَرَّم أي نقد يُوَجه إلى موضوعاته لا في "المُولد" ولا في مكان آخر. بخاصة إذا كان النقد موضوعياً يشير إلى الهنات والأخطاء والخطايا السائدة في الإبداع العربي المعاصر. لكأني بمبدعينا يلتزمون بما قاله الأديب الفرنسي اندره جيد (1869-1951 – نوبل 1947): "نحن نغضب مما نستحقه فعلاً من انتقاد أكثر من غضبنا من النقد الذي لا نستحقه".
يلاحظ من يتابع موالد التكريم وولائمه علاقة طردية بين تناقص حرية التعبير التي لا يتمتع بها المبدعون وبين تزايد تكريمهم بأشكال شتى، وتضخم المبالغ المرصودة لهذا التكريم التي يتحملها دافعو الضرائب عادة. ففي منطقة يتفاقم فيها التعصب المتنوع، وتكثر فيها نماذج من الرقباء على الفكر والتفكير والتعبير ليس لهم مثيل في الدنيا كلها، نجد المبدعين المكرمين يرفلون في ملابس الفرح الغامر، في حين ينبغي لهم معاناة الاكتئاب والإحباط ووساوس الرغبة بالإنتحار.
لا أظن أن أي نوع من أنواع تكريم المبدعين يرقى إلى سوية تكريمهم بزيادة مجالات حريتهم وحمايتهم من أي اعتداء عليهم، باستثناء نقدهم بالوسائل القانونية المتحضرة.
من شوائب تكريم المبدعين في عصرنا، تصدي أنظومات ثقافية ينضوي تحت راياتها أكثرية عددية ملموسة من "المبدعين"، تصديها لإقامة هذه الموالد التكريمية، لكي تنفي عنها ما لصق بها تاريخياً من سمات كونها معتقلات للتفكير الحر، كي لا نقول مداجن حديثة لإيواء "المبدعين" المعاصرين الذين كانوا "كُتّاباً" فحسب بالأمس القريب، تحت ذريعة توفير المسكن والدواء وخدمات مماثلة تُعتَبر من حقوقهم الأولية التي يجب توفيرها لهم ولغيرهم من المواطنين.
أجد من الضروري توجيه سؤال بريء إلى "النقّأد" المشاركين في هذه الموالد، سواء كانت على شكل "عدد خاص" من مجلة، أو ندوة يحضرونها أو غير هذين الشكلين، خلاصة السؤال: ما الذي يصيب "أقلامهم وألسنتهم" كلما دُعوا إلى هذه الاحتفالات؟ ليس من لا يُقَدّر ضرورات التهذيب واللياقة، أما التكاذب والنفاق على حساب الثقافة والامتناع عن تسجيل آرائهم الموضوعية بمن وبما جاؤوا إلى تكريمه، فهو إساءة كبرى موجهة إلى المبدعين أولاً وإلى الأجيال الصاعدة وإلى جوهر النقد نفسه.
المؤسي بعد هذا كله ملاحظة تدافع "المبدعين" إلى الحصول على هذا التكريم، وتفاقم إتقان أساليب العلاقات العامة اللازمة لإنجاح الموالد التكريمية، بخاصة أسلوب "إعادة المصعد" (Renvoie de l'Ascenseur) بالفرنسية الذي أسهب في شرحه پ. نيزان Paul NIZAN (1905-1940) مؤلف "كلاب الحراسة" المنشور في 1932، وهي دراسة أراد بها "فضح الفيلسوف الذي يحب إخفاء إسهامه بالأحداث المُلَوَّثة وغير البريئة في عصره، تحت كوم من المفاهيم المُجَدَّدة الكبرى"... فيكتب على سبيل المثال: "سوف لن نقبل إلى الأبد أن يصبحَ الاحترامُ الممنوحُ إلى قِناع الفلاسفة، في نهاية المطاف، مفيداً لسلطة أصحاب المصارف". لماذا لا نغير كلمة "الفلاسفة" ونضع مكانها "المبدعين" وكلمة أصحاب المصارف "بالراتعين"، بعد استئذان السيد نيزان حتماً؟
أعاد سيرج حليمي Serge HALIMI إلى الذاكرة كتاب نيزان في كتابه "كلاب الحراسة الجُدُد" الذي نُشرت طبعته الثالثة عشرة، التي أستعين بها الآن، في ربيع 1998.
لئن انتقد نيزان "مفكّري" عصره على "تبادل المنافع"، فإن حليمي الصحافي يُركّز على "الإعلاميين" بعد اجتياح المسموع والمرئي فضاء "التفكير" وكيف يبرعون في ممارسة طريقة "شَيَّلْني أِشَيَّلَكْ" المعروفة في مصر المحروسة، والمطبقة كثيراً في موالد التكريم التي يزدحم بها فضاء الثقافة المعاصرة.
لا سبيل إلى رفع الظلم عن دافعي الضرائب في بلاد العرب إلا بتحمُّل المشاركين في احتفالات التكريم نفقات الوصول إلى الموالد، جواً وبحراً وبراً، على أن يقوم بأعباء إطعامهم طوال أيام المولد "المُكَرَمون" شخصياً من ريع إبداعهم شعراً ونثراً وسرداً وقَصاً. ذلك أن دافع الضرائب يكفيه عبء قراءة ما يُبدعون مما يدفع ثمنه طائعاً مختاراً. أُغمض عينيّ وأتخيل – والبهجة تملؤني – مولداً تكريمياً يُطَبَّق فيه هذا الاقتراح... أمَا مِن "سيناريست" مأزوم فكرياً، ومخرج فانطازي، يُقْدِمان على صناعة "مسلسل" من حلقتين اثنتين فحسب، نشاهد في الأولى حفلاً تكريمياً لواحد من المبدعين يُطَبق فيه الأسلوب التقليدي التراثي، وفي الثانية حفلاً آخر على الطريقة الجديدة المُقترحة؟ أليس الخيال – غالباً – أغرب من الواقع؟ على نقيض المألوف.
الجمل
إضافة تعليق جديد