عماد شيحة: من السجن إلى الرواية
يبدو أن الكاتب السوري عماد شيحة خرج من السجن بعد تسعة وعشرين سنة إلى معادل آخر للحياة، هو الرواية. لكن روايته الأولى «موت مشتهى» (2005) ذكّرت بالكثير مما يثقل به سجناء سياسيون قدامى وساسة متقاعدون على الرواية بخاصة، وعلى الكتابة بعامة. وفجأة جاءت رواية شيحة الثانية «غبار الطلع» (2006) لتعلن عن صوت جديد، قد يكون غرف بقدر من تجربته، وربما غرف بأقدار من تقاطع تجربته مع تجارب آخرين وأخريات، لكن المهم هو أن «غبار الطلع» جاءت، تُدِلّ بتميزها، ولا ضير إذاً أن تكون قد تعثرت هنا أو هناك وهي ترسم حيوات شبان وشابات تنادوا إلى منظمة - لا تسميها الرواية في مدينة من دولة لا تسميهما - معانقين أحلامهم بتبديد ليل الاستبداد والفساد، فغالبوا حتى ذهبوا بدداً. ولعل الرواية غيبت الأسماء لتلعب على طريقتها اللعبة المتواترة في الرواية العربية: لعبة «الكنائية» التي قد تكون التقية منطلقها أو مبتغاها، غير أنها تترك للقراءة أن تكمل اللعبة، فتجد الأسماء المغيبة في أي مدينة عربية من أي دولة عربية، وفي أي منظمة معارضة وغير دينية.
بعد سنين من المآل إلى البدد تبدأ رواية «غبار الطلع» بعودة أدهم الجبيلي الذي كان على رأس المنظمة، من المنفى. وفي لحظة العودة، في غمر البحر، يبدأ الفعل الروائي الأول: فعل الذاكرة في زمنه المديد، والذي سيعاجله الفعل الروائي الثاني، إثر العودة، في زمن الحاضر القصير.
تجمع الباخرة أدهم مع جميل الذي غادر المدينة، تلهبه عقدة عشقه الأول لمن رفض أهلها تزويجها منه فقضت: ميّ نجار. وبعد أسبوعين من عودة العائدين إلى بيت جميل، يُعتقل، ويغادر أدهم البيت، ليتكشف أن الأول ادعى أنه الثاني فداءً له من الاعتقال. ثم تبدأ رحلة الرواية مع أدهم من شخصية إلى شخصية ممن كانوا وكنّ ذلك الماضي المبدّد، وممن يطلع الحاضر بهم وبهنّ. وبعد أن تستوفي الرواية ذلك تعود إلى جميل في المعتقل، لتنجز الذاكرة ما تبقى لها، بالتوازي مع لهاثها نحو الختام.
تتوزع الرواية التي بلغت خمسماية صفحة في ثلاثة أبواب، يشير غالباً أولها (غابرون) والثاني (سوافي) إلى الماضي، بينما يشير الثالث (تأبير) إلى الحاضر. وعبر ذلك دأبت الرواية على المزج بين الضمائر الثلاثة في أي مقطع سردي، طال أم قصر، مما أنتج درجة أعلى فأعلى من التلغيز، وغلّب الكثافة على الإخبار إلى حد الرهق في مواطن كثيرة. ولئن كانت الرواية بذلك وبغيره مما سنرى، تنخرط في التجربة الروائية الحداثية، فلعله يصح فيها الوصف بـ «العيار الثقيل» الذي يقتضي مشقّة القراءة وصبرها قبل أن تبلغ لذتها. هكذا تلتقط القراءة منذ البداية نتف الذاكرة معتمة ومتهاطلة، مما لن ينجلي إلا بعد عشرات أو مئات الصفحات، فإذا بوالد أدهم صديق وشريك لرجل الأمن المتأله فاتك، وإذا بهما يخليان الحي الذي يسكنانه من سكانه إعداداً لمشروع تجاري كبير. وفي غمرة الصراع يحرق أدهم منزل فاتك وينقذ طفله المعوق قصيّ الذي سيكون قد تفوق على أبيه نفوذاً ووحشية إبان عودة أدهم من منفاه. لكن سرد هذا المآل سيتأخر إلى أن تكون الرواية قد قدمت سرود شخصياتها الكثيرة، وفي إخلاص كبير لمبدأ الاتصال والانفصال بين الوحدات السردية الكبرى والصغرى، حيث لا يكاد يغيب خطر التتويه بين عشرات الأحداث والشخصيات، ومنها العابر الذي لا تخسر الرواية بحذفه شيئاً. غير أن ذلك سيغدو غالباً منعرجات وخطوطاً وألواناً في العمارة الروائية المعقدة، حين تجلو أخيراً جماليتها، على إيقاع السؤال الذي سيبدل صيغه من مبتدأ الرواية إلى منتهاها: «ما الذي حلّ بنا؟».
مع أدهم يصير السؤال: «لِمَ عدت؟»، ويتفتق الجواب. فهذا الذي يرى الجميع يتنكرون له، ويرى أنه بات الوباء الذي يخشون عدواه، كان له في المنفى جرحه الفاغر: موت من أحبها (رماح) والتي كانت تصدعه: «ما عدت تصلح للعودة (...) ما عدت تنتمي لوطن (...) حتى ذاكرتك ما عادت تنتمي إلا للدمار». فهل كانت عودته رد فعل على موت رماح؟ لكن الأهم حبيبته منذ عهد المنظمة: (رحاب) التي ظلت تنتظر عودته، وقاد كل منهما حدسه إلى لقاء الآخر في مصادفة معجزة، وإذا بسبب العودة يتقلب بينهما: الحنين؟ الخواء؟ من أجل رحاب؟
حين يلح أدهم على رحاب أن ترحل معه من جديد إلى خارج البلاد، لا ترفض فقط، بل تنتهي منه، بينما يشكو هو من أنها لا تريد أن تفهم «أننا لا نستطيع البدء هنا... لا نستطيع البناء فوق خراب». وهكذا هو إذاً ما انتهى إليه أدهم الذي ظل بالنسبة لصفاء «من القلائل الذين لم يتعفنوا في الزنازين أو يخرجوا مستلبين أو كافرين أو جاحدين، ولم يغرهم المنفى ويقطع صلاتهم إلى أبد الآبدين، أقله أن يبقى ما نتطلع نحوه أو نتكئ عليه حال نضعف أو نقارب تخم الانهيار». لكن أدهم ليس أمثولة لفريال التي كانت عضواً في المنظمة، بخلاف صفاء. ولئن كان بناء شخصية صفاء قد جاء بالغ الاستواء، مثلها مثل رحاب، فقد بدا الامتياز الأكبر في بناء الشخصية الروائية مع فريال التي ستتشظى قصتها في مواطن شتى من الرواية، شأن سواها في النصف الأول من الرواية، حيث سيلي من بعد تقديم قصة الشخصية أكبر انتظاماً وتسلسلاً.
أمضت فريال سنوات في السجن تحولت بعدها إلى مخبرة. ويبدأ ظهورها في الرواية حين تزور الرسام ابراهيم الذي يغدق عليها صفاته: حورية الجحيم/ سيدة الصراحة/ عنكبة سامة... وفي المقابل ترمي فريال بشواظها هذا الذي كان واحداً (منهم) فاختار السلامة، أي دمّر ذاته، وهي تدعوه إلى أن يتخلى عن «القذارات» التي يسميها مبادئ وقيماً، ليرسم ما هو رائج، ويقيم معرضاً يتقرب فيه من أولي الأمر. ولا توفّر فريال أحداً من رعيل المنظمة البائدة «باقي المهووسين والأغبياء الذين حسبوا أنهم سيغيرون العالم بعصاهم السحرية، وحين وجدوا أنفسهم منغمسين في دمائهم ودماء أصدقائهم، قالوا: نحن شهداء درب سيصل نهايتها القادمون! مرحباً... لستم سوى غابرين». وستتقاطع هذه الأهجية مع ما ستندب به حنان ما آلت إليه المنظمة: «نجحوا في تشويهنا حتى بتنا نشك في أنفسنا وفي أقرب الناس إلينا، وربما كرهناهم كما كرهنا أنفسنا والعجز الذي يعتمل فينا». لكن حنان لا تنتقم من الماضي كما تفعل فريال التي لا تلوم من سرق أحلى سنوات عمرها في السجن، بل تراه دافع عن حقه في إزاحة من هدده. واللوم إذاً هو لمن أدخلوا العتمة في عينيها «على أمل أن شمسهم المظفرة سوف تبزغ من ليلي أنا».
يدرك ابراهيم أن هذه التي رفضت من قبل أن تعمل موديلاً له، قلبتها التجربة شر منقلب، وصارت المثلية التي تحاول جره إلى مستنقعها تبرئةً لنفسها. وها هي تتقفى أثر أدهم لتؤدي مهمتها الأمنية الكبرى. وعبر ذلك ترسم الرواية مشهداً فذاً لفريال في مساومتها لريمة وفي استعار شهوتها. ومثل ذلك يأتي مشهد قتل أدهم لها في بيتها، وهي التي قرأت عودته يأساً وطلباً لغفران من لم يجنوا من السير معه غير اليباب، وها هي عودة أدهم تتسبب لهم في وبال جديد. فجميل الذي يصرّ على أنه أدهم، يفتك به فاتك كما يفتك به السرطان، ويتتوج ذلك بموته في نهاية الرواية، ولكن بعد أن كانت صفاء قد اعتقلت، وبعد أن ألحق بها الآخرون والأخريات، وكانت للجميع على يد فاتك وابنه وجلاديه مشاهد أسطورية من التعذيب. وعبر ذلك كانت الرواية قد أضافت إلى مدونة الديكتاتور في الرواية العربية، ديكتاتورها (الفاتك بأمر الله) و(الرب الصغير)، كما كانت الرواية قد أضافت شخصيات جديدة تجلو وجوهاً جديدة مما بلغته البلاد في ليل الفساد والاستبداد. فمع الشابة جنان التي ربّتها خالتها رحاب - بعد مصرع أبويها في (الحرب القذرة) - تنفتح في الرواية صفحة الجيل الشاب عبر صديق جنان الذي تهرب إليه فإذا هو فخ لتعهيرها. وسيكون إنقاذها على يد «البطل المنقذ» أدهم. والأهم هو الصفحة التي تفتحها الرواية لشخصية السائق الذي يصطحب أدهم في جولاته، ويؤجره منزلاً، ويستضيفه في بيته، ويقدم له زوجته وابنته. ولئن كانت الرواية تتقرى عبر ذلك بحذق جوانية أدهم بين الشهوة والعجز، فقد ظلت اندفاعة السائق إلى أدهم غير مقنعة، في الوقت الذي بدا فيه بناء شخصية السائق، كبناء شخصية ابراهيم من الذكور، يضاهي الامتياز الذي بلغه بناء شخصيتي فريال وصفاء من النساء. وقد بدت لغات السائق وابراهيم وفريال في حواراتها وفي بعض السرود التي أسندت إليها، وحدها ما نجا من سطوة اللغة الواحدة التي قُدمتْ بها باقي السرود والحوارات. إلا أن تلك الخصوصية للغات السائق وابراهيم وفريال لم تدرأ إلا قليلاً أذى الأحادية عن لغة الرواية بعامة، والتي تبدو تركيباً خاصاً من اللغة الروائية التي اشتهر بها إدوار الخراط وحيدر حيدر معاً، حيث تطغى مضاهاة لغة الشعر، وحيث الفيض اللغوي على مقتضى الحالة أو الحدث أو حاجة الشخصية. وقد لا يكون من الطريف فقط أن يشار هنا إلى المفردة التي بات حضورها في الكتابة الروائية لحيدر حيدر علامة فارقة، وهي (آن) سواء أجاءت فعلاً أم ظرفاً، ومفتاحاً أثيراً للسرد التذكيري. وهكذا هو حضور (آن) وأخواتها في «غبار الطلع» كأن نقرأ: آن حاولتا - آنها عادت - آن كادت - آنها...
بكل ذلك تنهض «غبار الطلع» تعرية لتجربة جملة من المثقفين يتقدمهم أدهم (كاتباً) وفيهم جميل (شاعراً) ورحاب وصفاء وابراهيم فنانين. والتعرية بالأحرى هي لتجربة جيل تصدى في شبابه للاستبداد والفساد، وها هو وقد غدا شائخاً وشائهاً يكاد يأسه أن يكون مطبقاً لولا التماعة ترسلها رحاب في رفضها أن تغادر البلاد مع أدهم، أو ترسلها حنان بقولها: «حتى لو كنا مخدوعين أو مخادعين فتلك مرحلة ستنقضي وتؤسس لما بعدها».
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد