علمانيو تونس يدافعون عن الحجاب
مع انتشار الحجاب بين النساء على نحو غير مسبوق في تونس تزايدت المخاوف في أوساط الحكم من أن تكون الظاهرة دليلاً على إخفاق خيار العلمنة الذي انطلق مع الاستقلال (1956) فسارعت الحكومة إلى شن حملة شاملة على المحجبات تزامنت مع بدء السنة الدراسية وتوسعت في شهر رمضان. وركزت السلطات حملتها في البدء على التيارات الأصولية إلا أنها تطورت إلى سجال مع الحركات العلمانية واليسارية التي اعترضت على ما اعتبرته «تعاطياً أمنياً مع ظاهرة ثقافية – اجتماعية».
عندما نشرت مجلة «جون أفريك» الصادرة في باريس أول تحقيق عن المحجبات في تونس عام 1981 كانت الفتيات اللواتي تحدثت إليهن منتميات الى «حركة الاتجاه الإسلامي»، الحزب الذي أعلن عن تأسيسه في الخامس من حزيران (يونيو) من العام نفسه والذي غير اسمه إلى «حركة النهضة» عام 1988.
بعد ربع قرن تغير المشهد تماماً، فالمحجبات لا ينطلقن من موقف سياسي، لا بل إن غالبيتهن الساحقة لا تتعاطى السياسة ولا تحبها أصلاً. وعندما عاودت المجلة هذا الأسبوع نشر تحقيق جديد عن «معركة الحجاب» الدائرة حالياً في تونس لم تذكر مرة واحدة «حركة النهضة».
ويعزو الباحثون ظاهرة التحجب المتسارعة إلى عناصر مختلفة ومتضافرة ساعدت على اعتبار ارتداء الحجاب وإطلاق اللحى ركناً من أركان الهوية. فالحروب الدائرة في المشرق من العراق إلى لبنان دخلت إلى البيوت من دون استئذان بفضل المحطات الفضائية التي لا تغيب عن أي بيت حتى في الأحياء الشعبية. وقالت الطالبة (هند – ك) إنها ارتدت الحجاب منذ ثلاث سنوات أيام الاجتياح الإسرائيلي للمدن والمخيمات في الضفة الغربية، لأنها شعرت «بالقهر والإذلال من دون أن تكون قادرة على فعل شيء لنُصرة الفلسطينيين».
أما الموظفة (سعيدة – ع). فاعترفت بكونها مدمنة على قناة «إقرأ» التي أقنعها الدعاة الذين تستمع إلى دروسهم عبرها «بالرجوع إلى الدين وارتداء اللباس الشرعي». كذلك لعبت الحملة الأميركية على الإرهاب وما رافقها من شعور بقيام حرب حضارية بين الإسلام والغرب، دورا كبيرا في ترسيخ الشعور بالاستهداف لدى قطاعات واسعة من الشباب التونسيين الذين سافر كثير منهم إلى دول الجوار للانخراط في صفوف المقاومة العراقية.
ويمكن القول إن تلك الظاهرة كانت القسم العائم من جبل الثلج، أما القسم المتواري فتمثل بالإقبال غير المسبوق على ارتياد المساجد وتوسع مسار التدين، مع ظهور تأثيرات لحركات دينية متشددة انتشر مؤيدوها في الأحياء الشعبية التي تُزنِّر العاصمة تونس، بعضها جهادي وبعضها الآخر يحض على إحياء الخلافة الإسلامية مثل «حزب التحرير الإسلامي».
مع ذلك أصر قياديو «التجمع الدستوري الديموقراطي» الحاكم، الذين توزعوا في الأيام الأخيرة على المحافظات لإلقاء خطابات تهاجم المحجبات، على اعتبار الحجاب علامة انتماء لحركة «النهضة»، على رغم تلقيها ضربة قوية مطلع التسعينات من القرن الماضي جعلت غالبية كوادرها موزعين بين السجون والمنافي. وأكد وزير الخارجية عبدالوهاب عبدالله، وهو أيضاً عضو في المكتب السياسي لـ «التجمع» أن الحجاب «شعار سياسي تستخدمه مجموعة صغيرة تختبئ وراء الدين لتحقيق أهداف سياسية»، وهو ما كرره أيضاً أحمد عياض الودرني مدير مكتب الرئيس بن علي (ويحتل أيضاً مقعداً في المكتب السياسي) الذي حذر من أن الحجاب «يرمز الى انتماء سياسي متستر بالتدين والتطرف» في إشارة إلى «النهضة».
لكن إذا صح أن جميع المحجبات منتميات الى تلك الحركة لباتت أكبر حزب في العالم الإسلامي، إذ قُدرت نسبتهن بـ25 إلى 30 في المئة من السيدات التونسيات (عدد النساء الإجمالي 5 ملايين سيدة)، إضافة إلى اتساع الظاهرة بين الفتيات وحتى الصبايا اليافعات. وفي مقابل الحجاب اقترح سياسيون ومثقفون مناصرون للحكومة العودة الى ارتداء الأزياء العتيقة بصفتها «جزءاً لا يتجزأ من الهوية التونسية».
وحض الأكاديمي كمال عمران في مقال نشره في صحيفة «الحرية» لسان حال الحزب الحاكم على «التمييز بين لباس ظاهره دين وباطنه سياسة ولباس تونسي تنسجم فيه روح التدين بمقومات الأصالة» في إشارة إلى الأزياء النسوية التقليدية التي تخلت عنها التونسيات لأن العصر تجاوزها مثل «السفساري» (عباءة من الحرير بيضاء اللون كانت تلتحف بها السيدات في المدن) أو «الملية» (عباءة صوفية حمراء اللون كانت ترتديها النساء في الريف).
لكن اللافت في الحملة على الحجاب أنها لم تقتصر على تعبئة المنظمات المركزية والمحلية لـ «التجمع» ضد المحجبات ولا على شن حملة واسعة عبر وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة، وإنما انتقلت إلى إنفاذ المرسوم الرقم 108 الذي صدر في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة عام 1981 على خلفية أول حملة اعتقالات طاولت الإسلاميين وقادتهم إلى السجون آنذاك. وشكك حقوقيون وسياسيون في دستورية المرسوم الذي قالوا إنه يحد من حرية المواطنين ويتنافى مع المبادئ التي تأسس عليها الدستور التونسي. واتهم معارضون السلطات بتعبئة أجهزة الأمن لنزع الحجاب بالقوة واقتياد المحجبات إلى مخافر الشرطة لحملهن على التوقيع على تعهدات كتابية بالامتناع عن العودة الى ارتدائه.
واشترط رؤساء الجامعات والمعاهد العليا على الطالبات التخلي عن الحجاب لقاء السماح لهن بمتابعة الدراسة. وفي الدوائر الحكومية لوحظ تشدد مع الموظفات المتحجبات اللواتي لم يسمح لهن بالإستمرار بالعمل طالما أصررن على ارتداء الحجاب. وبرر أمين عام الحزب الحاكم الهادي مهني تلك الحملة بأن الحجاب دخيل على الثقافة الوطنية وتهديد لمكاسب الحركة الإصلاحية التي من أعلامها داعية تحرير المرأة التونسي الطاهر الحداد الذي ألف كتاب «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» في ثلاثينات القرن الماضي، والذي جوبه بهجوم من الأوساط الدينية المحافظة فمات كمداً. إلا أن الحداد حمل على العباءات التقليدية ودافع عن تعليم المرأة وخروجها من البيت إلى العمل معتبراً الحجاب الصيغة المثلى للمحافظة على الحشمة.
ومن المفارقات أن بورقيبة الذي وقع على مرسوم حظر الحجاب في ثمانينات القرن الماضي، خاض معركة صحافية ضد غلاة المستوطنين الفرنسيين في الثلاثينات مدافعاً عن الحجاب بوصفه رمزاً للهوية الوطنية، وصار مقاله الشهير «الحجاب» (كتبه بالفرنسية) من العلامات الفارقة في معركة السفور والحجاب. واستخدم مرسوم بورقيبة الذي استُدعي مضمونه في كثافة هذه الأيام عبارة «الزي الطائفي» في وصف الحجاب، مع أن تونس ليس فيها طوائف وهي أكثر البلدان الإسلامية اندماجاً على الصعيد العقائدي لأن جميع سكانها من السنة المالكية.
واللافت أن أكثر منتقدي الحملة الراهنة على المحجبات ليسوا القوى الإسلامية وإنما الجمعيات الأهلية والتيارات العلمانية واليسارية التي رفضت «تدخل الدولة في الحياة الخاصة للمواطنين».
ولوحظ أن «حزب العمال الشيوعي» الذي خاض معارك ضد «حركة النهضة» في التسعينات دان الحملة ورأى أنها تشكل «انتهاكاً للحرية الشخصية ودليلاً إضافيا على عجز نظام الحكم عن مواجهة القضايا التي تُطرح في المجتمع التونسي بغير الأساليب الأمنية». وعزا الظواهر الجديدة في المجتمع إلى «القهر والاستبداد السياسي والفساد والفقر والتهميش والبطالة والخواء الروحي والقيمي التي يتحمل مسؤوليتها نظام الحكم وخياراته»، مؤكداً أنه «من دون معالجة تلك القضايا فإن القمع والمنع لن يزيدا تلك الظواهر إلا استفحالاً».
ويعارض هذا الحزب وأحزاب يسارية أخرى، إضافة الى جمعيات علمانية مثل «جمعية النساء الديموقراطيات» (مرخص لها)، ارتداء الحجاب وهي تدافع في شدة عن قانون الأحوال الشخصية الذي احتُفل في الصيف الماضي بمرور نصف قرن على سنَه، والذي حرَم تعدد الزوجات ومنح المرأة المساواة مع الرجل. لكن العلمانيين اعتبروا أن «الدفاع عن حقوق المرأة ومكاسبها لا يتم إلا في مناخ تتوافر فيه الحرية والديموقراطية ويتاح فيه للجميع إبداء الرأي والمشاركة في الحياة العامة وتقرير خيارات البلد الجوهرية» على حد تعبير بيان «العمال الشيوعي».
وعلى هذا الأساس رأى مراقبون أن الحملة الراهنة على المحجبات أخفقت بكسب أنصار للحكم في صراعه مع التيارات الدينية وأبعدت من حوله الجماعات اليسارية والعلمانية والشخصيات الحقوقية التي كانت تشاطره مناهضة ارتداء الحجاب. والأرجح في ضوء هذا الحصاد السلبي أن تُعاود الحكومة النظر في قرار ملاحقة المحجبات في الفترة المقبلة وتضع المرسوم الرقم 108 في الأدراج مجدداً ربما استعداداً لاستخدامه في معارك أكثر مواتاة لها.
رشيد خشانة
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد