عصام المحايري يكتب عن الإسلام والعلمانية (3-3)
الجمل:
8 - العلمانية والمادية:
يبقى أن نشير أن عالماً دينياً جليلاً في معرض معارضته لفصل الدين عن الدولة يقرن بين المادية وبين العلمانية وحجته في ذلك أن العلمانية هي وليدة الحضارة الحديثة وإفراز من إفرازات فلسفتها المادية، وأنها بالتالي وليدة النظرة المادية للكون والإنسان التي يرفضها المتدينون بوجه عام
- مسيحيون ومسلمون - ومسلمون بوجه خاص.
لا نريد أن ننساق إلى اعتبار الموقف من الدولة الدينية هو موقف من الحضارة الحديثة ولكننا، في معرض تفنيد أن تكون (إفرازات) الحضارة الحديثة كلها موسومة بالمادية، تتوقف عند موافقة أتباع مذهب الانتقاء من دعاة الدولة الدينية وفيهم الأئمة الكبار كالأستاذ محمد عبده وفيهم قادة الحركات السياسية الدينية كجماعة الأخوان المسلمين، على أخذ ما وجدوه نافعاً ومفيداً في بنى الدولة الدستورية كما وفي تشريعاتها الأساسية الناظمة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والدولية.
وما نحسب أن ما أخذه هؤلاء الدعاة الدينيون يمكن إدراجه في إطار (علوم الطبيعة ومناهجها التجريبية العلمية وما يؤدي ذلك بالضرورة إلى تنظيم الحياة في المجتمع تنظيماً شاملاً للاستفادة من منجزات العلم)، بل أن ما أخذوه يتصل بما يمس معايش الناس وعلاقاتهم الإنسانية التي لا تدخل في دورة العمل والإنتاج والاستهلاك، بل تدخل في صميم البنى الثقافية والروحية وقيم الحياة العليا.
ولولا أن تكون هذه البنى الناظمة والفاعلة في العلاقات الإنسانية مساعدة على النهوض النفسي والوجداني والأخلاقي في الإنسان والمجتمع وليست بالتالي من النزعات الإلحادية أو الغرائزية المادية لما وجدوا فيها (إمارات العدل التي إذا ظهرت، فذلك يكون شرع الله ودينه).
فإذا لم تكن كل (إفرازات) الحضارة الحديثة موسومة بميسم المادية الإلحادية والغرائزية، فلماذا يكون فصل الدين عن الدولة بالذات يحمل طابع المادية الإلحادية ويطبع علاقات الناس بهذا الطابع.
في معرض اعتراضه على ركاكة الصياغة المتعلقة بالنص على أن دين الدولة الإسلام، أشار أحد قادة الأخوان المسلمين إلى حقيقة أن الدولة شخصية معنوية وأن الشخصيات المعنوية لا تتدين. كذلك نحن نقول أن الشخصية المعنوية لا يمكن وسمها لا بالمادية ولا بالروحية، وأن الدولة، في حقيقتها وطبيعتها، مظهر حقوقي وسياسي للمجتمع.
لذلك فإن ما يشيع في المجتمع معاييره الأخلاقية وقيمه المناقبية ونظامه العام، هو من فعل الثقافة المادية والنفسية والروحية والفكرية الفاعلة فيه.
وإذا كان فصل الدين عن الدولة يعني حياد الدولة تجاه الأديان وتجاه مؤسساتها بما فيها المؤسسات التربوية، فليس يعني هذا وضع العصي في طريق دعاة الدين ومؤسساتهم في اضطلاعهم بمسؤولياتهم، في التثقيف المادي والنفسي والروحي والفكري والمناقبي لتشيع في الحياة العامة ومعاييرها، القيم التي تصون الإنسان والمجتمع من فشو الغرائزية والمادية الإلحادية.
ليست الدولة هي التي تشيع الفاحشة أو الشذوذ أو المادية الإلحادية، ولم تمنع دينية الدولة وإسلاميتها في التاريخ، من ظهور وأنماط الفسق والفجور والتفلت الغرائزي، وأن معالجة ذلك هو شأن ينهض به رجال الدين والإصلاح وقادة الفكر والمؤسسات الاجتماعية والتربوية في المجتمع، في إطار التوعية الإنسانية والدينية وليس في أي إطار آخر.
(انطباع) المظهر الحقوقي والسياسي للمجتمع، الذي هو الدولة، يبقى مستمداً من السوية الإخلاقية والمناقبية والروحية العامة في المجتمع. وفي الدولة العلمانية في الولايات المتحدة الأميركية، صدرت، بعد الحرب العالمية الأولى، قوانين تحريم الخمور ومنع صنعها والاتجار بها تحت طائلة العقوبات الجزائية، ولم يمنع هذا من نمو مؤسسات التهريب وشبكات (المافيا)، وفي الدول العلمانية عقوبات جزائية صارمة على المتاجرة بالمخدرات وتعاطيها ولم يمنع هذا من اتساع نطاق المدمنين ونشاط شبكات التهريب الدولية.
وفي أوساط الدول الإسلامية التي تلتزم بإيقاع الحدود في متعاطي الخمر والميسر والفحشاء تتحدث الأخبار عن فضائح المخدرات والخمور وكل أنواع الفاحشة والشذوذ بفعل ضعف الوازع الأخلاقي والمناقبي والديني.
(انطباع) النهوض بالسوية الأخلاقية والمناقبية والروحية هو مسؤولية فعل الثقافة، ثقافة الدين وثقافة الفكر وثقافة النفس وثقافة المشاعر، وما الدولة كمظهر حقوقي وسياسي للمجتمع، سوى نتاج فعل هذه الثقافة في المجتمع، تتأثر بها في قوانينها كما تتأثر في ممارساتها.
حياد الدولة لا يعني تعطيل دور الدوائر والمؤسسات التي تؤمن بالإنسان كائناً أخلاقياً، وحين تفعل في المجتمع قيم الأخلاقية الإنسانية الصحيحة، بفعل التوعية والتوجيه الديني والفلسفي الاجتماعي السليم، ينعكس فعل القيم على النفوس كما ينعكس على النصوص ومبادئ النظام العام.
لا خوف على الإسلام، ديناً ونظرة أساسية للوجود والإنسان، أن يتعطل فعله في المجتمع، في ظل الدولة العلمانية، وهي التي تنص على احترام الأديان واحترام ممارسة شعائرها وقيام مؤسسات التوجيه والتربية بدورها، ولا خوف من أن ينحدر النظام العام في ظل الفصل بين إطار الدين وبين إطار الدولة، في فهمه لمبدأ الحرية الشخصية بالذات، إلى دركات إباحة الناس لرغباتهم وشهواتهم، إلاّ حين يتخلى فعل الثقافة الدينية والمناقبية عن دوره لتطغى الإباحية ومعاييرها الذاتية المادية، إن مبدأ الحرية الشخصية هو المبدأ الذي يرفعه الإسلام عالياً وركز عليه قواعد المسؤولية في الدنيا والآخرة.
وإن ما يبنغي التنبيه له هو أن مبدأ الحرية الشخصية، في الدولة العلمانية، هو مبدأ مناقبي وأنه ككل المبادئ المناقبية يخضع في تطوره لسوية المعايير المنبثقة عن ثقافة المجتمع الروحية والمادية والدينية: هو نتاج لصنع أيدينا، نتاج صنع مؤسساتنا الثقافية ومادة الفكر والتوجيه والبناء الأخلاقي والمناقبي والديني في المجتمع.
وإذا كان مبدأ الحرية الشخصية أفسح في المجال لظهور المذاهب الفكرية والفلسفية على اختلافها فليس هو بالحاجب عن الدعوة إلى دين الله، وإذا كان الجهاد لإعلاء كلمة الله قد اضطلع به المسلمون بالسيف في مواجهة من أخرجوهم من ديارهم وصدوهم عن ذكر الله واعترضوا طريق دعوتهم فقي إظهار الدين، فإن الجهاد، في ظل مبدأ الحرية الشخصية يأخذ وجهته الطبيعية التي هي الجهاد بالكلمة والفكر والتوعية والقدوة، وهي الوجهة الطبيعية التي أكدها القرآن في تعاليمه بالتشديد على الدعوة إلى سبيل الله بالموعظة الحسنة (أفأنت تكره الناس)، (لا إكراه في الدين).
في ظل مبدأ الحرية الشخصية لم يعد من يمنع أو يعترض المسلمين في أي بلد من ديار العالم، من نشر حكمة الله، بالموعظة الحسنة، ومن ممارسة شعائرهم وإقامة أماكن عبادتهم ومساجد الله في أية بقعة أو مدينة في العالم.
لذلك فقد طوى أشد دعاة الدولة الدينية أعلام الجهاد الديني المسلح لنشر كلمة الله لأن وجهته الدينية لم تعد قائمة واستبدلوها بأعلام الجهاد بالموعظة الحسنة. أما الجهاد بالسيف فقد أخذ وجهته القومية في مواجهة الذين يخرجوننا من ديارنا، مسلمين وغير مسلمين، ليتيحوا في أرضنا القومية دولة الاغتصاب والقهر والإذلال على حساب تشريد شعبنا وتهديد مصيرنا الإنساني وإلغاء وجودنا الحضاري.
إن الوجهة الجهادية القومية التي يتخذها صراعنا لصياغة وجودنا، وحضارتنا وقيمنا الإنسانية والروحية تتأكد بها الحقيقة القومية القائمة على وحدة المصلحة ووحدة الوجود ووحدة المصير، في المجتمع الواحد، على اختلاف أعراقه وأديانه، مما يرتب وحدة المسؤولية، في مواجهة من يغتصبون الأرض ويشردون الشعب ويهددون المصير.
ولئن صح أن بعض المذاهب تذهب في معاملة الإنسان والمجتمع (بمنطق المواد الموات) فتحصر تفسير ظواهره بوسائل الإدراك الحسي المباشر أو غير المباشر وبأساليب المنهج التجريبي وعمليات الإحصاء والتحليل)، فيتقزم الإنسان، في مذهبها، من عالم حافل بأبعاد الروح والعقل والطموح والنبل والتضحية، وكل ما يميزه ككائن أخلاقي، إلى كتلة من المادة تسيرها الغريزة، منفعلة بمحيطها ومجتمعها وبيئتها وقوانين الإنتاج والاستهلاك وغريزة الجنس). فليست علمانية الدولة ولا مبدأ الحرية الشخصية الذي رفعت منارته الدعوة الدينية الإسلامية بالذات، هما من ينبغي الإطاحة بهما بحجة تحمليهما مسؤولية هذا الفهم الأشوه للإنسان والمجتمع ونشوء هذه المذاهب العوراء.
في إطار الدولة العلمانية، وفي ظل مبدأ الحرية الشخصية يتوفر للمذاهب الدينية والروحية أن تقطع الطريق على نشوء مثل هذه المذاهب وانتشارها عن طريق (هداية العقل والإنسان إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وما تقضي به هذه الحقيقة الإيمانية من عملقة الإنسان في الزمان والتاريخ والمواهب والكفاءات وعظمة المصير).
(انطباع) من يتابع الصراع الذي تقوده، في ظل الدولة العلمانية وفي حمى مبدأ الحرية الشخصية، قوى الوعي المادي - الروحي في مواجهة المذاهب الماسخة للإنسان إلى آلة أو كتلة من الجماد، يدرك إلى أي مدى يزداد الإنسان في عملقته، وإلى أي مدى تترسخ عظمته الحقيقية، حين ينطلق، بسلاح الفكر والوجدان والإيمان، فيمتشق مسؤوليته الإنسانية، ويشهر كل ما هو مخزون فيه من فضائل وقوى وطاقات عقلية وأخلاقية ليفرض قيم الحياة الإنسانية الصحيحة، فتزكو النفوس على هدى قوة العقل والإيمان وسلامة الحس والوجدان.
ليست علمانية الدولة - وقد قلنا أن الدولة لا تتدين ولا يمكن وسمها بالتالي لا بالمادية ولا بالروحية - هي التي تدفع بالعلماء إلى أن يطوح بهم الغرور الأجوف بحيث خيل إليهم أنهم قادرون على تفسير كل شيء ومعرفة كل شيء، الأمر الذي رتب (مادية الإنسان وحيوانيته)، ولو كان الدولة العلمانية هي التي تدفع إلى مثل هذا النهج، لما رأينا أن تقدم العلم، في ظلها، (جعل رجاله يكفون عن غلوهم، وتاب الكثير منهم إلى الاعتراف بعالم الغيب، وخالق الكون، وبدأت فلسفة العلم تتجه نحو تحديد أكثر صدقاً وأوفر دقة لمجاله، ونحو الاعتراف بعالم من المجهولات ذي طبيعة غير تجريبية).
فإذا كان نهج العلماء المغرور الأجوف، نشأ في ظل علمانية الدولة، وإذا كان التقدم العلمي، في ظل الدولة العلمانية نفسها، جعل فلسفة العلم تتجه نحو تحديد أكثر صدقاً… فلماذا تنعى الدولة العلمانية، نشوء النهج الأول، في ظلها ولا نسجل للدولة العلمانية نفسها، اتجاه فلسفة العلم فيها تحت وطأة تقدم العلوم، إلى التحديد الأكثر وضوحاً والاعتراف بعالم من المجهولات ذات طبيعة غير تجريبية، علماً أن المأخذ على المنحى العلمي الأول والإشادة بالمنحى العلمي الجديد، وردا، لدى العالم الديني الجليل في نفس الصفحة من كتابه، ولم يمنعه هذا عن تحميل الدولة العلمانية - (لماديتها) - مسؤولية فشو نهج العلم التجريبي المادي في كل الشؤون وما نتج عن ذلك من غرور العلماء الأجوف.
ليست الدولة العلمانية بالتي تحول دون التعرف إلى عالم المجهولات الخفي، من خلال نهج يتألف من العقل والوحي يلائم هذا النوع من الحقائق وقد أدى العلوم إلى أن يبرز هذا النهج في أوساط العلماء.
وكما أن أحداً لا يملك أن يربط بين منهج الإدراك الحسي والتجريب العملي، الصالح في حقل العلوم المادية، وبين علمانية الدولة، فما من أحد يملك أن يربط بين منهج العقل والوحي الملائم لإدراك عالم المجهولات الحفي وبين الدولة الدينية.
وإذا كان تقدم العلوم أدى إلى أن يتوب العلماء إلى الاعتراف بعالم المجهولات الخفي والتعاطي معه بنهج العقل والوحي معاً فما نظن أن أحداً يدعى أن تقدم العلوم يعترضه وجوب الدولة العلمانية ولا أن دينية الدولة هي التي تكفل وحدها للعلوم تقدمها.
هل يسوغ أخيراً اعتبار مبدأ الدولة الدينية الإسلامية قدراً إسلامياً دينياً.
نترك جانباً دولة الأتراك العلمانية وقد يقال أنها نموذج خاص نابع عن ظروف تاريخية وعوامل دينية فلا ينسحب عليها حكم بالنسبة لدولة للمسلمين، بالرغم من أن الأتراك، في ظلها، ما زالوا على إسلامهم وشعائرهم في وجه جنوح نظام الدولة إلى التنسيق على كل مظاهر الدين ومطاردة المتدينين.
ونترك جانباً أنماط الحياة الاجتماعية للمسلمين في مختلف الأقطار والأمصار وقد بعدت بعداً نوعياً في آدابها العامة ونظامها العام. عما هو متعارف عليه باسم نظام الآداب العامة الإسلامية، بل وباتت وفي الأهم والأخطر من تفاصيلها مقاربة بشكل يكاد يكون تاماً مع أنماط الحياة السائدة في العديد من المجتمعات الغربية.
وحسبنا أن نواجه الدولة الإسلامية المعاصرة عندنا.
لقد اختلفت كيفية الشورى في هذه الدول فنشأ نظام المجالس التشريعية والسلطة التنفيذية المسؤولة أمام المجلس النيابي أو أنماط أخرى من هذا القبيل، وتم اعتبار هذا الاختلاف الكيفي يتفق مع واجب الشورى الإسلامي.
ولكن هل اقتصر الاختلاف على الكيفية أي الوسائل أم تجاوزه إلى النوعية؟
إن بيعة أهل العقد والربط في الشورى الإسلامية يتولاها مسلمون وكان النظام بذلك إسلامياً أما البيعة الدستورية الحديثة فيشارك فيها غير المسلمين مما يصح معه اعتبار وقوع اختلاف نوعي ومع ذلك اعتبر دعاة الدولة الدينية، هذه البيعة الحديثة نظاماً إسلامياً.
كان نظام الإسلام، فيما يتصل بفريضة الجهاد يميز بين المسلمين وغير المسلمين الذي يرتب عليهم دفع الجزية بوصفهم من أهل الذمة.
أما أنظمة التعبئة والحرب في الدول (الإسلامية) الراهنة، فلا تميز في الخدمة العسكرية، ولا في واجب الجهاد بين مسلم وغير مسلم، فكلهم مواطنون مسؤولون عن الذود عن حوزة الدولة ومع ذلك يظل دعاة الدولة الدينية الإسلامية يعتبرون هذه الدولة نظاماً إسلامياً.
قد يقول القائل، كما يذكر ذلك فضيلة العلامة الأستاذ محمد مهدي شمس الدين (ولكن هذه الأنظمة ليس لها محتوى إسلامي يذكر بل أنها علمانية بدرجة أو بأخرى).
ما نريده، في هذا المقام، هو لفت النظر إلى أن أنظمة، لا محتوى إسلامي يذكر لها، وهي علمانية بدرجة أو بأخرى، يقف منها دعاة الدولة الدينية الإسلامية، في أوسع حركاتهم السياسية نشاطاً، موقف القبول ويقررون، من خلال مشاركتهم في صياغتها وصياغة قوانينها أنها تتوافق مع النظام الإسلامي.
أما هذا الذي بقي فيها من محتوى إسلامي لا يكاد يذكر، على حد تعبير فضيلة الأستاذ شمس الدين، فهو ما ورد في نص الدستور حول إسلامية الدولة، وما حوفظ عليه بالنسبة لأحكام الأحوال الشخصية والقضاء الشرعي.
هذا الحيز، الذي لا يكاد يذكر، ثمة تيار ديني فاعل ونشيط ينازع في عدم وجوب الاحتفاظ به أو انعدام ضرورته، باسم الأدلة الشرعية المستقاة والمنتقاة من القرآن الكريم والسنة الشريفة وباسم العقل أو المصلحة العامة التي هي أقوى من النص القرآني لأنها من الأدلة الشرعية الأقوى والأطهر.
إن هذا الحيز الضيق الذي لا يكاد يذكر، يقوم من يناهضه باسم الدين والفكر الإسلامي، وتثور حوله المعارك الإسلامية الدينية بين المتمسكين بإبقائه والداعين إلى إلغائه.
فهل يجوز، في ضوء هذه الحقائق الساطعة، أن نسلم مع أولئك الذين يروجون، أن الدولة، حين تكون أغلبيتها إسلامية، لا يمكن، بحكم العقيدة الدينية لأكثريتها، إلا أن تكون دولة دينية إسلامية، وهل الإسلام الذي يعتبر أحد كبار أئمته أن المصلحة العامة هي أقوى الأدلة الشرعية حتى بالنسبة لنص القرآن أو السنة هو الإسلام المتجمد؟
هل هي دولة دينية إسلامية تلك التي يقول فيها علامة إسلامي كبير (أنها ليست لها محتوى إسلامي يذكر بل هي علمانية بدرجة أو بأخرى).
هل هي دولة دينية إسلامية تلك التي تنقض الأهم والأخطر من ملامح دولة الإسلام، في البنية الدستورية وفي التشريع، وفي إسقاط تصنيف غير المسلمين إلى ذميين وغير ذلك.
نعم إن هذا الحيز الضيق يشكل حاجزاً أوراسياً للدولة الدينية لا يجوز التهوين من أمره، ولكن نمو التيار الديني الإسلامي الذي يتصدى لاستمراره وبقائه وينشط فيه علماء أزهريون وعلماء فكر إسلامي، يؤكد أن هذا الحيز الضيق لن يكون حظه أفضل من الشوط الواسع العريض الذي خطاه تطور وضع الدولة (الإسلامي) لدى دعاة الدولة الدينية الإسلامية لدرجة أن الدولة باتت علمانية (بدرجة أو بأخرى).
وإذا كنا نعجب لتمسك دعاة الدولة الدينية الإسلامية بهذا الحيز الضيق من ضمن إقرارهم من خلاله بإسلامية الدولة، فعجبنا يعود إلى أن هذا الحيز الضيق بات يقتصر على الشك فحسب بإيراد النص على دين رئيس الجمهورية الإسلامية كما بات يعرقل مبدأ وحدة سيادة الدولة، وهو المبدأ الذي يتجلى في وحدة أداتها التشريعية ووحدة التشريع الناظم للعلاقات فيها، إنه حين يناط، فيما يتصل بالأحوال الشخصية، بأرباب كل طائفة الدينيين أو المذهبيين، تقرير نظام الأحوال الشخصية لأبناء ملتهم وبأن تقوم المحاكم المذهبية بالفصل في شؤون الأحوال الشخصية لاتباع الملة، لا يكون ما هو قائم نظاماً إسلامياً بل نظام الطوائف.
ومن ترى ينتخب رئيس الجمهورية، وكيف يجوز فرض القيود على الإرادة الشعبية ثم نعتبر أنفسنا في نظام ديمقراطي.
ولماذا نهجن الأنظمة على هذا الوجه، دون أي مردود، إلا إرضاء للعاطفة الدينية خارج إطار شرعية تتوافق مع حكم العقل وخارج إطار أدلة شرعية ترجح المصلحة العامة باعتبارها الدليل الشرعي الأقوى، إننا ندرك أن معركة تحرير نظامنا الدستوري والقضائي الديمقراطي من كل هذه الرواسب ليست بالمعركة اللينة الهينة، فثمة قوى، تريد أن تجعل من هذا الحيز نطاقها في خوض غمار السياسة وكسب الالتفاف الشعبي حولها.
ولكننا ندرك أن وعياً يدفع بالنظام أن يتخطى كل هذا الشوط الواسع العريض في طريقه نحو الدولة العلمانية بدرجة أو بأخرى وأن عقيدة تعتبر المصلحة العامة أقوى أدلتها الشرعية لا يمكن إلا أن ينتج عنهما نجاحنا في بناء نظامنا على ما يصون مصلحتنا القومية على قاعدة وحدة وجودنا المجتمعي وحقوقنا ومصيرنا.
هذه المعركة لا يخوضها رجال الدين الإسلامي المستنيرون فحسب ولا أوساط المسلمين الذين يعنيهم أن يربح شعبهم الأرض ليمكن له أن يربح السماء ولكنها معركة جميع المواطنين، على اختلاف مللهم ونحلهم، معركة من يعتبرون أنفسهم، الأكثر وعياً والأكثر تطوراً والأكثر إخلاصاً وارتباطاً بأرض الوطن.
(انطباع) معيار الإخلاص لأرض الوطن، يكون في دعم معركة اجتياز الحيز الضيق الأخير للدولة باتجاه العلمنة السليمة وليس القبول بعلمنة بدرجة أو بأخرى، فنقطع الطريق على الذين يريدون الاستفادة من الرواسب والشوائب، لتنفيذ مؤامرة تمزيق الوطن إلى دويلات وتفكيك وحدة المجتمع إلى كانتونات طائفية، بقيادة الكانتون الطائفي أو بالأحرى بقيادة الميليشيات المسيطرة في الكانتون الطائفي بقوة التنظيم وإرهاب السلاح وبالدعم العسكري والسياسي الخارجي.
يبقى أن نسجل أن القوى الطائفية المتآمرة، حين تنعى على أنظمة الحكم القائمة، إسلاميتها، لا تنعي هذا الحيز الضيق الذي يشكل الراسب للدولة الدينية وإنما هي تتجاهل حقائق هذه الأنظمة الدستورية والتشريعية وقوانينها الناظمة لعلاقات المواطنين مسلميهم ومسيحييهم، فتتجاهل أن الحيز الضيق من الدولة الدينية الإسلامية، في أنظمة الدولة الراهنة ليس فيه مكان لمقولات أهل الذمة والذميين، وقد سقطت وأسقط نمو الوعي وارتضى إسقاطها دعاة الدولة الدينية الإسلامية، ولكنهم في معرض مخطط التضليل والتمزيق يعودون إلى ندب الذمية ونظام الذميين، ليخرجوا بصيغتهم التآمرية الهادفة إلى تفكيك الوحدة الشعبية الاجتماعية وطرح التعدديات الحضارية العاصية على التوحد، فينفذوا مخطط الدويلات الطائفية الذي رسمته الخطة الإسرائيلية كنطاق ضمان أوحد وحيد لأمنها.
لا ليست العلمانية نقيضاً للإسلام، بالرغم من الحيز الضيق الذي ما زال يشغله نظام الدولة الدينية في بنى أنظمة دولنا الراهنة، وحسبنا، مع أنه (لا يشكل محتوى دينياً يذكر)، أن نجد قوى دينية إسلامية فعالة تناهضه ونجد وعياً شعبياً متنامياً يدعو إلى إسقاطه لنؤمن من ثم أن تطابق الإسلام والعلمانية هو الحقيقة التاريخية الأكيدة، فيحفز فينا هذا الإيمان الثابت الراسخ، المضي في معركة إرساء حياة مجتمعنا على وحدة وجوده ووحدة مصيره وكلنا يقين بانتصار الإسلام، شريعة للهداية والعقل والمصلحة العامة.
وإذا كانت العلمانية ليست نقيضاً للإسلام، إلا لدى بعض دعاة الدولة الدينية الإسلامية وبعض علماء الدين ورجال السياسية، فإن العلمانية ليست أيضاً نقيضاً للمسيحية، إلا لدى بعض الدوائر الإكليريكية والكهنوتية وهي الدوائر التي أصدرت عام 1936، على أثر انكشاف حركتنا القومية الاجتماعية وانكشاف مبادئها الداعية إلى فصل الدين عن الدولة، قراراً كنسياً بإلقاء الحرام الكنسي على القوميين الاجتماعيين وعائلاتهم فلا تجري الكنيسة لهم، (لهرطقتهم في الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة ومع رجال الدين من التدخل في شؤون الدولة والقضاء القوميين) لا عقود زواج أو مراسيم دفن أو أية مراسيم دينية أخرى.
هنا وهناك تقوم مصالح واعتبارات تريد أن تشد بالدولة باتجاه ممارسة سلطات السياسة والقضاء وسوس حياة الجماعات الدينية، هنا وهناك إسلام ومسيحية لا يمثلان إسلام المستقبل ومسيحية المحبة، وعلى أرضنا وفي نطاق شعبنا تدور معركة الوعي القومي لصيانة وحدة السيادة ووحدة الإرادة ووحدة الوجود ووحدة المصير.
عصام المحايري
رئيس المكتب السياسي في دمشق
للحزب السوري القومي الاجتماعي
إضافة تعليق جديد