صحيفة بلجيكية توزع القرآن مجاناً
صباح الخامس من آذار الجاري، وفي سابقة هي الأولى من نوعها في بلجيكا، وزعت صحيفة "ده ستاندرد"De Standard كبرى الصحف البلجيكية والأوسع انتشاراً، نسخة مجانية بالهولندية من القرآن الكريم مع كل عدد من أعدادها الصادرة ذلك اليوم، وكنت تابعت الحملة الإعلانية الضخمة التي نظمتها الصحيفة عن هذا الحدث في الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية المختلفة، فخرجت في ساعة مبكرة لأحصل على نسخة قبل نفادها من السوق، لكني بالرغم من تبكيري لم أجد إلا عددا من الصحيفة في دكان قريب من بيتي، ولم تكن نسخة القرآن طيّه.
أخذتُ العدد ووقفت في طابور المشترين كي أدفع الثمن. كان هناك ما لا يقل عن عشرة طلاب بين الثامنة عشرة والعشرين يسبقونني في الطابور الذي تلوّى مثل ثعبان في ممرات المحل الصغير. جاء دوري أخيراً، فقلت للبائع وأنا أسدّد الثمن: أين نسخة القرآن المجانية؟ فقال إن عليَّ الذهاب إلى دار "ستاندرد بوكهاندل "standard bookhandel" للنشر والتوزيع. أعطاني السنتات المتبقية ووضع في يدي مغلفاً أزرق خصّص للخمسة عشر ملحقاً التي ستصدر تباعاً عن الإسلام خلال الأيام المقبلة. فتحتُ المغلّف الورقي السميك لأجد في داخله أول ملحق في إحدى عشرة صفحة بعنوان "الإسلام الآن".
في الصفحة العاشرة من الجريدة، قرأتُ تفاصيل الحصول على النسخة المجانية من القرآن، فقررت الذهاب إلى دار النشر الموجودة في وسط مدينة أنتويرب حيث أقيم، وهناك فوجئت بأني لا أستطيع الدخول. فطابور الذين جاؤوا مبكرين مثلي امتد حتى رصيف الشارع. كان عليَّ إذاً الإنتظار تحت المطر الخفيف الذي بدأ بالتساقط. أخذت مكاني خلف آخر شخصين في الطابور. كانا زوجين عجوزين، يحمل الرجل في كفه اليمنى الوثيقتين اللتين سيحصل بموجبهما على نسختي القرآن، في حين كانت زوجته تتحدث طوال الوقت عن أحد أساتذة التاريخ الإسلامي أيام الجامعة، وكان كاثوليكياً منفتحاً على الديانات الأخرى.
كان الزوج يستمع إليها بنصف انتباه، وهي لا تني تعيد كل جملة تقولها، مرددة: "سوف تستمتع بقراءة هذا الكتاب الغريب، ألم أحدثك عنه مراراً، كان عليك أن تقرأه من قبل".
وجدتني منصتاً إلى الزوجة وأنا أراقب التململ البادي على ملامح الزوج، وبدأت أنساق خلف الطابور الطويل إلى داخل الدار، حيث وجدت أن غالبية المنتظرين من الشباب وطلبة الجامعات. كان ثمة عدد لا بأس به من العشّاق والمراهقين في المقدمة. لا أعرف لماذا ابتسمت في سرّي حين وجدت فتاة تميل مراراً لتقبيل رفيقها. لم يكن ذلك مستغرباً، فقد تعوَّدنا مثل هذه القبلات الساخنة في الشوارع والميادين. ضحكتي التي بدأت في أعماق أعماقي، تعالت وتصاعدت حدّتها حين رأيت مراهقين آخرين يحذون حذو الفتاة، وبدأت القبلات تمطر فوق رؤوس الواقفين من المراهقين، حتى وجدتني أمام البائعة التي سلّمتها الوثيقة، فأعطتني نسختي من القرآن في كيس صغير من البلاستيك.
في مقدمته للملاحق الخمسة عشر التي ستصدر تباعاً عن الإسلام، يعدّد رئيس تحرير صحيفة "ده ستاندرد" بيتر فانديرميرس الأسئلة الأكثر شيوعاً الآن لدى المواطن الأوروبي حول الإسلام، متسائلاً مع الجميع: "هل علينا أن نخشى الإسلام؟ وهل لدى المسلمين الحق في أن يغضبوا بسبب الرسوم الكاريكاتورية الدانماركية التي تناولت صورة النبي محمد؟ وهل يستمر لجوء المسلمات المقيمات في أوروبا إلى القضاء للمطالبة بحقهن في ارتداء الحجاب في المدارس وأماكن العمل؟ ثم ما الفرق بين الشيعة والسنة؟ ولماذا يحصل هجوم إرهابي موجه ضد أناس عزَّل باسم الإسلام؟ وهل يعني هذا الإرهاب أن كل المسلمين إرهابيون؟".
يضيف فانديرميرس: "أحد أهم المحاور والصراعات التي يشهدها القرن الحادي والعشرون هو تطور العلاقة بين العالمين الغربي والإسلامي، خصوصاً في ظل التطورات التاريخية والسياسية التي شهدها العالم في الآونة الأخيرة، من هنا قررنا في "ده ستاندرد" تقديم ملاحقنا الخمسة عشر عن الإسلام ونسخة مجانية من كتاب الإسلام المقدس وهو القرآن الكريم، كي نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة والتساؤلات. سنشاهد ونتابع العلاقة المشدودة تاريخياً بين الإسلام والمسيحية، وسنلقي الضوء على تطورات التطرف الإسلامي، ونحاول البحث عن إجابات وافية وعن مكانة المرأة في الإسلام، وربما تقدم ملاحقنا تصوراً عن مستقبل الإسلام في ظل هذه التطورات والتحديات التاريخية المقبلة".
إذا كانت هذه أهم النقاط التي وردت في مقدمة رئيس تحرير الصحيفة صاحبة المشروع الجريء في التعريف بالإسلام ومراحله التاريخية وأسئلته وتحدياته الكبرى، فإن عناوين الملاحق اليومية التي تصدر عن الصحيفة في هذا الإطار، ربما تقدم صورة أخرى عن التجربة، حيث جاء ترتيب الملاحق وعناوينها على النحو الآتي: "الإسلام الآن"، "الإسلام تاريخياً"، "القرآن"، "السنة والشيعة"، "الإسلام والمسيحية"، "الإسلام والغرب"، "الإسلام في بلجيكا"، "مسلمون يتحدثون عن الإسلام"، "التطرف والأسلمة"، "إرهاب إسلامي"، "الإسلام والمرأة"، "الإسلام والإقتصاد"، "الماضي الثقافي العريق"، "ثقافة المسلم اليوم" و"مستقبل الإسلام".
نسخة القرآن التي وزعتها الصحيفة جاءت في 880 صفحة من القطع الصغير، ترجمة البروفسور ي. هـ. كرامرز (1891 - 1951)، الذي شغل منصب أستاذ العربية والإسلام في جامعة ليدن الهولندية منذ العام 1939 لسنوات تالية، وهي الترجمة التي عكف عليها كرامرز خلال الحرب العالمية الثانية (1940 - 1945). لكننا نعثر في هذه الطبعة الجديدة للترجمة التي صدرت للمرة الأولى قبل أكثر من خمسة وخمسين عاماً، على إضافات وشروح مهمة للباحث والمترجم الفلسطيني الدكتور أسعد جابر (من مواليد 1946) والذي يعمل أستاذاً للغة العربية في جامعة ليدن، بمشاركة المستشرق يوهانس ي. ج. يانسن الذي يشغل منصب أستاذ اللغة العربية والإسلاميات في جامعة أوترخت الهولندية. ما يقدمه الباحثان في هذه الطبعة الجديدة للقرآن هو ترجمة معاني القرآن الكريم وتبسيطها ليكون موجهاً إلى أوسع القراء باللغة الهولندية.
ولا تتوقف شروح الباحثين عند تبسيط لغة القرآن لتكون في متناول القارئ الهولندي العادي، بل تتخطّى ذلك لتقدّم مقارنة مستمرة ودؤوبة بين أسس القرآن وتعاليمه وشرائعه وأحكامه، وما يتشابه أو يتقاطع معها من تعاليم الكتاب المقدس وشرائعه، بعهديه القديم والجديد.
كان أول ظهور لهذه الشروح القيمة للقرآن في العام 1992، وحصل الباحثان وقتها على جائزة أفضل إصدار في العام ذاته تقديراً لجهديهما في توضيح النص القرآني للقارئ العادي، سواء في هولندا أو بلجيكا. وفي حين جاءت مقدمة هذه الطبعة الجديدة من القرآن عبارة عن دراسة مستفيضة للمستشرق يوهانس يانسن حول رحلة النبي محمد مع الإسلام ومراحل نزول الوحي عليه بالقرآن، اختتمت الطبعة بمسرد أبجدي لأهم الكلمات الواردة في القرآن، والآيات التي تضمنتها.
عماد فؤاد
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد