صالح علماني: ربع قرن في خدمة الأدب اللاتيني
يعمل صالح علماني منذ ربع قرن على ترجمة أدب أميركا اللاتينية والآداب المكتوبة بالإسبانية عموماً، كما لو أنها ورشة متكاملة. ويعود الفضل اليه في ترجمة عشرات الروايات التي شكّلت ما يسمى بموجة “الواقعية السحرية”. منذ أيام أنجز الكتاب الـ75 في سلسلة ترجماته، وهو بعنوان “شيطنات البنت الخبيثة” أحدث روايات البيروفي ماريو فارغاس يوسا.
ينطلق صالح علماني (57 عاماً) صباحاً من منزله في ضواحي دمشق إلى مكتبه في وزارة الثقافة السورية. قبل أن يرتشف قهوته الصباحية، يجول في مواقع الكتب الإسبانية على شبكة الإنترنت. عندما يعجبه كتاب جديد، يوصي به على الفور. هكذا، تبدأ لاحقاً رحلته من الإسبانية إلى العربية بلغة رشيقة ومصقولة، ليجد القارئ نفسه منغمساً في لذة القراءة، كأن الكتاب مكتوب بلغة الضاد.
كيف بدأت علاقة المترجم بلغة سرفانتس؟ يقول علماني: “في عام 1970، غادرت إلى برشلونة لدراسة الطب ثم تركته لدراسة الصحافة. لكنني صمدت سنة واحدة فقط، عملت بعدئذ في الميناء واختلطت بعالم القاع كأي متشرد. وبينما كنت أتسكع في أحد مقاهي برشلونة ذات مساء، قابلت صديقاً كان يحمل كتاباً. نصحني بقراءته. كانت الطبعة الأولى من “مئة عام من العزلة” لغابرييل غارسيا ماركيز. عندما بدأت قراءتها، أصبت بصدمة. لغة عجائبية شدتني بعنف إلى صفحاتها. قررت أن أترجمها إلى العربية. وبالفعل ترجمت فصلين ثم أهملتها”. ويضيف: “عندما عدت إلى دمشق نسيت الرواية في غمرة انشغالاتي. لكن ماركيز ظل يشدني، فترجمت قصصاً قصيرة له، ونشرتها في الصحف المحلية. ثم ترجمت “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه” (1979). لفت الكتاب انتباه الناقد حسام الخطيب، فكتب أن شاباً فلسطينياً يترجم أدباً مجهولاً لقراء العربية”. هذه الملاحظة قادت علماني إلى امتهان “حرفة” الترجمة: “قلت لنفسي: أن تكون مترجماً مهماً أفضل من أن تكون روائياً سيئاً. هكذا مزقت مخطوط روايتي الأولى من دون ندم وانخرطت في ترجمة روايات الآخرين”. ترجم صالح علماني كل أعمال غابرييل ماركيز باستثناء “خريف البطريرك”. ويعزو اهتمامه الشخصي بأعماله الى “أن قراءة ماركيز سهلة لكن ترجمته صعبة. فهو يغرق في التفاصيل ويمزج الوقائع بالشعر. في المقابل، أشعر أثناء ترجمته بأنني أعيش الرواية كما لو أنني أكتبها. والأمر ذاته أجده في أعمال ماريو فارغاس يوسا”. ويتذكر أن أحدهم اتصل به مرةً بينما كان منهمكاً في ترجمة رواية يوسا “توما في الأنديز” وسأله عن مكانه. فأجاب من دون تفكير “أنا في الأنديز”.
يعمل صالح علماني 10 ساعات يومياً، وقد أنجز ترجمة الكتب الستة الأولى وهو منبطح على الأرض قبل أن يقتني آلة كاتبة! بعد ذلك، اشترى كومبيوتر غيّر عاداته في الترجمة. يشرح قائلاً: “أقرأ النص خمس مرات، ثم أترجمه مباشرة على شاشة الكمبيوتر. وعندما أنجز بضع صفحات، أقرأ النص الذي ترجمته بصوت عال لمعرفة الإيقاع السمعي للجملة، كما كان يفعل فلوبير”. يقولها متهكماً من نفسه.
أيهما المهم في الترجمة: الدقة أم الأمانة للمضمون؟ “الدقة أولاً” يجيب علماني: “الأمانة وحدها لا تبرر تخريب النص الأصلي... هذا لا يعني تغيير أفكار النص. لكل لغة منطقها الخاص، وليس بالضرورة أن يتقاطع المنطقان بلاغياً”. ويضيف: “يرتكب بعضهم آثاماً لا تغتفر باسم الترجمة الحرفية. إذ لا يتعلق الأمر بوضع كلمة بدل أخرى، بل بتشكيل جغرافية النص جمالياً ومعرفة أسرار اللغتين، اللغة الأم واللغة المترجم عنها”.
نسأله عن سرّ تلك الشعرية في متن النص الذي ترجمه؟ “إنها نتاج مقاربة شفافة لأسلوب صاحب النص الأصلي. فمهما كان المترجم بارعاً، لن يصل إلى ذروة اللغة الأصلية بسبب اختلاف القواعد. لكنه يحاول إيجاد معادل لها. خوليو بالتزار مثلاً يحطم في أعماله القواعد ويلعب ببنية الجملة مثل بهلوان. في هذه الحال، على المترجم أن يقوم بالألعاب ذاتها وبمنطق لغوي مشابه”.
لكنّ “حماقة المترجم” ليست مرضاً عربياً، كما يشير علماني. ويعطي مثالاًَ الترجمة الإسبانية لثلاثية محفوظ التي “حفلت بالأخطاء حتى في العنوان. عنوان رواية “السكرية” مثلاً لا يشير إلى اسم حارة في القاهرة كما قصده محفوظ، بل دلّ بالإسبانية على السكرية التي تقدم مع الشاي”. ما هي الرواية التي يعتبرها أكثر متعة أثناء ترجمتها؟ يجيب بحماسة “الحب في زمن الكوليرا” لماركيز. هذه الرواية عشتها حقاً كأنني لا ازال مع فلورينتينو اريثا ومعشوقته فيرمينا داثا نبحر في رحلة ذهاب وإياب مدى الحياة”.
هناك عشرات العناوين المهمة التي لم يترجمها علماني بعد. ويعزو ذلك الى صعوبة تسويق الأسماء المجهولة الى قرّاء العربية. كما أن “دور النشر تلحق الأسماء الرائجة” ويرى أنه “من المؤسف ألّا تصلنا أعمال الأرجنتيني توماس ايلوي أو خوان كارلوس وينتي من الأوروغواي. هذا الروائي هو الأب الشرعي للواقعية السحرية”.
لا يتوقف صالح علماني عن العمل. حالما ينهي نصاً، ينكب على آخر. وهو اليوم يخبّئ في جعبته رواية “اينس، مليكة روحي” لايزابيل الليندي. يقول: “بدأت ترجمة الرواية. هي سيرة امرأة من القرن السادس عشر، حياتها حافلة بالمغامرات الإنسانية والعاطفية”.
خليل صويلح
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد