سوريا: ميدان اختبار «إعادة تشغيل» العلاقات الأميركية ـ الروسية
فاز دونالد ترامب بالانتخابات الأميركية، برغم أن هيلاري كلينتون تفوقت عليه بأكثر من مئتي ألف صوت. ولكن لا عزاء للأخيرة، فهذه هي طبيعة النظام الانتخابي الأميركي، ودونالد ترامب هو من سيجلس في المكتب البيضاوي للسنوات الأربع المقبلة. مع هيلاري كلينتون، كان يمكننا أن نتصور، ربما بكثير من الدقة، ملامح السياسة الخارجية الأميركية، ولا سيما في ما يتعلق بموسكو. فوزيرة الخارجية السابقة كانت هي من قدم، في السادس من آذار 2009، لوزير الخارجية الروسي الهدية الشهيرة، زراً أحمر كُتب عليه كلمة Reset، لتكون هذه بداية ما عُرف «بإعادة تشغيل» العلاقات الروسية-الأميركية (في الحقيقة كان نائب الرئيس الأميركي جو بايدن هو من أطلق فكرة الضغط على زر إعادة تشغيل العلاقات خلال مؤتمر الأمن في ميونيخ في شباط 2009، ولكن كلينتون كانت هي نجمة المشهد الدرامي). أدركت إدارة أوباما أنها بحاجة للتعاون مع موسكو في قضايا معينة، وعلى رأسها إمداد القوات الأميركية في أفغانستان بواسطة قوافل تمتد ألاف الكيلومترات من بحر البلطيق، عبر الأراضي الروسية، إلى القواعد الأميركية في أفغانستان، وكذلك تمرير العقوبات الخاصة بالبرنامج النووي الإيراني. لم يدم شهر العسل الأميركي-الروسي طويلاً، وعادت كلينتون نفسها لتشرح تعقيدات العلاقة الروسية-الأميركية ولتقترح على أوباما، في مذكرة أرسلتها له عند انتهاء تكليفها بوزارة الخارجية، إبداء المزيد من الحزم مع روسيا والتنبه لنوايا بوتين، والخطر الذي يمثله، وشددت على أن بوتين لا يفهم سوى لغة القوة والعزم. لو نجحت هيلاري كلينتون في الانتخابات الأميركية، لتابعت غالباً تطبيق المذكرة التي وجهتها لأوباما. ولكن ترامب هو من فاز.
المسألة أكثر غموضاً بكثير في حالة دونالد ترامب؛ فتصريحاته حول السياسة الخارجية الأميركية خلال الأشهر الماضية، تركزت على انتقاد كل القرارات التي اتخذها «الديموقراطيون»، من دون أن يقدّم رؤية متماسكة واضحة لما ينوي القيام به فعلاً. يُقال إن ترامب يمثل النزعة الانعزالية الأميركية، ولكنه تحدث أيضاً عن إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، وعن التصدي للصين وعن أن حلفاء أميركا يجب أن يزيدوا إنفاقهم العسكري. ولكن ضد من يطالب ترامب بزيادة الإنفاق العسكري؟ وكيف يمكن التصدي للصين وإلغاء الاتفاق النووي الإيراني بدون أن تضطر أميركا للتدخل أكثر في الخارج؟ تناقضات كثيرة وعميقة لا مجال للتصدي هنا لمناقشتها. ولكن ماذا عن روسيا؟ هل كان ترامب يناكف كلينتون فحسب بحديثه عن إمكانية التعاون مع بوتين أم أنه كان جاداً بالفعل؟ هنا تبدأ الأمور بالاختلاف قليلاً.
دوافع موسكو للتعاون
ليس ترامب وحده هو من تحدث عن ضرورة إعادة التعاون مع روسيا، فبعض أهم المرشحين لتولي مناصب مهمة في الإدارة الأميركية المقبلة، أو للعمل كمستشارين لترامب، يؤيدون مبدأ التعاون مع روسيا. قد يكون أبرز هؤلاء هم الجنرال مايكل فلين، المدير السابق لوكالة مخابرات الدفاع الأميركية، أحد المرشحين المحتملين الآن لمنصب مستشار الأمن القومي، والسيناتور جيف سيشِنز، أحد المرشحين لتولي إما وزارة الدفاع أو وزارة الخارجية. ولكن ما قد يكون أكثر أهميةً من هذا هو أن مبدأ التعاون مع روسيا بات يحظى باهتمام متزايد لدى الرأي العام الأميركي، ولا سيما في ما يخص محاربة تنظيم «داعش». ولا شك بأن سوريا، بحربها الدامية والإرهاب الإسلامي النشط على أرضها، مرشحةٌ بقوة لتكون ميدان اختبار إمكانية إعادة إقلاع العلاقات الأميركية - الروسية. فما هي تصورات الأطراف المعنية؟
ظهر بوضوح، منذ الأيام الأولى للتدخل العسكري الروسي في سوريا، أن موسكو تفضل ألا تقطع شعرة معاوية مع واشنطن وأن تنجز اتفاقاً ما معها. حرص بوتين على أن يلتقي أوباما، على هامش انطلاق أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل أيام من انطلاق العمليات العسكرية الروسية؛ وعندما فشل الرئيسان بالتوصل إلى اتفاق، عملت موسكو على إطلاق سلسلةٍ من اللقاءات في فيينا، انتجت لاحقاً بيان فيينا، الذي شكل خريطة طريق لحل الأزمة السورية، تم تثبيتها بقرار مجلس الأمن 2254. لاحقاً، أثبتت موسكو للمشككين أنها تعطي الأولوية الأولى للحل السياسي عندما قبلت باتفاق «وقف الأعمال القتالية» في شباط الماضي، وتابعت المفاوضات حوله لتطويره إلى اتفاق وقف إطلاق نار مستدام، بما يسرع مفاوضات الحل السياسي. واستمرت المفاوضات المكوكية، والماراثونية، طوال الصيف الماضي، إلى أن تم التوصل إلى اتفاق الدقائق الأخيرة. صقور الإدارة الأميركية، ولا سيما في البنتاغون وفي مجمع المخابرات الأميركية، لم يسمحوا للاتفاق بالوصول إلى المرحلة التالية.
ولكن موسكو أثبتت أنها تراهن على إنجاز تفاهمٍ مع واشنطن، ولها في ذلك دوافع متعددة. فمن ناحيةٍ أولى، يمهد التفاهم حول سوريا لإنهاء الحرب الأهلية السورية، ويمنع تحول الانخراط الروسي فيها إلى تورط على نمط المستنقع الأفغاني، ومن ناحية أخرى سيسمح الاتفاق بالتصدي بفعالية للإرهاب الإسلامي في سوريا، خصوصاً مع وجود تقديرات مفادها أن نحو عشرة ألاف مسلح من روسيا ودول آسيا الوسطى يقاتلون في سوريا. ولا يخفى أيضاً أن إنجاز التفاهم الروسي - الأميركي حول سوريا سيحقق خرقاً في الجدار الذي رفعته واشنطن في وجه موسكو، ويمهد أيضاً لحل الأزمة الأوكرانية ورفع العقوبات الاقتصادية. إذاً تمتلك موسكو، كما واشنطن، دوافع للتعاون، ولكن ما هي صيغة التعاون المتوقع وما هي العراقيل التي تقف بوجهه؟
بات للولايات المتحدة قواعد عسكرية عدة في سوريا، منها مطاران على الأقل. كما تتواجد قواتها الخاصة علنا مع فصائل معارضة عدة على الأراضي السورية. كما نجحت واشنطن في استدراج أنقرة ودفعها نحو التدخل العسكري في الأراضي السورية. ومنذ أسابيع والحديث يدور علناً عن تحضيرات واشنطن لإطلاق عملية الرقة. من الصعب تجاهل الوجود العسكري الأميركي والأطلسي في سوريا، وإذا ما كان من المتوقع أن تكون إدارة هيلاري كلينتون أكثر نزوعاً للتدخل في سوريا، فهذا لا يعني أن إدارة ترامب تفكر بالانسحاب من سوريا وتسليم أوراق اللعبة بالكامل لموسكو. «التعاون» هو الكلمة المهمة التي يرددها البعض في واشنطن، والتعاون هو ما يرحب به الروس، ويناسب تصورهم لمسار إنهاء الحرب السورية.
حرص موسكو على تهيئة الأرضية لنجاح هذا التعاون قد يكون هو ما دفعها لتجنب تنفيذ غارات عنيفة من القصف الجوي على أحياء حلب الشرقية، بالتزامن مع الانتخابات الأميركية، كما كانت بعض وسائل الإعلام الغربية تهول خلال الأسابيع الماضية. فمن المنطقي أن نفترض أن التيار الأميركي الرافض للتعاون مع موسكو سيستثمر أي عمليات عسكرية واسعة تنفذها الأخيرة للتشكيك في جدية نياتها للتعاون مع واشنطن. من المبكر التكهن حول التفاصيل الدقيقة للتعاون الروسي الأميركي المحتمل، ولكن ما تم الاتفاق عليه في فيينا، وفي القرار 2254، وفي تفاهمات وقف الأعمال القتالية تشكل إطاراً معقولاً ومنطقياً للتوصل إلى اتفاقٍ أوسع. والأكيد أن هذا التعاون لن يكون «لعبةً صفريةً» تنتهي برابحٍ واحدٍ يأخذ كل شيء، ولا سيما أن وجود مثل هذا التوجه سيشجع بعض الأطراف على عرقلة التعاون المحتمل.
ماذا لو تأخر الاتفاق؟
أين تقف أنقرة من مثل هذا التعاون، وكيف سيتم لحظ المخاوف، والمطامع، التركية؟ برغم أن واشنطن هي من استدرج أنقرة لغزو الشمال السوري، إلا أن الأخيرة تمتلك مخاوفها «المنطقية» إزاء تطور مشروع الفدرالية في الشمال السوري، كما أنها باتت تُظهر المزيد من الجرأة في المطالبة بنفوذٍ أكبر في محيطها، سواء في الموصل، في شمال العراق، أو في الشمال السوري. وماذا عن أمن إسرائيل الذي تعهد ترامب، ومعه كل «الحزب الجمهوري»، بالدفاع عنه؟ هنا يلتقي تعهد إدارة ترامب بحماية أمن إسرائيل، بعداء «الجمهوريين»، بما فيهم كثيرٌ من رجال ترامب، لإيران. الرئيس السابق لمجلس النواب الأميركي، نيوت غنغرتش، أحد المرشحين الحاليين لتولي وزارة الخارجية الأميركية، أو منصب كبير موظفي البيت الأبيض، حضر اجتماعات للمعارضة الإيرانية عدة، بما فيها اللقاء الأخير في باريس الصيف الماضي، وأبدى دعمه لإسقاط النظام الإيراني. الروس يدركون حساسية مسألة أمن إسرائيل، خاصةً في ظل التعقيدات الحالية؛ لهذا السبب، شدد بوتين، في صيف العام 2015، على ضرورة عدم فتح جبهة جديدة في الجولان ـ بالطبع لم يكن هذا رأي الجميع. من الصعب أن نتخيل أن ينجح التعاون الأميركي - الروسي من دون أن يأخذ بالحسبان هذه العوامل المعقدة، مصالح القوى الأخرى، وقدرتها على العرقلة، وكذلك تأثير الرافضين للحل السياسي كسبيل لإنهاء الحرب السورية.
من المرجح أن تستمر روسيا بضبط مستوى العمليات العسكرية في الميدان السوري، وأن تركز على محاربة تنظيم «داعش»، لتعزيز فرص نجاح التعاون مع واشنطن، ومن المرجح أن يشهد الشرق الأوكراني ضبطاً مماثلاً. وبالطبع لن يستمر هذا الضبط بلا نهاية. فالهدف منه هو تحضير الأرضية للتعاون والانتقال نحو المرحلة التالية. تراجع الأميركيين عن قولهم الأول بأن معركة الرقة ستنطلق بالتزامن مع معركة الموصل، والقول بأن التحضيرات قد تستغرب أشهراً عدة وأنه لا بد من التفاوض مع تركيا ـ ومهما كانت دوافع هذا التغيير في الموقف ـ يزيد من حظوظ التفاهم الأميركي - الروسي في سوريا. ولكن إذا ما تأخر الطرفان الأميركي والروسي في إنجاز هذا التفاهم، فقد تزيد قدرة الأطراف الأخرى على التدخل، ما يهدد بعودة الأمور إلى مسارها السابق. النافذة التي نتحدث عنها قد تكون بضعة أشهر، أو عاماً على أقصى تقدير. فهذا هو الزمن الذي ستنتهي خلاله المعارك الكبرى ضد تنظيم «داعش» في العراق، وتصبح القوات العراقية، وحلفاؤها، على تماسٍ مع الحدود السورية، وكذلك هو الزمن الأقصى لإبقاء الطموحات التركية والكردية في الشمال السوري منضبطةً نوعاً ما. تأخر حصول التفاهم الأميركي - الروسي، وقد يقود إلى انفلاتٍ أكبر للحرب السورية.
محمد صالح الفتيح
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد