26-09-2020
سعادة الفيلسوف في عزلته
مرسيل كونتش ـ ترجمة: أحمد حميدة
ليست عزلة الفيلسوف بالعزلة العاطفيّة، حتّى وإن حظي بكلّ علامات الاعتراف الاجتماعيّ، لا يشعر البتّة أنّه معترف به، وأنّه مفهوم في كينونته الأكثر حميميّة، تلك العزلة التي جعلت مونتاني يصيح قائلاً: «آه.. هل لي من صديق..»، هي عزلة شبيهة بتلك التي يكابدها الفنّان، ولكنّها عزلة فكريّة.
قد يكون للفيلسوف أصدقاء، بل الكثير من الأصدقاء، وبإمكانه العيش بينهم كما عاش أبيقور، ولكنّه يظلّ رغم ذلك وحيداً، لأنّ تلك الحالة نابعة من طبيعة الفلسفة. وتعدّ كلّ فلسفة نتاج صاحبها: فنحن نتحدّث عن «فلسفة أفلاطون» لأنّها تخصّ أفلاطون وحده، وفلسفة «ديكارت» لأنّها تعني ديكارت وحده، وليس في إمكاننا القول إنّ الميكانيكا الكوانتيّة هي نتاج هايزنبارغ وحده، بل إنّ هايزنبارغ أقرّ عكس ذلك تماماً. ألم يصرّح في أحد مؤلّفاته: «من المباحثة تشكّلت مادّة هذا الكتاب الذي يحاول إفهام القارئ كيف يتشكّل العلم من المباحثة».
وهل في إمكاننا تصوّر أنّ ديكارت كتب «مقال عن المنهج» بعد أن يكون قد تباحث مع هذا أو ذاك؟ الأمر هو على العكس من ذلك تماماً. وفي هذا الصّدد أُثر عن ديكارت قوله: «حين كنت في ألمانيا، لم تكن لي أيّة محادثة مع أيّ كان حتّى لا تشغلني عن البحث والتقصّي، فكنت طوال اليوم أعتزل في غرفة مدفّأة، وأتفرّغ تماماً للتّباحث مع أفكاري». لم يكن يريد أن يكون من أولئك الذين «لا يشتغلون إلاّ استناداً إلى أعمال غيرهم»، فبالعودة إلى عقله، وعقله فحسب، كان يسعى إلى إعداد منهج يحلّ كلّ المشكلات التي يثيرها العقل البشري. لذلك سوف تكون فلسفته نتاج عمله، كما أنّ دستور سبارطة كان نتاج عمل ليكورغ وحده.
تنبع عزلة الفيلسوف من خيار ارتضاه لنفسه.. ألا وهو خيار العقل، وأيضاً من انفصاله عن السّواد الأعظم من النّاس، أي عن أولئك المحفوزين بقيم القطيع كما يقول نيتشه، المحكومين بالضّرورات الجماعيّة. فهؤلاء كانوا قد خضعوا لتنشئة تقليديّة، لا عقلانيّة، جعلت منهم أناساً جمعيّين، مذبذبين بين الفرادة والكونيّة، فأحالت بعضهم إلى مسيحيين، فيما أحالت البعض الآخر إلى مسلمين أو بوذيين... ولكن أين هي الحقيقة؟ ذلك هو السّؤال الذي يشغل الفيلسوف. ولأنّه يتميّز بالفرادة ويسعى لتدمير المعتقدات والأفكار الجاهزة، فهو منفتح على ما هو كونيّ.
بمعزل عن البشر
لقد توجّهت برمنيدس، آلهة المعرفة، إلى شابّ يروم طرق سبيل المعرفة، فأسدته النّصيحة التّالية: «لتبتهج أيّها الشّابّ طالما أنّه ليس القدر المهلك هو الذي دفع بك إلى هذه السّبيل، فهذه السبيل.. ولئن كانت معزولة وبعيدة عن الدّروب التي يطرقها عامّة البشر، فهي الطّريق القويمة للحقّ والعدل. ينبغي لك أن تكون عالما بكلّ شيء: بالقلب الذي لا يحيد رغم تذبذبه عن الحقيقة القاطعة، لا بآراء البشر الفانين التي لا ترسي على قناعات راسخة».
الطّريق التي يطرقها الفيلسوف توجد حينئذ «بمعزل عن البشر»، أي بعيداً عن المدائن التي يعمرونها، وعن عاداتهم وأخلاقهم وقوانينهم الخاصّة، لأنّ الحقيقة في أبعادها المطلقة ينبغي أن لا تخلط بالمعتقدات والآراء المتقاسمة جماعيّاً.
و يقول هيراقليطس: «ما يحمله الفيلسوف إلى البشر هي الحقيقة، والحقيقة أبديّة». ولكن «من خطابه الذي يتلمّس حقيقة الأشياء، يقف البشر بلا فطنة ولا إدراك قبل أن يلقوا إليه السّمع كما في اليوم الذي أنصتوا فيه إليه أوّل مرّة». إنّ الحقيقة الفلسفيّة عاجزة عن كسر وثاق العقائد التي تكون فيها عقول البشر الجمعيّين حبيسة، عقول أولئك الذين يسمّيهم هيراقليطس «الكثيرون»: «إنّهم يفتقرون إلى الفطنة حين يستمعون، فما أشبههم بالصمّ، حضورٌ هُمُ غياب». كلّ شيء يتمّ كما لو أنّ الفيلسوف لم يقل شيئاً، ويظلّ خطابه والحقيقة التي يحمل في حالة أشبه ما تكون بالعزلة. ولئن كان الفيلسوف يصطدم بسوء فهم هؤلاء «الكثيرين»، فإنّ موقفهم ذاك قد يكون من باب العدائيّة. وفلاسفة مثل أناغزغور كان مآلهم النّفي، وبعضهم مثل بويس.. قضوا في السّجن، وبعضهم الآخر كان مصيرهم أن حرقوا أحياء، فيما أجبر آخرون على تناول نبات الشّوكران السامّ. ويبقى على الفيلسوف أن يعيش متجاَهَلاً كما نيتشه، أو مختفياً كما كان يوصي بذلك أبيقور، مستخلصاً الدّرس من مقتل سقراط، في حين يؤكّد أفلاطون أنّ السلطة السّياسيّة ينبغي أن تكون بصورة طبيعيّة للفلاسفة، والحال أنّ «الكثيرين» هم الذين يمسكون بهذه السّلطة، حيث يغدو الفيلسوف في ظلّ النظام الدّيموقراطي رهين الكثرة المعمّمة من النّاس، إذ وفقاً لعبارة هيرقليطس: «الواحد يوازي عشرة آلاف.. إن كان أفضلهم». وأمام السلطة السّياسيّة، لا يكون الإنسان الحرّ في موقع قوّة، لذلك ينصح الأبيقوري لوكراس هؤلاء الأحرار بأن لا يتصرّفوا تصرّف الأبطال، و«أن يحنوا رؤوسهم ويمتثلوا للأوامر بكلّ وداعة». ينبغي إذاً معرفة هؤلاء «الكثيرين»، إذ إنّ وجود كلّ جماعة يفترض انسجام أفكارها وسلوكيّاتها مع نموذج مثال، ومع تصرّفات امتثاليّة. غير أنّ الفيلسوف يمثّل الرّفض والمعارضة المطلقة، ويشكّل تبعاً لذلك خطراً على تماسك الجماعة حين يضع موضع السّؤال كلّ حقيقة مسلّمة يؤمنون بها. وكيف لهذا الرّفض أن يتجلّى؟ إنّه يستبين حين يطرح الفيلسوف سؤالاً ما، وسؤاله هو: هل هذا الأمر حقيقيّ؟ وماذا عن الحقيقة؟.
الحقيقة أمْ السّعادة
أوجين دي لا كروا.. «الشّاعر في بيت المجانين» يجمع دي لاكروا في أعماله دائماً بين العبقريّة والعزلة، المبتغاة أو المفروضة. والشّاعر هنا هو تلك «الرّوح التي تحمل أحلاماً مبهمة»، والتي تحدّث عنها بودلير، شقيق دي لاكروا في العزلة.
ما هي الحقيقة؟ إنّ «ثنائي الحقّ والعدل» في قصيد برمنيدس، يعنيان أنّ الفيلسوف يضع نفسه تحت نير قانون وعدل لا يتّفقان ونواميس الجماعة، لأنّهما يكتسيان بعداً كونيّاً. وتعني مفردة «تيميس» أو «ديكاي» عند هوميروس.. النّظام في بعده العامّ، ولكن هوميروس يفكّر خاصّة في النّظام البشري، فيما ذهبت برمنيدس إلى أنّه ينبغي أن نفهم من «اكتشاف الحقيقة»: انكشاف النّظام والقوانين العميقة التي تحكم الواقع. كلّ فيلسوف (جدير بهذا الاسم) يحدّثنا عن الواقع في أبعاده العامّة (إمّا علميّاً كديكارت وإما شعريّاً كنيتشه)، ولكن الإنسان العادي ما عساه يفعل بمعرفة الواقع في بعده العامّ؟ فالمزارع والتّاجر والأجير والموظّف والجنديّ لا تهمّهم غير أجزاء طفيفة من الواقع: حال الطّقس، وضعيّة السّوق، القوانين الجديدة، الأجور، التّرقيّات.. إلخ. كلّ يعيش داخل فقاعته، ولكلّ مشاكله وشقاؤه. ومع ذلك «وبصرف النّظر عن ذلك الشقاء، فهو يريد أن يعيش سعيداً، ولا يريد أن يكون إلاّ كذلك، كما يقول بسكال. غير أنّ الإنسان العادي الذي أتحدّث عنه لا يعتقد ولو للحظة، أنّ الفلسفة يمكن أن تهبه ذاك الذي يبحث عنه وينشده: السّعادة، وهو في ذلك محقّ، إذ كيف لمعرفة الحقيقة التي يسعى إليها الفيلسوف، أن تكون متّسقة مع السّعادة؟ أليس هنالك، على العكس من ذلك، إحساس بالألم يجعله يفقد أوهامه؟ (أوَنكون أكثر سعادة لو توقّفنا عن الاعتقاد في أنّ لنا روحاً خالدة؟). الفيلسوف لا يبحث عن السّعادة، ثمّ ما الذي قد يحمله على ذلك وهو الذي يشعر بالسّعادة؟ لقد تمكّن ديكارت من التّباحث مع أفكاره لإعداد منهجه، لأنّه لم يحمل أي قلق أو هوس قد يعكّر صفو تأمّله». لقد كان سعيداً ولا شكّ، والفلسفة هي ترف السّعداء. وهذا التّرف قد يشكّل ذروة السّعادة عند موباسّان، ويشبه قُبلةَ العشيقة، متى كان حبّها صادقاً لا يعتريه زيف. ولكن.. لا علاقة لذلك البتّة بالفلسفة.
لا وجود للفلسفة من دون تفكير، والتّفكير لا يقود بالضّرورة إلى السّعادة، بل أحياناً ما تكون له نتائج عكسيّة. والفيلسوف الذي ينشد الحقيقة، عادة ما يكون بالغ الإصرار لدفع الضّريبة المهلكة للمعاناة، لأنّ اعتزال الآخرين، حتّى وإن كانوا يفتقرون إلى الفطنة، فإنّ ذلك هو عين المعاناة. لقد اعتقد أبيقور كما سبينوزا أنّهما أدركا الحقيقة، ونحن نعلم اليوم أن الفلسفة ــ الميتافيزيقا– ليست بعلم (أنّه لا وجود لبراهين في الميتافيزيقا وإنّما مجرّد حجج)، على نحو يجعل الفلسفة لا تدرك غير حقيقتها، وفي الحالين تبقى الفلسفة عديمة الصّدى فيما وراء حلقة المريدين. فالمجمع العلمي يبقى منفتحاً للجميع في الواقع وفي الحقّ، بينما ينفتح المجمع الفلسفي للجميع في الحقّ ولا في الواقع (لأنّ الحقيقة التي تقدّمها الفلسفة لها بعد كونيّ). ويظلّ الأبيقوريّون في بستانهم، وفيما بينهم، ترافقهم عزلتهم. وفيما يلي هذه الأنشودة للُوكراسْ التي جاءت ممتدحة لأبيقور:
«هو ذا أنت أيّها الأب.. مكتشف الحقيقة: أنت من يغدق علينا تلك الدّروس الأبويّة، ففي كتبك أيّها المعلّم الممجّد، وكالنّحلات المزهوّة في حقل مزهر تمضي لامتصاص الرحيق حيثما كان، نقبل على كلماتك الذّهبيّة لننهل من معينها بشغف وحدّ التّخمة، وكم هي وقورة تلك الكلمات حين تتحدّث عن الحياة الأبديّة».
خلافات بين المدارس
لقد عرف أبيقور مدى عزلة ذلك الذي يكتشف الحقيقة، لقد انتبذ جمهور العامّة الذين يعتقدون أن الآلهة تراقب البشر، وأنه ينبغي خشية الموت وأنّه لا حدّ للرّغبة، ولكنّه انتبذ أيضاً الفلاسفة الذين سبقوه. ومع ذلك، فإنّه كلّما كان له مريدون، وأصبحت الحقيقة متقاسمة، غدا فكره جماعيّاً كما يلمح نيتشه إلى ذلك، وهنا يكمن التّناقض، ففي القانون الكوني، لا يشترك في الحقيقة إلاّ بعض النّاس. لم يعد أبيقور وحيداً إذن، ولكنّ الأبيقوريين ظلّوا كذلك. وكذا الشّأن بالنّسبة إلى الأفلاطونيين، للفيثاغوريين، للرّواقيين، للشّكوكيين.. إلخ. وتشظّت الفلسفة هكذا إلى مدارس وحلقات وأكاديميّات. وفيما كان العلماء يجدون دوماً الوسيلة للإجماع على فكرة واحدة (طالما أنّهم يتحفّظون من التّفلسف)، فإنّه بين الفلاسفة المنتمين إلى مدارس مختلفة، ليس هنالك من مصالحة ممكنة: فلا تفاهم بين أفلاطون وديموقريطس، وكذلك بين أرسطو وأبيقور، زينون وأبيقور، كريسيب وأرسازيلاس، ديكارت وغراسّندي، مالبرانش وسبينوزا، كانط وفيخته.. إلخ. لقد غدا الفلاسفة اليوم أنصار موقف إصلاحيّ في الفلسفة، ويؤثرون المقاربة التّحليليّة واللّغويّة للمعضلات، ويرفضون الفلسفات من نوع الفلسفة المتعالية (كانط.. هوسرل)، كما فلسفة الشّموليّة والمطلق (أفلاطون وهيغل)، متناسين أنّ «الفلسفة هي البحث عن الحقيقة» (ديكارت)، وأن«الحقيقة هي الكلّ» (هيغل).
ينطويّ كلّ فيلسوف داخل فقاعته، إمّا وحيداً (نيتشه)، وإمّا مع آخرين في عزلة جماعيّة ولا علاج لذلك، طالما أنّ لا أحد يدرك معنى الموت، وأنّه في إمكاننا طرح احتمالات بشكل أو بآخر، على قاعدة من التّساوي في ذلك الطّرح.
إضافة تعليق جديد