سعاد جروس: أقسم «صورياً»
بثت وكالة الأنباء €يو.بي.آي€ خبراً مقتضباً منذ نحو أسبوعين مفاده أن محكمة يمنية متخصصة في قضايا الأمن والإرهاب, حكمت بسجن متهم مدة سنتين بعد إدانته بتزوير نص قسم اليمين الدستورية لرئيس الجمهورية وكبار رجال الدولة خلال عمله بوزارة الشؤون القانونية, بإضافته إلى القسم مفردة €صورياً€.
على الرغم من طرافة وغرابة هذا الخبر العربي بامتياز, لم تتعاط معه سوى بضع جرائد عربية تكاد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة, وبشكل خجول جداً بحيث لا يلحظه إلا القارئ الفضولي وما اقلهم في عصر التجهيل الإعلامي ولولا انه وصلني عن طريق الإيميل من صديق إحدى هواياته المفضلة البحبشة بين سطور الانترنت وما وراءها وأمامها وفوقها وتحتها, لم أكن لأعلم به, وأكتب عن المتهم «بتحريف» القسم الدستوري أثناء طباعته له. وقد قضى منطوق الحكم بعدم قبول الدفع المقدم من محامي المتهم على اعتبار أن المتهم تعمد كتابة الكلمة نكاية في النظام. فثبتت التهمة عليه, ودين وسجن.
هذا القسم يؤديه الرئيس اليمني علي عبد الله صالح ونائبه وأعضاء مجلس النواب ورئيس وأعضاء الحكومة ورئيس وأعضاء مجلس الشورى, وقد أضاف إليه المتهم بعد أقسم بالله العظيم أن أكون متمسكاً بكتاب الله وسنة رسوله, وأن أحافظ مخلصاً على النظام الجمهوري €صورياً€؛ فقصمت الكلمة ظهر القسم.
بعيدا عن السياسة فإن هذا الرجل المتهم الذي لم يذكر الخبر اسمه, يستحق التقدير والمكافأة من قبل القاضي والمعنيين بالقضية, لا لنطقه بالحق وحسب, بل لأنه بفعلته التي ربما تكون لاإرادية والأغلب لرأينا أن تكون إلهاماً, جنَّب هؤلاء مغبة القسم الكاذب, مع احتمال كبير بأنهم أدوا القسم «اتوماتيكيا» أو «ببغائياً» من دون انتباه لمعنى ما ينطقونه إلا بعد فوات الأوان, وهو ما يستحقون عليه العقوبة «فعليا» لا «صوريا» إذا شئنا الحديث عمن يستحق الإدانة, المتهم بإضافة الكلمة أم الذي تلاها من دون تفكير!! المهم أن المتهم لخص بكلمة «صورياً» حقيقة البون الشاسع بين وضع الأنظمة العربية على ورق الجرائد والخطابات الرسمية وبين ممارساتها على الأرض, لكن بما أن الحقيقة جارحة وصادمة ومعوقة لاستمرارية الأنظمة المستقرة كان لا بد من معاقبة الفاعل, ولفلفة القضية كي لا تتحول إلى مادة للتفكه والتندر, لأننا شعوب ترفه عن نفسها بنكات مستنبطة من واقع عجزها واستكانتها!!
ما تجهله الأنظمة أو تتجاهله أن شعوبها استمرأت هذا النوع من الترفيه, إلى درجة باتت فيه حريصة على البقاء عاجزة كي لا تجف منابع النكات المرَّة, كوسيلة وحيدة للضحك وتلطيف أجواء الحروب والصراعات وتفشي الفساد وتدهور الاقتصاد والتخلف والأمية المعرفية المفروضة عليهم كالقضاء والقدر. وربما هذا ما جعل محكمة متجهمة متخصصة بقضايا الأمن والإرهاب تفصل في القضية, التي لا يبدو أن لها أي صلة بتهديد الأمن أو بالإرهاب, اللهم سوى من جانب أن لكلمة €صورياً€ تأثير رصاصة صوبت إلى كبد الحقيقة لتغتال واحدة من كبريات الأكاذيب العربية, وليصحو على صوتها من كان به صمم من الشعوب النائمة في عسل الأضاليل.
إلا أن الرصاصة أجبرت على أن تكون من النوع الصامت, فجرى التكتم عليها وسُربت كخبر منوعات لم ينل نسبة 1€ من الاهتمام الذي يلاقيه أي خبر منوعات آخر عن داعرات الشرق والغرب, ما فوت فرصة تحويله إلى قضية رأي عام, واتجاه معاكس, ورأي ورأي آخر... وطبل وزمر في برامج السياحة السياسية على امتداد فضائياتنا العربية الإخبارية المهمومة بتقديم فواصل منشطة للشعوب €صورياً€ بين وصلات التنويم القهري المديد €فعلياًً€.
فنحن €صورياً€ شعوب حية, و€صورياً€ غير راضين عن أداء حكوماتنا, و€صورياً€ نطالب بالتغيير والحرية والديمقراطية, و€صورياً€ نحسد المجتمعات المتقدمة و€صورياً€ نتعقب من دون جدوى تجارب البلدان التي تنمو اقتصادياً بسرعة خيالية كالصين واليابان والهند واندونيسيا, و€صورياً€ نبحث عن حلول وآمال تهبط علينا من السماء, و€صورياً€ نريد السير في ركب ثورة أي ثورة عالمية, أو عولمية حتى لو كانت ثورة المراحيض التي ينادي بها السياسي والبرلماني الكوري الجنوبي المعروف سيم جاي دك, الملقب بـ «المستر تواليت» الداعي إلى غض النظر عن الموديل الغربي, وتصميم المراحيض بصورة مختلفة تتناسب مع المجتمعات المحلية وتراعي مسألة أزمة المياه والانفجار السكاني, بمعنى ما حتى هذه الثورة نحن خارجها... لأننا عملياً وعلى الأرض غير مستعدين حتى لفتح عين واحدة ولو نصف فتحة على حقيقة ما وصلت إليه العلاقة بين الشعوب والأنظمة العربية, المشابهة لعلاقة الرجل بالمرأة في مجتمعنا الشرقي, من حيث أن نجاحها مرهون بحجم الخداع وبراعته, فكلما كانت الخدع المتبادلة محبوكة أكثر, استمرت العلاقة لفترة أطول, وظللتها السعادة أكثر وأكثر €صورياً€.
سعاد جروس
المصدر: الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد