رهان المعرفة الفلسفية
أن تراهن الفلسفة على الحرّية مقصدا لها، فهذا أمر يكاد يرتقي إلى مستوى البداهة باعتبار المعرفة الفلسفيّة تحمل هذا الرّهان شعارا ملازما لها. لكن يتعيّن قبل اختبار هذا الادّعاء أن ننبّه إلى الفضاء المرجعيّ الذي تتنزّل ضمنه هذه المسألة. وهو فضاء متعدّد المستويات وغير ثابت بالضّرورة نظرا إلى كوننا نستطيع ضمنه أن نستند إلى بعض تمفصلات تاريخ الفلسفة. ونظرا إلى كوننا نستطيع ضمنه أن نقفز على بعض هذه التّمفصلات وأن نستنطق مباشرة العلاقة بين مقولتي “الفلسفة” و”الحرّية”. ولكن مهما يكن من أمر مرجعيّات هذه المسألة فلا غنى, في تقديرنا، عن الانطلاق من هذا السّؤال: بأيّ معنى تراهن المعرفة الفلسفيّة على الحرّية؟ وهو سؤال يفضي بدوره إلى مساءلة بعض النّظريّات الفلسفيّة عمّ إذا كانت غاية الحرّية فيها معقودة على ما هو نظريّ أم على ما هو عمليّ. وبهذا المعنى يمكن أن نتساءل أيضا: ما هي منزلة الحرّية من التّفكير الفلسفيّ إجمالا؟ وقبل ذلك: ما هو الوضع الذي يُفترض أنّ الفلسفة تتحرّر أو تحرّرنا منه؟
إنّ مقاربة كهذه تنبني على تداول مقولتي الفلسفة والحرّية لا بدّ أن تكون منذ البداية، معقودة على وضع إشكاليّ نظرا إلى كون هذين المفهومين يُشكِلان على الفكر إذا رام تحديدهما بدقّة حتّى أنّه قد يكون من قبيل التّكرار المبتذل أن نذكّر بالخصومات الدّائرة حول صعوبة تحديد ماهية الفلسفة وبالجدال المتعلّق بالتباس معنى الحرّية نظرا إلى أسباب أضحت شائعة في الأدبيات الفلسفيّة قديمها وحديثها. ولذلك فإنّه قد يكون من الأجدر أن نشرع مباشرة في اختبار العلاقة بين هاتين المقولتين وذلك عن طريق استرجاع السّؤال الأخير الذي طرحناه منذ قليل لكونه سؤالا يبدو أكثر تخصيصا من غيره فيسمح لنا بتجنّب بعض الصّعوبات منذ البداية وبالحذر من التّورّط في خطر التّعميم؛ أي سؤال: ممّ تتحرّر الفلسفة أو ممّ تُحرّرنا؟
بيد أنّ التّصدّي لمثل هذا السّؤال قد يضطرّنا إلى استنطاق بعض المواقف الفلسفيّة استنطاقا تأويليّا نظرا إلى كونها لا تستعمل دائما مقولة الحرّية استعمالا صريحا، بل ترد لديها أحيانا بشكل ضمنيّ فلا ننتبه إلى قصد الحرّية لديها إلاّ إذا أجريناها مجرى التّأويل. فإذا كانت الفلسفة في لحظتها الميتافيزيقيّة تدّعي أنّها تنشد الحقيقة في حدّ ذاتها فإنّ البرهان بالخُلف يبيّن لنا أنّ “الحقيقة” ليست متوفّرة في المعارف السّائدة خارج إطار الفلسفة. ومعنى ذلك أنّ الفلسفة مدعوّة إلى أن تنخرط في صراع ضدّ هذه المعارف التي لا تتوفّر على الحقيقة في حدّ ذاتها وإنّما تتوفّر على أحكام أخرى تزعم أنّها الحقائق بعينها. وقد يسمح لنا التّأويل هاهنا بأن نقرّ كون الفلسفة تتطلّع إلى تحرير الفكر من هذه الأوهام. أفلا يمكن عندئذ أن نعتبر نظريّة المثل لدى أفلاطون، باعتبارها ضدّ “الحقائق” الوهميّة والمعرفة الظنّيّة، مندرجة ضمن هذا السّياق من تحرير الفكر؟ غير أنّ هذا الأمر يستدعي أن نتساءل: ما هي آليّة التّحرير المعتمدة هاهنا؟
هذه الآليّة ليست متعلّقة بدلالة كلّية للحرّية، وإنّما أساسا بإزاحة ما يُعتبر نقيضا للحرّية، ألا وهو “الوهم”. فهو إذن تحرير أبستيمي (معرفيّ), ومن ثمّة فإنّ هذه الآليّة لا تعدو أن تكون غير “النّقد”. وعلى هذا الأساس استحضرنا النّظريّة الأفلاطونيّة بوصفها نظريّة تستهدف الخبرة الظنـية بالنّقد والتّجاوز فتعكف على تحرير “اللّوغوس” من ربقة “الميثوس”. ولئن كان هذا الاستنتاج ممكنا بواسطة التّأويل، فقد لا يستدعي ـ ما تعلّق الأمر ببعض المواقف الأخرى بما فيها تلك المنتسبة إلى الخطاب الميتافيزيقيّ ـ مشقّة التّأويل. فإذا استدعينا ما يصف به أرسطو التّفكير الفلسفيّ فإنّنا نقف مباشرة على دلالة للحرّية مخصوصة لكنّها تمثّل مقصدا معلنا وواضحا للفلسفة التي يقول عنها أرسطو: “إنّ هذا العلم هو الوحيد, من بين جميع العلوم, الذي يمثّل مبحثا حرّا لأنّه الوحيد الذي يكون غاية ذاته”. وإن كنّا غير مدعوّين, بالضّرورة, إلى تحليل هذا العلم الأرسطي باعتبار مقاربتنا لا تدور حول فلسفته حصرا فإنّ هذا الحكم لديه يسعفنا بالاهتداء إلى دلالة أخرى لفعل التّحرّر الفلسفيّ. فأن يراهن المبحث الفلسفيّ على أن يكون حرّا، هو أن يراهن على تخليص نفسه من الوضعيّة “الأداتيـّة”، أي ألاّ يكون وسيلة لغيره. ومؤدّى ذلك أنّ بقيّة المعارف لا تتضمّن معنى الحرّية لكونها وسائط من أجل غايات توجد خارجها. ويكفي للتّدليل على ذلك أن ننتبه إلى كون المعرفة الأسطوريّة مثلا منذورة لخدمة غيرها، أي القوى الغيبيّة ـ وقس على ذلك المعرفة الشّعريّة عند العرب القدامى ـ فهي إذن غير حرّة لأنّ قيمتها لا تتأتّى من ذاتها. وعليه فإنّ تحرير الفكر الفلسفيّ مشروط بجعله وحده دون سواه مصدر قيمته.
بيد أنّ هذا “المسار” المخصوص بمعنى التّحرّر الذي يتحقّق وفق آليّة النّقد إنّما هو قابل للتّحقّق وفق آليات أخرى ذات صلة بمفهوم النّقد. ونعني بذلك تخصيصا طريقة “الشّكّ” من حيث الشكّ يفيد معنى التّظنّن على الأخطاء والأوهام التي تتسرّب إلى المعرفة عموما وإلى العقل البشريّ خصوصا. فتحرير العقل هو أن يتمّ تمكينه من دربة على تنقية نفسه من الشّوائب التي يمكن أن تعلق به نتيجة مداخلته للحسّ والظّنون. ولعلّ هذا المعنى أوضح ما يكون عند ديكارت. ولعلّه لا يقلّ وضوحا عند كانط. وذلك من جهة أنّ العقلانيّة الدّيكارتيّة لا تفعل, وهي تقتدي بمنهج الشكّ، غير إعلان الفكر مقياسا لوجود الإنسان وبفضله يتمكّن الإنسان من السّيطرة على العالم. فإذا برهان التّحرّر يتوسّع, في أفق هذه العقلانيّة، ليغدو رهانا أنطولوجيّا يقول ديكارت: “أمّا الإرادة أو حرّية الاختيار فقد خبرتها في نفسي فوجدتها وحدها كبيرة للغاية, بحيث لا أتصوّر غيرها أوسع وأرحب منها”. وأمّا من جهة العقلانيّة الكانطيّة فإنّ الذّات مازالت في حاجة ماسّة إلى اشتغال فلسفيّ آخر يحرّرها من ثقتها الدّوغمائيّة في نفسها. وآلة هذا الرّهان إنّما هي, مرّة أخرى, النّقد؛ ولكنّه هذه المرّة النّقد بدلالة مخصوصة تتمثّل في القدرة على “التّحديد”, وبخاصّة تحديد إمكانات العقل ثمّ اغناؤها بإمكانات التّجربة حتّى تكون سيطرة الذّات على العالم, التي نادى بها ديكارت, أشمل.
وبتعبير آخر فإنّ عقلا لا يحرّر نفسه من أوهامه عن ذاته لا يكون حرّا. وما أكثر أوهامنا عن ذواتنا! وقد لا نحتاج إلى برهنة معقّدة لنظفر بهذا المعنى لدى كانط إذ يكفي أن نستحضر عبارته: “لقد أيقظني هيوم من سباتي العميق”. وهل لذلك من معنى سوى أنّ انفتاح العقل على التّجربة هو الذي يحرّره من أوهام كبريائه.
المنصف الوهايبي
إضافة تعليق جديد