راينر ماريا ريلكه «رسائل في الحياة»
نرى الحب على أنه هديّة الهدايا؛ الأُعطية الأعظم. لكن، بالرغم من أن الحبّ يطرق بابنا في البدء دونما دعوة، أو كما يدعوه بيرسي شيلي: «غيبوبةٌ صامتةٌ من الغبطة»، فبلوغ الألفة الحقّة بين كيانين أمرٌ شائك. الحميميّة تعلو بقواعد اللعبة إلى مستوياتٍ تغدو عندها احتمالية التداعي أو الفشل ماحقةً لعظام الروح لا محالة. فالألفة الأصيلة شرفٌ صعب المرام.
وعندما تحين النهاية، أي عندما تَبلى الحميمية نتيجة انقلاب عجلة الحظ، وظروف الحياة العاثرة، يُقاس مقدار الحب عندها بالقدرة على إنقاذ نواة العلاقة، وإلى أيّ درجة يمكن إصلاحها من الضرر الذي أصاب قشورها السطحية. يُقاس بقدرة كل طرفٍ على البقاء منفتحًا رغم جراحه، وبقدرة الشخصين اللذين أحبّ أحدهما الآخر على بذل الرعاية والطبطبةِ بلطفٍ على مواطن وجع الآخر -بما يتّصف به ذلك من قوة تفوق قدرة البشر- في سبيل استرجاع الألفة بعد الفراق.
أحد السُبُل لاستعادة الألفة بعد الفراق بصورةٍ نزيهةٍ هي ما يتوافق مع تعريف “أدريان ريتش” للعلاقات الإنسانية النبيلة، والذي يستجليه الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه (1875م-1926م) في إحدى رسائله مُدهشة الحذق والحصافة، والتي نُشِرَت بعد وفاته في مجموعة: «رسائلٌ في الحياة».
فنُّ التخلّي الأنيق النظيف
في اليوم التالي لعيد الميلاد عام 1921م، بعد عقدين تقريبًا من تأكيد ريلكه على فلسفته في الحب بقوله: «أن يحبّ أحدنا الآخر هو الفريضة الأصعب؛ فريضةٌ تغدو معها كلّ الفرائض الأخرى مجرد تحضير لها». وبعد أربع سنوات من كتابة الشاعرة إدنا سينت فينسنت ميلاي كتابها «فنّ الفراق اللطيف النظيف»، كتب ريلكه في رسالةٍ للرسام الألماني رينولد رودولف يوهانس الذي كان صديقًا مقرَّبًا لريلكه، وكان يمرّ بفترة انفصال مؤلمٍ جراء خسارته لمحبوبته:
حالما يصمّم شخصان على التخلّي عن العلاقة التي جمعتهما في يوم من الأيام، يغدو عندها الألم الناجم عن هكذا انسلاخ بكلّ كثافته جزءًا من حياة الطرفين، ويجب على كلٍّ منهما أن ينكر ذاته بصرامةٍ على سبيل الشفقة والتعاطف مع الطرف الآخر. هذا الألم هو ما يميّز بداية النهاية في أيّ انفصالٍ بالتراضي، والتحدّي الأوّل والأهم هو حتمية تجرُّع كلا الطرفين لهذا الألم وحيدًا. هذا الألم هو شرطٌ أساسي لما على هذا الفرد المنفرد والوحيد إلى أبعد درجات الوحدة خلقه في المستقبل لتحسين حياته.
ألمُ اليوم؛ حكمةُ الغد
اعتبر ريلكه أنه مهما كان الفراق عن طيب خاطر مؤلمًا على المستوى اللحظي، إلا أنه مكسبٌ على المدى البعيد لكلا الطرفين، حيث يقول: «إن تمكَّنَ شخصان من تجاوز مشاعر الكراهية خلال مشاحناتهما على خلفية شغفهما الذي خمد وهدأ الآن وأصابه البَلى، إن حرَص كلاهما على مرونته وخفّته في تواصله مع الآخر وعلاقته معه، بمعنى إن بقي أيُّ اعتبارٍ حُبّي أو تآسٍ إنساني مُتاحًا أمامهما، فإن قرارهما بالانفصال دون رجعة لن يرخي بظلال المأساة والهول على مستقبلهما».
بعد أربعة أسابيع، ومع استمرار يوهانس في معاناة ويلات رحيل محبوبته، حذّره ريلكه من مخاطر العلاقات السائلة التي تتّسم بالكرِّ والفر، والتي تؤدي بما تكتنفه من تلطيفٍ للتوق وتخفيفٍ للخسارة على المدى المنظور إلى تنامي الجرح لدى الطرفين، فيقول:
«هي المسافة؛ تمرينُ البصر على أعمال البصيرة»
يؤكِّد راينر ماريا ريلكه على أهمية اجتراح المسافات لكي تولد صداقةٌ من رحم علاقة حبٍّ سابق. تتطلب هذه المسافة إيمانًا هائلًا من المرء ليلقي بنفسه في أحضان رابطةٍ مُلتبسة ومترددة، لكنها تستحقّ العناء.
«قد يلجأ الناس في حالتك إلى التواصل تحت عَباءة الصداقة. لكن ينبغي على الطرفين في البداية البقاء على مَبعَدة قدر الإمكان، وأن يستقّل كلٌّ منهما في حياته عن الآخر. وذلك ضروري ليزرع كلٌّ منهما جذور حياته الجديدة ضمن نطاق شروطها ومتطلباتها الطارئة. وعلى أيِّ تواصلٍ لاحق -مهما كان مستجِّدًا وجالبًا للبهجة- أن يبقى ضمن نطاق الصدفة والقَدَر».
وفي خريف ذلك العام، أسدى ريلكه نصيحةً لصديقة أخرى مكلومة القلب جراء عذابات الحب: «لطالما كان ما يُثرينا هو ما يبثُّ في نفوسنا الاضطراب». ومع ذلك يكرّر أنه مهما كان إغراء لمِّ الشمل طاغيًا، فمن الضروري خلق مسافةٍ تعطي نوعًا من صفاء الرؤية؛ لتوضيح شكل العلاقة، واستجلاء ما بالمتاح إنقاذه، إن كان لا يزال هنالك ما بالإمكان إنقاذه.
يصرّ ريلكه بمحاكاةٍ تطري على حكمته التي بثّها في حديثه عن وجوب خلق المسافات في العلاقات العاطفية وما يرافقها من تحديات، يصرّ على أن فنّ رسم المسافات بعد وصول العلاقات إلى خواتيمها مهمةٌ صعبة وشائكة، ويعبّر عن ذلك قائلًا:
في النهاية، ما نحن إلا عبيدٌ للضلال
يحذّر ريلكه من إغواء التعامي عن العوامل التي فسخت العلاقة وجعلتها ضربًا من المستحيل، وعليه إعادة إحياء العلاقة من رميم. إن هذا الخِيَار لا يداوي الجرح، وإنما يجترح دائرةً سرمديةً من الألم وخيبة الأمل.
«لا من أمرٍ يجعلنا عبيدًا للضلال سوى تكراره على امتداد الحياة، وكم من إنسان انتهى إلى قدرٍ وعلاقةٍ أحمقَ الخُطى، وقد كان بمقدوره تفادي قَدَره بالانسلاخ الخالص تدريجيًّا عن الآخر، وعليه يضمن لنفسه إيقاعًا تغدو عنده دقّات قلبه السرية قوية دونما تعب في التخوم العميقة لعالمه الداخلي».
نجدُ انسجامًا وأناقة محزنة وجميلة على حدٍّ سواء في إيمان ريلكه بالقوة التطهيرية لاجتراح المسافات والتباعد والعزلة على إنقاذ الحب من حطام العلاقات العاطفية.
يصرّ راينر ماريا ريلكه -ما قبل ولادة الحب وفي خِضَمّه وإلى ما بعد احتضاره- أن: «الواجب الأعظم لأي رابطةٍ بين كيانين هو أن يحرسَ كلٌّ منهما عزلة الآخر ويحميها».
المحطة
إضافة تعليق جديد