رؤية محمد عبده للعالم (1849-1905)
حمل محمد عبده لأوروبا صورتين متناقضتين، صورة الغازي المخاتل، غير الصادق لمبادئه عندما يتعلق بالخارج، وصورة زاهية عن إنجازها العلمي والسياسي. فقد لاحظ كيف «تطرد الحكومة الفرنسية الجزويت من بلادها، وتنازع الكنيسة سلطانها، ثم تمارس سياسة دينية محضة في الخارج»، كما رأى كيف يخونون قضية الحرية بالنسبة الى الآخر، فيقول لصحافي إنكليزي: «إننا نرى أن انتصاركم للحرية هو انتصار لما فيه مصلحتكم، وأن عطفكم علينا كعطف الذئب على الحمل، لقد قضيتم على عناصر الخير فينا كي يكون لكم، في ذلك، حجة للبقاء في بلادنا». ولعله ذُهل عندما قال له سبنسر: «إن الحق قد اختفى في مجال السياسة الأوروبية الحديثة، وسيأتي زمن تسيطر فيه القوة على العالم..»!
في مقابل تلك الصورة السلبية، فإن عبده لم يكتم إعجابه برقي أوروبا في مجال العمران، وتوطيد العدالة، والشورى، فهو يشهد لأهلها بالمثابرة، والتصميم والإنجاز: «إنهم لا يحقرون عملاً، ولا يقطعون أملاً، ولا يأخذ أحدهم رهبة في أداء ما يوجب عليه دينه أو وطنه»، ويذكر أنه ما ذهب يوماً إلى أوروبا «إلاَّ ويتجدد عندي الأمل في تغيير حال المسلمين إلى خير منها، وذلك بإصلاح ما أفسدوا في دينهم، وتشحيذ عزائمهم لمعرفة شؤونهم، وامتلاك ناصيتهم بأيديهم».
لهذا، دعا إلى الانتفاع بما تحمله المدنية الأوروبية «من علوم جديدة، مفيدة، هي من لوازم حياتنا في هذه الأزمان، لأنها كافة عنا أيدي العدوان والهوان، وأساس لسعادتنا، ومعيار لثروتنا وقوتنا، ولا بد لنا من اكتسابها، وبذل الجهد في طلبها»، كما دعا إلى اقتباس النظام الدستوري البرلماني من أوروبا، وقد اعتبره تطبيقاً حديثاً لمبدأ الشورى الإسلامي، فأظهر إعجابه بنماذجه الغربية، وأطرى على «حالة الحكومة الأميركية في اعتدال أحكامها، والحرية التامة في الانتخابات العمومية في رؤساء جمهورياتها، وأعضاء نوابها، ومجالسها.. وتعرف مقدار السعادة التي نالها الأهالي من تلك الحالة».
- اتخذ الإمام لنفسه موقفاً وسطاً، تجاه الثقافة الغربية، فهو يقول: «قد خالفت في الدعوة رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة، طلاب علوم الدين، ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هم في ناحيتهم». وعلى هذا الأساس، انتقد التعليم في المدارس الأجنبية، كما انتقد المدرسة التقليدية التي «إن كانت لهم عقائد فهي بقايا من عقائد الجبرية»، كما انتقد الأزهر الذي «لم يسمع منه إلاّ ما يملأ القلب بغضاً، لكل من لم يشاركه الاعتقاد حتى من بني ملته»، وهو قال لشيخ الأزهر: «إن كان لي حظ العلم فإني لم أحصله إلاّ بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من أوساخ الأزهر».
- تابع الإمام النهج الذي عهدناه لدى الطهطاوي، والتونسي، في التوحيد بين المناهج الموروثة من الفكر الإسلامي، والفكر الأوربي الحديث. وقد قال مرة: «ما زالت الأمم يأخذ بعضها عن بعض في المدنية، لدفع ضرورة أو لاستكمال شأن من شؤونها»، واعتبر أن الأصل في الاجتماع الإنساني «نشأ من عائلة واحدة، وإذا رجع الإنسان إلى مركزه الطبيعي لا ترى الجمعية البشرية، بعد، إلاّ كساكني منزل واحد، يرتفعون بمنافعه على السواء...»، فالأصل في الإنسانية هو التكامل والتعاون، وأن شواهد العالم المعاصر مثل تعميم المواصلات، وتأثير الروابط بين الممالك، تشهد أن الاتجاه يذهب إلى التعاون من جديد.
وأشار عبده إلى أن المدنيات، خلال تفرقها، لم تتقدم إلاّ من طريق اقتباسها المتبادل، فالهيئة الاجتماعية «ما وصلت إلى درجة من درجات التمدن والحضارة، في وقت من الأوقات، دفعة واحدة، بل لا بد من أن تسبق أمة من الأمم إلى غاية المدنية، فإذا نظرت إلى جارتها، وقد بقيت متأخرة عنها، رمقتها بعين الذاهل المندهش... فتقف تلك وقفة الحائر المتفكر إلى أن يرشدها التأمل إلى أن هذه ما وصلت، إلى ما وصلت، إلا بالعلم والعمل.. فتندفع وراء الجد، في حكم الاضطرار حتى تصل إلى ما وصلت الأخرى إليه، أو تكاد... إذ أن التسابق طبيعة في الإنسان، فلا تراهم يقفون عند نقطة».
وميّز عبده، في جدل المدنيات، بين التقليد الآلي لمظاهر التمدن الأوروبي، وبين الأخذ بأسباب الرقي. فلم يتعامل مع النهضة وكأنها مجرد تحصيل شتات العلوم الأوروبية، أو محاكاة الأوروبيين في مظاهر مبانيهم وأزيائهم، على حساب البحث عن أسباب الرقي، فانتقد بعض المفكرين الذين أرادوا أن تكون بلادنا كبلاد أوروبا، من طريق نقل عادات تلك الأمم المتمدنة، وأفكارها، وأحوالها، إلى هذه البلاد... والتشبه بها في الأطوار.. ولم ينظروا إلى الأسباب والوسائل التي أوصلت تلك الأمم إلى هذه الحال. «بينما التمدن الحقيقي، أعني الإحساس بوجود اللذائذ، والتنشيط في طلب وجوه الكسب المتنوعة.. ومراعاة الحقوق والواجبات الطبيعية والشرعية». فيتمنى لو أننا قبل تقليدنا الأوروبيين «شيدنا في عقولنا الهمم، والحمية التي لا تمتد اليها الأيدي، وأحكمنا طرق سيرنا في حفظ حقوقنا، ورتبنا في مداركنا كل الوسائل والمعدات التي تحفظ علينا ما وجدنا، وتجذب إلينا ما فقدنا، وزينا نفوسنا بالفضائل الإنسانية والشرعية».
واعتبر، أيضاً، أن اقتباس شتى العلوم لا يكفي إذا لم يترافق مع تجديد روح الجماعة وعقلها، بطريقة تحفزها على المعرفة، والإنجاز، والفضيلة، التي لا بد منها لتقدم العلم والعمران. فهو يقول: «أما العلم الذي نحس بحاجتنا إليه، فيظن قوم أنه علم الصناعات، وما به إصلاح مادة العمل في الزراعة والتجارة. وهذا ظن باطل... فمطلوبنا علم وراء هذه العلوم، ألا وهو العلم الذي يمسُّ النفس البشرية... والعلم المحيي للنفوس هو علم أدب النفس، وكل أدب لها فهو في الدين... فمتى استكملت النفس بآدابها عرفت مقامها من الوجود، وأدركت منزلة الحق في إصلاح العالم، فانتصبت لنصرته، فمتى تحلَّت النفس بهذه الفضيلة، أبصرت مواقع حاجاتها، فاندفعت في طلبها، وطرقت كل باب، ولا ترجع حتى تظفر به أو يدركها الأجل».
وهكذا، يحيلنا عبده على الإصلاح الديني، كإطار ثقافي، يتم على أساسه الاقتباس من ثقافة الغرب، فالإسلام في الجوهر، بحسب تفسيره، يدعو إلى العلم، ويقود أفراده إلى الاحتكام الى العقل، وتسخير العالم تبعاً لمصالحهم، ويمكِّن فيهم حب الإنجاز، وتنظيم الشورى، وهي مبادئ تتوافق برأيه مع المدنية الحديثة.
شمس الدين الكيلاني
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد