دمٌ لا يُـكـفـكـف يــا دمشــق!
بأي ذنب يحرقون دمشق؟ يضجّ السؤال عالياً في رأس السوريين منذ الأمس الدموي، الغارق في الدموية. أنباء الموت تكاد تصبح عادية للناس، لكنها تزداد لوعة حين تقترن بدمشق، حيث آخر مساحات الحياة في بلاد لا يتوقف فيها أزيز الرصاص إلا ليفسح المجال أمام القذائف والصواريخ... والحصيلة دوماً: مدنيون وأبرياء.
هكذا ببساطة، عاشت الشام بالأمس سلسلة تفجيرات، تتراجع فيها أولوية معرفة القاتل، أمام حقيقة واضحة لا مفرّ منها: لا مكان آمنا في الوطن ولا في قلب عاصمته. هكذا يتحول البــيت الشعري لأحمد شــوقي إلى : «سلام من صبا بردى أرق ودم لا يكفكـف يا دمشق».
وبين التفجيرات الخمسة أمس، كان الأضخم هو ذاك الذي استهدف مقرّ فرع دمشق لحزب «البعث العربي الاشتراكي»، في منطقة المزرعة وسط العاصمة. والمقرّ، يقع ضمن مربع، يضم إلى جانبه مبنى السفارة الروسية، ومدرستين يعيش في إحداهما نازحون وفي الأخرى تلاميذ في يوم دراسي عادي، ومستشفى صغيرا مخصصا لبعض الحالات الخاصة. وتزداد الحساسية بوجود مقر أمني قريب من السفارة الروسية ومقار لوزارات المالية والأوقاف والتربية والمصرف المركزي قرب ساحة الشهبندر غير البعيدة عن موقع التفجير، الذي يشهد عادة ازدحام سير خانقا وهو ما ضاعف حجم الضحايا. وقد وصلت الحصيلة غير النهائيــة إلى قرابة الأربعة وستين قتيلاً.
اتفقت روايات الشهود العيان على هول ما حصل. علي (26 عاماً) كان يمرّ قرب ساحة السبع بحرات، القريبة من الموقع، حين سُمِعَ صوتُ الانفجارِ الضخم. يقول: «الصوت العالي جعلني أتأكد انه انفجار وليس قصفاً مدفعياً، فيما سمعنا خلال دقائق أصوات سيارات الإسعاف وجنون السيارات المتخبطة في طرقها. سارعت إلى موقع التفجير، رأيت الأهالي يهرعون هلعين لاصطحاب أولادهم من المدارس بينما سيارات الإطفاء كانت قد نجحت بإخماد الدخان الصادر عن الانفجار». وكان لافتاً ما قاله علي عن طلب قوى الأمن من جميع المدنيين التراجع إثر اكتشاف سيارة مفخخة أخرى قيد التفجير في موقع الحادث ذاته.
أما سناء (39 سنة)، وهي موظفة، تشير إلى اهتزاز الجدران والنوافذ في مختلف مناطق حي المزرعة وما يحيطه بفعل ضغط الانفجار الذي وصل أثره حتى ساحة الأمويين، بل إن عدداً من البيوت القديمة في الحي انهارت بفعل الضغط الشديد.
وتشير السيدة الثلاثينية إلى أنه، وفي الوقت الذي كان الناس فيه مشغولين بتفجيرات ساحة المزرعة، كان هناك انفجار آخر في حي برزة وهو ما غاب عن بال الكثيرين.
أما في موقع الحادث، فكان هناك مشهد آخر. دقائق قليلة من دفع رجال الأمن للمارة كانت كفيلة برصد عشرات المشاهد القاسية التي تضاف لمشاهد الموت اليومي، فيما الفرق انها هذه المرة بأم العين. ثمة رجل يجلس على الرصيف وقد غطت الدماء وجهه وثيابه غير آبه بالمارة يندب زوجته التي فارقته قبل دقائق، بعد أن حاول إسعافها حتى لحظات لفظ أنفاسها الأخيرة. لا ينفك يردد «لم يساعدوني، كانوا يصورون أو يصرخون لكنهم تركوها تموت».
أما منظر الأطفال فكان مروعاً. منهم من قتل، ومنهم من أصيب بوجهه أو أطرافه، بينما كان آخرون في حالة صدمة وهم يشاهدون رفاقهم ينقلون عبر سيارات الإسعاف. الكثيرون منهم رفضوا الحديث أو منعهم أهاليهم من ذلك، لكن أحدهم يقول بمرارة: «فقدت رفاقي في حمص وجئت إلى دمشق، فعرفت رفاقاً جدد، ها هم يرحلــون»، فيما يتحــدث شــاب آخر بحرقة عن منظر الأشلاء التي مــلأت الشارع قائلاً: «لا مكان آمناً فــي الشام». ويضيف: «منذ فترة أعتبر نفــسي مصاباً برعــب الــشوارع في دمشــق، أصبحت أتفادى أي ازدحام قد تنفــجر فيه سيــارات مفخخة قبل أن اقتنع أن الأوضــاع أصبحت أكثر استقراراً، لكن الموت عاد يلاحقنا من جديد».
أما ابن حي المزرعة محمد فيشير إلى حشد بشري هائل في الحي قوامه النازحون، فـ«كثيرون يفضلون الإقامة في هذه المنطقة التي تقع وسط العاصمة وقريبة من العديد من الدوائر الحكومية والعديد من المرافق الحيوية».
وفي المحصلة، تفجــير في ساحة المزرعــة وآخــر في برزة ومعارك لا تتوقف في طريق المتحلق الجــنوبي وحي القابــون، بالإضــافة إلى معارك داريا، ويســتمر الدم بالتــدفق. لم يكن التفجــير الدمشــقي الأول، أمس، ولكنه يضاف إلى يوميــات الحصرم الشامي حيث يلاحق المــوت الســوريين أينما ذهــبوا، وكأن القــدر قد كتــب عليــهم أن تتــلون جميــعُ أيامِهــم بالسواد.
طارق العبد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد