دستويفسكي: هل الذنب مسؤولية جماعية؟
“… دخل لصٌ على أرملةٍ عجوز وكان قد سمع أنها تحمل في عنقها كيسًا من الفلوس، فأرداها بطعنة وانتشل الكيس من عنقها مغموسًا بدمها، وراح ليلته فقامر بالمال وخسره، والذي ربحه منه ابتاع به ثوبًا من عند تاجر والتاجر دفعه ضريبةً للخزينة، والخزينة دفعته راتبًا للقاضي، والقاضي حكم على اللص بالشنق، أوتحسبون القاضي أكثر براءةً من اللص؟ الحقَّ أقولُ لكم أنه لصٌ مثله، اللص أراق دمًا بريئًا أما القاضي فشربه.”(ميخائيل نعيمة)
حتى وإن بدا ظاهر القصة أن فيها مبالغة على نحوٍ ما إلا أنها قد تثير تساؤلًا في الذهن، إلى أي مدى يتشارك الناس مسؤولية الذنب الذي يرتكبه الفرد؟ هل الأخطاء عبءٌ يتحمله الفرد وحده؟ التساؤل ذاته تسلل إلى ذهني منذ سنواتٍ خلت عند قراءتي لرواية دستويفسكي الأخوة كارمازوف، من هو المسؤول فعلًا عن مقتل فيودور كارمازوف؟ وهو التساؤل الذي دار في ذهني أيضًا عند قراءة روايته ذكريات من منزل الأموات فيما هو يتحدث عما يدور في نفوس السجناء وما تفعله بهم حياة السجن، وهو ما جعلني لوهلة أنسى أن كثيرين ممن وصفهم مجرمون وقتلة ومفسدون، بل وأنسى أن المتحدث في الرواية سجين هو الآخر! هل يحمل هؤلاء عبء ذنوبهم لوحدهم؟ وكيف يدفعنا دستويفسكي إلى فهم موقفهم ومن ثم التعاطف معهم؟
وفي الجريمة والعقاب لا نقف أمام مجرم قاتل ارتكب جريمة مروعة وحسب بل وقد وضعها في إطار نظرية تبررها، وعلى الرغم من إقرارنا ببشاعة ما فعله إلا أننا لا نكرهه بقدر ما ننظر إلى فعلته في سياق أكبر وأشمل، يضع المجتمع برمته تحت المساءلة فما هي الجرائم التي يستنكرها المجتمع وما هي الجرائم التي يغض الطرف عنها؟ أو كيف يقرر المجتمع على من تقع مسؤولية الفعل والذنب؟ لابد أن قارئي دستويفسكي يعرفون هذا الإحساس عند قراءة إحدى رواياته عندما يجدون أنفسهم غير قادرين على إصدار تلك الأحكام الجاهزة التي تدين الأفعال المستهجنة ببساطة، فهنا لا بد أن نقف قليلًا قبل أن نطلق الحكم الجازم، وينبغي ألّا نعتقد أن دستويفسكي يريد منا أن نتعاطف بقدر ما يسعى إلى جعلنا نفهم على الأقل ماهية الدوافع التي تؤدي إلى السلوك بهذه الطريقة أو تلك.
كي نستطيع النفاد إلى عمق الحالة التي يخلقها دستويفسكي حول الشخصيات المثيرة للجدل حول خيرها أو شرها لابد أولًا أن نحاول معرفة الكيفية التي يفعل بها ذلك.
يرى ميخائيل باختين أن دستويفسكي خلق ما يُدعى بتعدد الأصوات داخل الرواية الواحدة، وهو ما جعل النقاد لأعماله يجدون صعوبة في فهم الكاتب الفنان، فالقارئ المتفحص يرى نفسه أمام “سلسلة من البنى الفلسفية المستقلة عن بعضها والمتعارضة مع بعضها والتي يستميت أبطالها في الدفاع عنها”، فالمشكلة في نظرهم أننا نقف أمام فلاسفة ومفكرين: راسكولنيكوف، إيفان كارمازوف، ستافروجين وغيرهم، وليس أمام شخصيات نستطيع معرفة دوافعها الحياتية اليومية، وإن مستوى الحوار فيما بينها يكسر الأطر المعروفة في الروايات التقليدية، ويجعلها لا أداة بيد الكاتب يعبر من خلالها عن كلمته بقدر ما هي كيانات قائمة لوحدها تقف إلى جانبه وتعبر باستقلالية عن فكرها، أي أنها ليست موضوعًا يخضع لإرادة الكاتب.
إن موقف شخصية من الشخصيات يعبر عن فكرة وربما أيديولوجيا بحالها، كما لو أنه صوت متجسد لهذه الفكرة، وبهذه الطريقة استطاع دستويفسكي أن يبني ما أسماه باختين “عالمًا متعدد الأصوات”، فقط داخل عالم كهذا يمكن أن يضع المؤلف أكثر من وعيٍ واحد بصورة منفصلة، ليجعلنا نقف أمام وعي الآخرين (ونحن نراه متجسدًا في هيئة إنسان) وألّا نستسلم لأنانية ما يقدمه لنا وعينا الخاص.
يستطيع دستويفسكي أن يجعلنا لا أن ندخل في وعي الآخرين وحسب بل وندرك وجود هذا الوعي ونقف أمامه متفكرين ومحللين، وهو ما يجعلنا لا نبني موقفًا واضحًا عند اصطدامنا بالشخصيات، فنحن نبقى نعايش تخبطات الشخصية كلما عدنا إليها أو تذكرناها، “المؤلف لا يحتفظ لنفسه، أي لا يُبقي ضمن منظوره الخاص بأي حكم جوهري، ولا بأي سمة، ولا بأي لمحة مهما كانت صغيرة من لمحات البطل: إنه يُدخل كل ذلك ضمن المنظور الخاص بالبطل نفسه، ويرميه في بوتقة وعيه الذاتي”.
وعلى هذه الشاكلة لا يتيح لنا دستويفسكي إصدار أحكام قاطعة بسهولة، فنحن نظل نفكر كما تفكر الشخصيات المثقلة بالأفكار الكبيرة، ونتساءل معها على مَن يقع اللوم في الحقيقة عندما نحاول أن نفهم دوافع الناس وأسباب سلوكهم، يقول السجين صاحب المذكرات في رواية “ذكريات من منزل الأموات” واصفًا ما كان يدور في عقله في اليوم الأول له داخل السجن: كانت فكرة تهزني في ذلك المساء هزًا قويًا، هي سؤال لم أجد له جوابًا حينذاك، ولا وجدت له جوابًا إلى الآن، هل يمكن أن تقارن جريمة بأخرى ولو مقارنة تقريبية؟” ويتحدث بعد ذلك عن جرائم قتل اقترفت في ظروف مختلفة: “إن أحد الرجلين قد قتل في سبيل شيءٍ تافه لا قيمة له، قتل في سبيل بصلة، قتل في الطريق فلاحًا كان مارًا هنالك ولم يجد معه إلا بصلة، أما الرجل الثاني فقد قتل طاغيةً حقيرًا لطّخ شرف امرأته أو أخته أو بنته، وهذا رجلٌ ثالث متشرد يكاد يموت جوعًا، تحاصره فصيلة كاملة من الجند فيدافع عن حريته وحياته، فهل هو مساوٍ لذلك الوغد الذي يقتل الأطفال تلذذًا! إن هؤلاء القتلة جميعًا يُرسلون إلى سجن الأشغال الشاقة”.
وإن كان عسيرًا التخلص من هذه الأحكام التي تصدر على القتلة جميعًا بصورة واحدة، فإن المتحدث لا يترك الفكرة عند هذا الحد، بل يغوص إلى عمقٍ آخر: ماذا عن الظلم المرتبط بنتائج العقوبة؟ هنالك من هؤلاء المسجونين من تطيب له حياة السجن ويستمتع بصحبة مَن يشاركونه السجن، ولكن هنالك أيضًا “إنسان رقيق القلب مثقف الفكر ومرهف الضمير، إن الحكم الذي أصدره هو نفسه على جريمته أقسى من حكم يصدره القضاء، إنه يعيش جنبًا إلى جنب مع سجين آخر لم يفكر مرة واحدة في الجريمة التي ارتكبها والتي عُوقب عليها”، وفي موضعٍ آخر يدعو دستويفسكي إلى النظر إلى الشعب نظرة أعمق: “انزعوا عنه قشرة الفظاظة الظاهرة وادرسوه بلا أحكام سابقة وانظروا إليه من قرب تروا فيه مزايا لم تخطر لكم يومًا على بال”.
وهنا نرى أن مسألة السجن والعقاب ليست بالبساطة الظاهرية التي تبدو عليها، بل إن فيها تعقيدًا يخص المجتمع ونظرته للجريمة وتقييمه لها، ما الذي يجعل جرمًا ما مسوغًا في نظر مرتكِبِه؟ إن أحد الأسباب كما يورد دستويفسكي على لسان شخصيته هو اعتقاد السجين الذي ارتكب جريمةً بحق رؤسائه أو من هم من طبقة أخرى أن بيئته تمنحه المبرر لاعتقاده، “فهو واثقٌ من أن الطبقة الدنيا من الشعب لن تحكم عليه بأنه ضاع ضياعًا نهائيًا، اللهم إلا أن تكون جريمته التي ارتكبها جريمة في حق أناس من هذه البيئة نفسها، في حق أناس هم أخوته”، هذا السجين لا يتهاوى أمام التعذيب ولا يشعر بوخز الضمير.
ولا يمكننا الحديث عن الجريمة ودوافعها وعواقبها دون أن نتذكر كلمات راسكولنيكوف عندما هتف قائلًا: “جريمة؟ أية جريمة؟ أيكون جريمةً قتلُ قملة قذرة ضارة، قتلُ مرابية عجوز لا يحتاج إليها أحد، مرابية تمتص دماء الفقراء؟ ألا إن قتلها ليمحو أربعين خطيئة!” ثم يعلن أنه لا يريد التكفير عن هذه الجريمة، وهنا لا يمكن أن نغفل أن دستويفسكي يضعنا داخل محنة شخصٍ يعيش داخل فكرة تسيّره وهو في سبيل تطبيقها يقتل بلا هوادة، لأنه مؤمن يقينًا أن كل شيء بعد ذلك سائرٌ في اتجاهٍ صحيح وعادل، يضع راسكولينكوف “جريمته” في مصاف الجرائم التي سُفكت فيها دماء لبلوغ خير عظيم، جرائم وضعت مرتكبيها موضع الأبطال لأنهم أحسنو للإنسانية، إلا أن فشله هو السبب في أنها لم تكتمل كما ينبغي، فالمجتمع إذن يسبغ على بعض القتلة صفة الأبطال ولكنه يجرّم ضعفاءهم والجبناء منهم، ألا يكون المجتمع مسؤولًا عن ذنب الدماء التي تُسفك؟
وفي الأخوة كارمازوف تبدو الفكرة أكثر تعقيدًا، نجد أنفسنا أمام وجهات نظر مختلفة فيما يخص الإحساس بالذنب، تصيح جروشينكا في أحد مشاهد المحاكمة: “أنا المذنبة، أنا الشقية المذنبة بسببي إنما قُتل! أنا الذي قدته إلى ذلك من كثرة ما عذبته… أنا سبب كل شيء، أنا.. أنا وحدي، أنا القاتلة في حقيقة الأمر”، ومَن قرأ الرواية يعلم كيف أن جروشينكا سببٌ من أسباب حنق ديمتري على والده فيودور كارمازوف لأنهما تنازعا عليها، إلى جانب قصة ميراث والدته الذي استولى عليه والده.
يجعلنا دستويفسكي أمام صورة الإنسان الذي اجتمعت كل الأسباب لإدانته، فهو متهور وطائش، منقادٌ بلا تفكير إلى ما تمليه عليه مشاعره، وتكون ردود أفعاله عنيفة أحيانًا، وقد اتفق الكثيرون أن أصابع الاتهام تتوجه إليه خاصةً بعد أن صرّح بكرهه لأبيه ورغبته في قتله، وعلى الجانب الآخر يظهر إيفان الذي يكتشف أن ما قاله لسمردياكوف من أن “كل شيء مباح” كان سببًا في جعل الأخير يقدم على قتل فيودور كارمازوف دون تفكير بأي عواقب أخلاقية، فمَن يتحمل إذن ذنب مقتله حقًا، هل هو سمردياكوف وحده لأنه قام بالفعل نفسه؟ ماذا عن ظروف نشأته وعلاقته بفيودور كارمازوف؟ أم أن الأخوة الثلاثة يتشاركون في الذنب، ديمتري بطيشه وانفعالاته، أم إيفان بفلسفته التي سممت عقل سمردياكوف، أم أليوشا بصمته؟
يظهر لنا في النهاية أن ديمتري، وعلى الرغم من محنته في اتهامه بقتل والده ودخوله السجن، قد توصل إلى إدراك واستبصار مهم، وفي فصل “النشيد والسر” يُحدّث أليوشا عمّا أدركه: “إن في وسعنا أن نُحيي الملاك في الشيطان، وأن نبعث البطل في الجبان. إنهم كُثُرٌ هنالك، أولئك الذين سقطوا؛ إنهم مئات ومئات، ونحن جميعًا مسؤولون عن مصيرهم… إن جميع البشر متضامنون في أخطائهم، وكل إنسان مسؤول عن آثام سائر الناس”، يهتدي ديمتري في النهاية إلى فكرة الله، ويرى أن الإنسان بحاجة إلى هذه الفكرة حتى لا يندفع إلى ظلم الناس وأذيتهم دون رادع، في حين بقي إيفان يترنح تحت وطأة فلسفته التي يخبره سمردياكوف أنها السبب في ارتكابه للقتل، يخبرنا دستويفسكي على لسان الأب زوسيما: “تذكر خاصةً أن ليس من حقك أن تحكم على قرينك كائنًا من كان، ما من أحدٍ يستطيع أن يجعل نفسه قاضيًا على مجرمٍ قبل أن يدرك أنه، وهو القاضي، لا يقل إجرامًا عن الجاني الماثل أمامه”.
ولعلنا نسرف في التأويل، ولكن لا ريب أن دستويفسكي بعالمه متعدد الأصوات ينفض غبار الأفكار فينا بصورةٍ تجعلنا جزءًا من هذا الصراع المستمر، فنحن لسنا مجرد قرّاء نمرُّ على الشخصيات وحوادث حياتها وتجليات فكرها بل نحن شركاء، وبتعبير دستويفسكي نفسه تسقط “الفكرة فجأة” على رأس الواحد منّا “كصخرة ضخمة، وتضغط عليه فتثنيه إلى النصف، ويروح يتلوّى تحتها، ولكنه لا يستطيع الخلاص”.
المحطة - زهراء طاهر
إضافة تعليق جديد