حوار جريدة الأيام مع نبيل صالح
حاوره: ملهم الصالح
علامة فارقة أينما حلّ، متعته الرقص على حافة الهاوية، يتمتع بشعبية كبيرة وتقدير برغم مشاكسته وانتقاداته، التهكم والسخرية سلاحان يبرع في توظيفهما، همّه مكافحة الفساد والجهل، بدأ مشروعه التنويري قبل ثلاثين عاماً مع نخبة من كتاب الحداثة، يؤمن بدور المعرفة في حماية وتحصين حامليها، يوثّق لمجتمعه السوري وحياته (السياسية، الأدبية، الفنية، الاجتماعية، العسكرية، والدينية)، يتفرد باختلاف خطابه عن توجهات السلطة والمعارضة معلناً أنّه ضد الجميع بالتساوي ومن دون تفريق.
ولندرة إطلالاته الإعلامية، زارته «الأيام»، حاورته في تجربته البرلمانية، تحدياتها، صعابها الخفية، واستفسرت عن جديده وتطلعاته، ونظراً لمحدودية المساحة المخصصة، ننشر من اللقاء الأبرز:
ـ ينتمي والداي (جميل وصديقة) إلى ريف الساحل السوري وتحديدا من ضيعة تقع على تخوم العالم القديم اسمها قلعة بني قحطان، وهي منطقة جبلية ساحرة فيها بقايا القلعة العجوز ونهر وينابيع وغابات وحكايات أبو محمود الذي كان تلفزيون الضيعة إلى أن دخلت الكهرباء إليها.
تربّيت في مزرعة نائية عن البشر كما لو أنّها جزيرة، ويمكن القول إنني تعلمت من كائنات الطبيعة أكثر مما تعلمت من الكتب المدرسية.
فيما بعد، تلقيت تعليمي الأساسي في مدينة جبلة، ثم انتقلت إلى دمشق 1978 لأكمل تعليمي الجامعي، وما زلت مقيماً فيها منذ أربعين عاماً.
أدين لأهل قريتي بأسلوب السخرية الذي تشربته من أحاديثهم وأنا طفل صغير، إذ كانت السخرية المرة عاملاً مساعداً لهم في مواجهة شظف الحياة، في قرية لم يزرها أي مسؤولٍ حكومي منذ أيام الفينيقيين.
ـ الجامعة خيّبت أملي، فقد ظننتها موئلاً للمفكرين والمثقفين، فإذا بها مدرسة أخرى تشبه المداجن، وبدلاً من حضور دروس حفظية لا يعرف فيها الأستاذ أغلب طلابه، كنت أقضي وقتي بين مكتبة الجامعة والمكتبة الظاهرية، ووحدات البنات في المدينة الجامعية، الطالبات شكّلن القسم الغالب على صداقاتي، لهوسي بمعرفة سيكولوجيا المرأة، واكتشاف أسرارها، في الكتب والواقع، وأعترف بأنّ المرأة جعلتني أمسك القلم لأتعرّف على العالم من حولي وأصقل شخصيتي.. للنساء الدور الأكبر في حياتي، ساعدتني رفقتهن على تجاوز المراهقة السياسية التي تورّط بها أبناء جيلي فانتهوا للانضواء بمؤسسة (البعث) طمعاً في مكاسبها، أو (الشيوعي) لينتهوا في السجون السياسية ويتخرجوا منها أبطالاً من ورق.
ـ تنقلت بين مهن عديدة أثناء دراستي الجامعية: حارس ليلي، عامل في ورشة لخراطة المعادن، مدقق لغوي، حتى وصلت للصحافة.. استخدمت مهارتي القصصية وأسلوبي الساخر فيما كنت أنشره فأحبّه الناس، وما زلت أكبر بمحبتهم حتى صرت ما أنا عليه. سفحت من عمري ربع قرن في صحافة بلدٍ ليس فيه صحافة بالمعنى الحقيقي، وإنّما كتّاب تنويريون ينشرون مقالاتهم في صحف رسمية ثلاث.
الصحافة خلّصتني من لغة الأدب المتعالية على الجمهور لأستخدم لغة تناسب مجتمعي، إذ لا تحقق الكلمة وجودها إذا لم تدخل في وعي الناس، وبما أنّ الحكايات هي ما يشكّل ثقافة المشرقيين فقد استخدمتُ أسلوب السرد القصصي في تحقيقاتي الصحفية مع ميل للسخرية، لاعتقادي أنّ أفضل طريقة لإصلاح العالم هي السخرية من أخطائه.
إضافة لمقالات النقد الأدبي والفني كنت أكتب ثلاث زوايا يومية، اشتهرت من بينها زاويتي «وخزات» التي لا تتجاوز ثلاثة أسطر ساخرة، كان يتابعها الرئيس الراحل (حافظ الأسد) كما قال لي بعض المقربين، الأمر الذي جعل مسؤولي الدولة يهابون قلمي عندما أتناول أخطاءهم. وبعد وفاته لم ينسوني فعملوا على منعي من النشر لفترات متعددة منذ عام ٢٠٠٢، في النهاية قالوا اجلس في بيتك، فتوجّهت للعمل الخاص، قدّمت أولاً طلب ترخيص مجلة نسوية فرفض رئيس الوزارة (العطري) منحي الترخيص، لهذا أطلقت موقعي الإلكتروني «الجمل» 2006، واشتهر بدراساته السياسية وزاويتي الساخرة «شغب»، التي تجاوزت فيها حدود الرقباء، فلم يكن يمضي أسبوع من دون اتصال فرع الأمن الإلكتروني، وأحياناً استدعائي لمضافتهم من دون الإقدام على اعتقالي. بعد الحرب توقفوا عن إزعاجي وأصبحت بطلاً وطنياً بعدما كنت متهماً بمعاداة الدولة!!
ـ تجربتي البرلمانية مازالت في منتصفها، وقد لقيت في البداية رفضاً لأفكاري حول تفعيل عمل المجلس الذي انتقدت آلية عمله، وما زلت غير راضٍ عن ضعف حضور المجلس في حياة الناس، وفي مراقبته للسلطة التنفيذية. فالبرلمان مثل كل مؤسسات القطاع العام، أصابه ما أصابها، ويحتاج إلى إعادة هيكلة.
لامني الكثيرون على دخولي المجلس، لكن إذا عزف الجيدون عن دخوله فمن إذاً سيعمل على إصلاحه؟ أرغب أن أحدث فرقاً مهما كان ضعيفاً.. إصلاح المجلس يحتاج لإرادة سياسية وحزبية، وعلى الرغم من أنني نائب مستقل، فإنني لا أوفر جهداً في الحوار مع قيادات الحزب وأعضاء الحكومة لإقناعهم بضرر إعادة إنتاج السلطة لنفسها، وأنّ ذلك يفرض إعادة إنتاج أخطائها وأعدائها، وفترة ثمانينات القرن الماضي دليل على ذلك. هل تريدون حرباً داخلية ثالثة أيها السادة؟!
تغيير وتطوير المجتمع والمؤسسات يحتاج لوقت، وما نفعله اليوم نقطف ثماره الحلوة والمرة غداً. وأرى العديد من النواب بات يستحسن ما أطرحه في المجلس، وبعضهم يستشيرني فيما يطرحه، كما بتّ ألمس استجابة مدراء مؤسسات المحافظة، وأعضاء الحكومة للقضايا التي أطرحها عليهم.
تشرفت بصداقة بعض النواب الجيدين غير أنني لم ألتقِ صاحب مشروع إصلاحي بعد، وأظن أنّ كل النواب الجيدين يرغبون في أن يكونوا فاعلين ومؤثرين كي يكسبوا احترام ناخبيهم، بينما الذين دخلوا بمالهم -على قلّتهم- يجهدون لاستثمار ما دفعوه. المجلس مثل المجتمع يحمل أمراضه وحسناته، وعندما يكون المجتمع قوياً وصحّياً فإن مؤسساته تغدو ناجحة.
يغلب الطابع الفردي على عمل النواب، وفيما يخصني حاولت من دون جدوى أن أنسّق مع نواب محافظة اللاذقية بأن نضع خارطة عمل للمحافظة بحسب الأولويات، ونتحرك سويةً لدى موظفي الحكومة للضغط عليهم بغية تنفيذها، وما زلت أنتظر توحّدنا لأجل خدمة ناخبينا. شخصياً أتعاون مع مراكز أبحاث ومجموعة من المختصين من باب الاستشارة. وللعلم، النظام الداخلي للمجلس لا يسمح بكتل نيابية مع أننا اقترحناه كمادة في فصول النظام الجديد، الذي أقريناه الشتاء الماضي، ولكن تم شطبه قبل عرضه على المجلس!
ـ تأتيني دعوات يومية للظهور الإعلامي حتى بت فناناً بالاعتذار. إذ من السيء أن تغدو شهرة المرء أكبر منه، لا أرغب بالشهرة حتى لا تأكل روحي، إضافة لتفصيل يتعلق بالرقابة: إذ لم أجد وسيلة إعلامية سورية يمكنها نشر كل ما أرغب بقوله، كذلك صحافة المعارضة في الخارج تستغل كلامي «بتصرف» يصل إلى حد الدعارة.
الأمر الآخر الذي يثير استهجاني أن البرامج الإعلامية باتت مكاناً لإنتاج الثرثرة والكلام الذي لا يقول شيئاً للمتلقي، ومن المعيب أن نقدّم ضيفاً أقل ذكاءً وثقافةً من جمهور المشاهدين، وتبعاً لذلك فإنّ أكثر هذه البرامج محروقة ويشاهدها أو يسمعها الناس بالصدفة. أستغرب من بعض زملائي في المجلس الذين أراهم يومياً على كل القنوات، يتحدثون في غير اختصاصهم، معتقدين أنّ القيادة تختار الوزراء من التلفزيون.
ـ أستمتع بالرقص على حافة الهاوية، وبسبب ذلك زرت الكثير من المحاكم وفروع الأمن، وصدرت مذكرات توقيف بحقي من الذين كنت أهدد مصالحهم، ألغى بعضها الرئيس حافظ الأسد ثم الرئيس بشار. الحق نَصيري، فلم أضعف يوماً أمام ثالوث «السلطة والمال والنساء»، متعظاً بمن تساقطوا فيها من قبلي، وطواهم الموت والنسيان، إنّ بناء الثقة كبناء القلاع: عمل مضنٍ وطويل يحتاج إلى القوة والإيمان والصبر، وهذا الشعب ما زال يحتاج إلى الكثير من القلاع لتأمين سلامه المفقود، لذا أبحث دائماً عن سوريين متنورين يعملون على بناء قلاع الثقة مع مواطنيهم لأضع يدي بأيديهم، حظيت بالبعض منهم، وخذلني آخرون كما خذلوا مواطنيهم في هذه الحرب، فخسروا أنفسهم قبلما نخسرهم، غير أنّ سورية ولّادة وأنا متفائل بالقادمين من نسلنا أكثر من الذاهبين
ـ «السوريون يموتون من قلة المعرفة»: بهذه الجملة صدّرت كتابي الثاني عن الحرب، فالمعرفة قوة، ولو أنّ لمواطنيّ ـ الذين يصالحون الدولة الآن ـ معرفة اليوم عندما كانوا بالأمس لما تورطوا بالحرب. كتبت عن الحرب قبل وقوعها وحذرت السلطات لإزالة ذرائع الحرب من نفوس الناس، ولم يستمعوا إلي إذ كانوا يعتبرونني عدواً. كذلك اعترف لي الرئيس (العطري) في سهرة ضمّت نخبة من المسؤولين السابقين العام الماضي حيث قال: «كنت تكتب محذراً من الحريق القادم لكننا اعتبرناك عدواً وقتذاك».
ـ على الكاتب أن يرى المستقبل قبل غيره باستقراء المقدمات، وعلى مسؤولي الدولة أن يستمعوا للنخبة لا أن يعادوهم. إذا عدت لتصريحي التلفزيوني في (مؤتمر سميراميس) للمعارضة السورية (الذي افتتح القطيعة بيننا)، ستلاحظ أنّهم اليوم يطالبون بما عارضوني عليه بالأمس، لم يكونوا أبداً سياسيين وإنما مجموعة مثقفين حاقدين، يريدون تدمير النظام بالفوضى. وقد أثبتت السنوات السبع كذبة الثورة (كلمة حق يراد بها باطل)، ما دفعني لتأريخ هذه الحرب كعظة للأجيال اللاحقة كيلا يتلاعب بعقلها أحد، فأنجزت ثلاثة كتب.
ـ لجنة الأمن الوطني في مجلس الشعب شكلية مهمتها الموافقة على مشاريع قوانين وزارتي الدفاع والداخلية، وعندما لا تكون هناك مشاريع قرارات فإنها لا تجتمع، وهي لم تجتمع منذ بداية العام مع أننا في حالة حرب، كما لم يستقبلنا أي وزير دفاع لعرض القضايا التي تصلنا من الجنود وأسرهم، فاقترحت إلغاءها. وما زلت أضحك من نفسي في أول اجتماع لي فيها عندما رشّحت نفسي لرئاستها لأطرح مشاريعي عن الأمن الثقافي والديني، بالطبع لم يختارني أحد في مقابل سيادة اللواء الرئيس الدائم للجنة الأمنية، وفيما بعد تبيّن لي أن غالبية أعضاءها هم ضباط أمن متقاعدون في المجلس، والباقي أسرار دولة نعتذر عن ذكرها.
ـ القرى الساحلية خزان المقاتلين الأساسي للدولة (برغم أنها خارج أجندة الحكومة)، كون غالبية سكانها مؤمنين علمانيين يتوافقون مع متنوري الطوائف السورية الأخرى ويتزاوجون معها من دون حرج، فتعاليمهم تقول «تحلّ روح المؤمن في كلّ الملل والنحل»، لهذا يدافع أبناؤه عن كل سورية وعلى كل الجبهات، بينما بعض المجتمعات السورية لم ترض مواجهة أعدائها إلا في مناطقها، وأرجع هذا لضعف في ثقافة المواطنة لديها.
أعطى الجبل لسورية خيرة أبنائه الذين ساهموا في إزالة «داعش»، ولابد من شكرهم بدلاً من التشكيك بدينهم وأخلاقهم. إنهم شعب يستحق الاحترام والاحتفاء به، لا السخرية منه كما وجدنا في بعض الأعمال الدرامية السورية.
ظننت أني أعرف الريف الذي غادرته منذ أربعين عاماً، غير أن جولاتي المستمرة على قراه بيّنت لي حجم الإهمال الحكومي، فقبل الحرب كانت محافظة اللاذقية صاحبة أعلى نسبة بطالة في سورية وبالطبع فإن العدد الأكبر من العاطلين عن العمل هم من سكان القرى الذين لا يتوفر لهم المال الكافي لتقديمه كرشاوى للحصول على وظائف باتت تسعيرة كل منها معروفة، وبتنا نتهيّب التوسط للفقراء خوفاً من الشبهة.
إنّها قرى فقيرة سوى من كبريائها، لم تعد تجد فيها سوى خيالات الشهداء وأسرهم التي تحلم بكرتونة المعونة، بينما سادة الكرتونة يبيعونها أو يفاوضون الأرامل على أجسادهن، في الوقت الذي لا نسمع فيه سوى خطابات التمجيد بالشهداء. موظفو المعونات هؤلاء يذكرونني «بنكتة الحطيئة» عندما سألوه وهو على فراش الموت: بما توصي لليتامى والمساكين يا أبا جرول، فقال: كلوا أموالهم وانكحوا أمهاتهم.
ـ النظام قطار يغير ركّابه عند كل محطة: (حجاب، مقدسي، طلاس …)، وأغلب قيادات المعارضة تربّوا في حضن مؤسسات السلطة، وكانوا قبل الحرب يستدعوننا بتهمة ضعفنا بالوطنية !؟ في مسرحية «ليل العبيد» للصديق الراحل (ممدوح عدوان) جملة أثيرة يقولها وحشي قاتل حمزة: «سادتنا في الجاهلية سادتنا في الإسلام». أخشى أن يحصل ذلك في انتخابات الإدارة المحلية، وأخشى عودة القتلة الذين صالحوا الدولة عن طريق أموالهم التي جنوها من دماء السوريين.
ـ الكراهية التي ولّدها موظفو الحكومة لدى فقراء سورية أدّت لنجاح إشعال التمرد بين الناس، وإذا عدنا إلى بدايات الثورة السلفية على الجمهوريات العربية، نجدها بدأت بالتظاهر ضد الشرطة، في تونس ومصر فسورية، لقد راكمت أقسام الشرطة ظلماً أكبر مما تستطيع قمعه، فاستغل «الإخونج» الأمر، وساعدتهم السلطات على نفسها من دون أن تدرك ذلك، ثم تقلص تغوّل رجال الشرطة على الناس في الأعوام الأولى للحرب، ليعودوا اليوم إلى سابق تسلطهم وفسادهم، ولتذهب دماء ألفي شرطي الذين قضوا في المظاهرات هدراً من دون فائدة. فمؤسسة الشرطة تعيد إنتاج نفسها، شرحت فكرتي للسيد وزير الداخلية الذي يحاول الترقيع من دون جدوى، بأنّ الأمر يحتاج لتصحيح في البنية وليس في الشكل. وهذا الخلل ينسحب على المحافظين الذين اختيروا من ضباط الشرطة، وهو نظام معمول به منذ أيام الاستعمار الفرنسي. قلت مرة للوزير (الشعار) أنني أقدّر شجاعته ولكني آمل أن تكون حكمته بحجم شجاعته لأن أمان أهلي ومواطني متعلق بها.. وبالعودة إلى الأمن الثقافي والديني لا أرى أن أحداً من مسؤولينا يدرك أهمية ذلك.
ـ ندعو للتغيير والعدالة عبر ثورة معرفية بلا عنف، وفي ذهننا الثورة الفرنسية وحقوق المواطنة، غير أن المجتمعات السلفية لا تنتج ثورات فرنسية.. «داعش» قامت من بيننا وهي بنت ثقافتنا الماضوية، كما أن أخلاق القلّة من اليساريين الذين وقفوا ضد السلطة كانت ضعيفة، ودكّة سراويلهم رخوة، فشلحوا ثيابهم وتخلّوا عن ماضيهم وعفّتهم من أجل حفنة دولارات، وبات اسمهم مرتبطاً بأسوأ دولة سلفية (معارضة الرياض)، أنا وقفت مع الدولة، وبقيت ضد سلوك الحكومة، وما زلت مؤثراً في مجتمعي، وأتابع ثورتي منفرداً بلا ضجيج.
ـ هناك ضرورة لوجود معارضة وطنية، فهي من يظهر للحكومات عيوبها، غير أن التنافس وتداول السلطة يجعلان من برامجهما إعلاناً لاصطياد الجمهور أكثر منه بناءً للدولة. كالراقصات يتنافسن على تصفيق الجمهور، ولهذا ابتعدت عن كليهما قدر استطاعتي، معتبراً نفسي صاحب مشروع تنويري إصلاحي، أتعاون عليه مع الناس الذين يشبهونني. لقد تم تجويف كل الشعارات على يد السلطة والمعارضة حتى باتت شعارات تقول الحق لتغطية الاستبداد والفساد. هناك أفراد جيدون وآخرون سيئون في المعارضة والسلطة ويمكنك أن تحدد مع من ستعمل.
ـ العلمانية غير الإلحاد، فهي تعطي مناخاً من الحرية لكل المعتقدات، على مبدأ (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، فربك هو الذي يحاسب الناس، وليس من العدل أن يأتيني أفراد أقل من مستواي فكراً وأخلاقاً ووطنية لكي يحكموني باسم إله لم يعطهم أي تفويض، هذا إذا لم يكونوا مطلوبين لديه. الإسلام نسخة ثالثة عن اليهودية بعد المسيحية، وما يميزه عما سبقه هو تقدمه الزمني عليهما، ونحن بالتالي نتقدم عليه زمنياً رغم أننا نبني عليه، وهذا يقودني إلى تاريخية النص وتفسيره بمفهوم الزمن الذي وجد فيه، فالنص جامد والعقل الذي خلقه الرب متدفق مع نهر الزمن فأيهما أختار كي أتناسب مع حياتي المعاصرة؟ العلمانية طوّرت المسيحية والمسيحيين في أوروبا، والنقل ساهم في تخلّف مسيحيي ويهود الشرق، انظروا واتعظوا بمن يمنّ عليكم بكل شيء وأنتم تكفّرونه وتسمّونه «الغرب الكافر»؟!
العلمانية لا ترفض الإيمان بالله بقدر ما ترفض العصبيات الدينية، وتبعا لذلك يمكن القول إن غالبية السوريين المؤمنين بالله ولا يذهبون إلى الجامع والكنيسة ولا يصفقون لاختراعات وزير الأوقاف هم علمانيون يؤمنون بالعقل لا النقل. فالإيمان يجمع، والتدين يفرق ويؤخر استحقاق المواطنة.
ــ «وبالناس المسرة» .. استمديت صوتي من الناس، وعندما أنظر خلفي أرى أن وزني الافتراضي يتضاعف مع كل مواطن أردفه فوق كتفي متبنياً مظلوميته، ويوماً بعد يوم وسنةً وربع قرن كبرت بالناس وبهم تقدمت وما زلت. الصحافة وسيلتي للتعرف على بلدي ومواطنيّ الذين ساعدتني معرفتهم في صنع أسلوب يناسب أسماعهم وأفئدتهم، فلم أشح بوجهي عن حق مظلوم، صراخ الشعب بوصلتي، ولن أضل طالما أنني أستمع لأنينه، وفي ظل ترهل المؤسسات التربوية والسياسية والاقتصادية، فأنا أعوّل على النجباء من السوريين، الذين يتحلّون بتاريخ تنويري وإصلاحي تقدمي، وعندما نورطهم بإيماننا بهم فإن أخلاقهم سوف تمنعهم من الهرب إلى البلدان التي تحترم خبراتهم وتأخذ خيرهم، الذي لم تعرف الحكومات قيمته. كلّ الذين غادروا الوطن يحنّون للرجوع إليه، والذين بقوا هم من الأتقياء والأنبياء الذين يساهمون بنصرنا، فالنصر لا يقتصر على حاملي السلاح وإنّما على الذين ساهموا في صمود المقاتلين أيضاً. هذا بلد الأبطال، وبعدما تضع الحرب أوزارها سيعرفون كيف يعيدون بناء وطنهم.
ـ أستغرب رغبة مكتب مجلس الشعب بالتطبيع مع الحكومة بعدما كنت آمل أن يكون رقيباً عليها، فرئيس المجلس يضطر دائماً للدفاع عن السلطة التنفيذية كلما وضعتها بالحفرة، وهذا ما أستغربه: أنا أعمل لمجد المجلس بينما رئاسته تخشى مني، وترى في طروحاتي خطراً على استقرارها، وهو الأمر ذاته الذي كانت تنظر إلي من خلاله رئيسة المجلس السابقة، يتغير الرؤساء وتبقى الآلية، لهذا لا أرى فيهم أعداءً ولا أصدقاء، إنهم موظفون مطيعون يتقنون دورهم، وهم يعلمون أنّ من أدخلهم إلى الضوء يمكنه أن يخرجهم إلى النسيان، أين هم الوزراء ورؤساء الوزارات والبرلمانات والفروع السابقين؟ ومن منكم يذكرهم؟ أنا باقٍ أكثر منهم لأنني لم أخرج من جلدي، لذلك يحترمونني وإن لم يحبوني، وهذا يكفيني.
ـ البعث ككل الأحزاب التاريخية، أصبح حزباً محافظاً يخاف من أفكاره التقدمية، استنقع لدرجة أن قياداته ـ دون قواعده ـ تحالفت مع المؤسسة الدينية السنية، مع أنه يطرح نفسه كحزب علماني يحترم الأديان، ولا يتفق مع طروحاتها السلفية، كما يصدر نظامه الداخلي بالقول إنه حزب انقلابي!!
لقد تربيت في بيت بعثي منذ ستينات القرن الماضي، وأعرف جيدا ما العروبة والوحدة والاشتراكية التي لم تعد سوى رسم في منطلقاته النظرية. أنا أريده حزباً تقدمياً وكذلك الحزب الشيوعي والقومي السوري، لأنهم سيكونون معي ضد الإخونجي والوهابي، ولن تنفعهم هذه البراغماتية المكشوفة التي يتذاكون بها علينا.
على الحزب أن يناقش لماذا انشق عنه الكثيرون لينضووا داخل قومياتهم وطوائفهم، ولماذا لم يتمكن الحزب من قلوبهم، ولماذا غالبية المسؤولين الذين يرشحهم الحزب ينتهون إلى حفرة الفساد والإفساد. عليهم أن يكونوا شجعاناً صادقين، وسأكون محارباً معهم كما الكثيرين غيري ممن وقفوا مع الدولة وخسروا كل شيء، ثم بدأت الدولة تدير لهم ظهرها بعدما تأكدت من انتصارها العسكري، ولم تتمكن مؤسساتها المدنية من مواكبة هذه الانتصارات بعد؟!
ـ الحكومة أسيرة السياق العام للسياسة الداخلية، على الرغم من انتهاء حكومة (الزعبي) إلا أن الحكومات المتتالية لم تخرج عنها، فكنت أكتب مسمياً حكومة (ميرو) بحكومة الزعبي الثانية، ثم جاءت حكومة (العطري) فسميتها حكومة الزعبي الثالثة، وهكذا تتالت الحكومات والأرقام وصولاً إلى حكومة (الحلقي)، لكن لغايته لم أحكم على حكومة (خميس) بأنها حكومة زعبية والسبب أنّ حكومته جاءت بين مرحلتين، نهاية لمرحلة (الزعبي) وبداية لما بعد الحرب، بمعنى أنها حكومة انتقالية تؤسس لما بعدها.
ـ الأوقاف الوزارة الوحيدة التي لم أهاجم وزيرها في المجلس بعد، فقط أنا نقلت ما قاله السيد (محمد عبد الستار السيد) تحت قبة المجلس، فثار الناس أول مرة بعد قوله مبتهجاً بأن لديهم 75000 داعية، وفي المرة الثانية في معرض جوابه على أسئلتي عندما استشهد بكلام ابن تيمية عن النقل والعقل، كما قال بعدم وجود ما يدعى تنظيم القبيسيات في سورية.
كانت الأوقاف وزارة ترضية مثل وزارات الجبهة الوطنية، واليوم باتت هي من توجه وزارات الحكومة والشعب الحزبية نحو التقدم والحداثة ؟! أرجوك لا تضحك لأن الأمر مخيف بالنسبة لقسم كبير من الشعب السوري، أنا في حالة هدنة زمنية مؤقتة مع الوزارة حتى تتأكد ظنوننا، وعندما تنتهي أؤكد لك بأنني قادر على تفكيك بنية الوزارة وبعثرتها. لم أدخل حرباً من قبل إلا إذا كنت متأكدا من ربحها وقرائي يعرفون ذلك جيداً.
ـ عجلات سيارة الحكومة لا تزال تمرّ فوق أعناق أفراد المجتمع السوري وهي تصم أذنيها عن صراخهم! وعليه فأنا أراهن علينا وأنتظر تحقيق مقولة «حكم الشعب نفسه بنفسه» التي درّسونا إياها في المناهج المدرسية، ويمنعوننا منها في الواقع. حري أن تكون سورية أول دولة بالعالم نظراً لغناها البشري والاجتماعي والاقتصادي، غير أن الاستعمار وعقائدي الأحزاب والجماعات لووا عنق التاريخ، وعطلوا تطورنا وأخّروا استحقاقنا كمواطنين عالميين. إن شيفرة مواطننا متفوقة وناجحة بدليل نجاح السوري المغترب في البيئات الصحية والتربة المدلّلة من قبل حكوماتها.
ـ ختاماً يمكننا القول إن السوريين العميان يعطلون تقدم المبصرين في سباق الزمن والأمم، وخسائرنا أكبر مما يمكن أن نتصوره.
بطاقة:
من قلعة بني قحطان ـ محافظة ـ اللاذقية ـ مواليد 1959 قاص. كاتب. صحفي. ناقد عضو مستقل في البرلمان السوري عن قطاع العمال والفلاحين . إجازة في الأدب العربي جامعة دمشق 1984 جائزة الإبداع العربي عن مجموعته القصصية "حارس الليل" القاهرة 1988 ـ محرر رئيس بجريدة تشرين 1988 ـ 2002 رئيس تحرير موقع "الجمل" ـ من مؤسسي "مجلة ألف للكتابة الجديدة" حرر أعدادها حتى سنة توقفها 1993 ـ نالت زاويته اليومية الساخرة "وخزات" الترتيب الأول في استفتاء قسم الصحافة بجامعة دمشق ـ ساهم بتأسيس العديد من الصحف والمجلات منها "الدومري" و"النور" الشيوعية ـ أطلق وأشرف على مسابقة حنا مينة للقصة والرواية السورية في (وزارة الثقافة) 2004 شارك بتحكيم مسابقات أدبية محلية وعربية (جائزة سعاد الصباح) نشر في الصحافة المحلية والعربية منذ 1988
أعماله:
ـ الرب يبدأ نصه الأخير ـ رواية اسمها سورية ـ نساء سورية ـ شغب ـ سورية عام من الدم ـ المختصر المفيد في حرب الشعب السوري العنيد ـ يوميات الحرب على سورية بالتعاون مع بسام حكيم ـ موسوعة الدراما التلفزيونية في نصف قرن (مخطوط) ـ أيها الشعب العظيم (منعت طباعته عام 2008 )
إضافة تعليق جديد