حمص: كسب الأرزاق... بعد قطع الأعناق
يسعى الحمصيون إلى استعادة أرزاقهم وتحقيق دخل يكفّ عنهم ذلّ الحاجة، بعد سنوات من الحرب وانقطاع سبل الحياة والرزق. وما بين من يحاول ترميم إصابة أو فقد بعمل شريف، يشغله عن أيام الموت الماضية، ومن يرمم محله التجاري أو منزله بعد خسارات بشرية ومادية، يتساوى أهل المدينة في السعي إلى تضميد الجراح. وإن كان العمل هو القيمة الحقيقية للإنسان، فإن بعض الخارجين من قسوة الإصابة أو ذلّ البطالة يلقون من الدولة استجابة لتأمين وظيفة حكومية ما، ومن بعض الجمعيات اهتماماً بتعليم مهنة أو عمل متواضع، فيتلقفونها بتذمّر حيناً، وبرضى أحياناً أُخرى. يجلس محمد دلة، على كرسيه بسلام، داخل مشغل الخياطة التابع لإحدى الجمعيات في حيّ الزهراء. حركات يديه تسعفه في تخطي إصابته بطلق ناري في العمود الفقري، أدى إلى تضرر العصب الوركي لديه، إضافة إلى المستقيم. وجد الرجل أحد أسباب مقاومته لعجز إصابته، في تعلم مهنة الخياطة ضمن برنامج جمعية «كريم». يحاول زيادة مهارته لإخراج قطعة معقولة. لا تعوقه الإصابة عن استكمال عمله في المشغل، طالما تحاول زوجته مساندته لإنجاز مهماته اليومية بنجاح. اللافت أنه تعرّف إلى زوجته من خلال المشغل ذاته، حيث كانت من مرتادي المكان بوصفها أرملة شهيد أيضاً. تواصل المرأة رسالتها هذه المرة، للوقوف إلى جانب زوج جريح، ومنحه أسباب الاستمرار. على مقربة منهما تجلس امرأة خمسينية يعرّف عنها الآخرون بأنها أم شهيد، لكن لا تصدر عنها أدنى التفاتة، بل تبدو غارقة في عملها، غير مهتمة بالزوار أو التصوير أو بتوطيد العلاقات الاجتماعية. ملامحها الجادة تصرف الآخرين عن مقاطعة عملها، فيكتفي المرء بالتفكير للحظة، بإيمانها الذي يدفعها نحو مواجهة محنتها والنهوض إلى العمل كل يوم، لتمضي بقية حياتها بشرف. أشخاص من أحياء عدة يجتمعون في المشغل، معظمهم لديهم ظروف متعلقة بالحرب ونكباتها. يجمعهم الرزق والكفاح في سبيل لقمة العيش، ضد كل ما فرّقهم يوماً.
السوق المسقوف وتحدّيات العودة
ليس ببعيد كثيراً، حيث أسواق حمص القديمة تعيش المرحلة الثالثة من ترميم السوق المسقوف. سيدتان مسنّتان تعكّزان إحداهما على الأخرى لعبور منطقة إقامتهما في حيّ الحميدية إلى السوق المغطى، فيما تستوقفهما واجهات المحال التجارية التي تفتتح حديثاً. تبدوان مستمتعتين باستكشاف المحال الجديدة والتجار «الشجعان» الذين عادوا إلى أرزاقهم وملأوا الواجهات بالبضائع. تتفقد السيدتان البضائع، فترضيان عن بعض الأسعار وتعترضان على بعضها، قبل أن تتبادلا الأحاديث القصيرة مع أحد التجار، وتغرقا في ضحكات ودودة. عن بعد، يمكن ملاحظة كيف تستعيد الحياة الاجتماعية في حمص عافيتها، من خلال المحور الاقتصادي. وإن كانت القطيعة الاقتصادية أحد مخاوف المجتمع الحمصي، فإنها لا تبدو جدّية أبداً، في أسواق المدينة الأساسية، بل بدت إعادة فتح بعض المحال المعروفة مدعاة احتفاء أهالي أحياء الزهراء والأرمن ووادي الدهب، بوصفها من معالم حمص الأساسية. وعلى رغم انتقال المخاوف أخيراً إلى قرى الريف الشمالي العائدة إلى سيطرة الدولة، ومحاولات استعادة مظاهر الحياة الاجتماعية مع محيطها الريفي الموالي، يظهر الاقتصاد حلّاً أساسياً، وربما وحيداً.
غير أن إمكان تطبيق المصالحة الفعلية أصعب في قرى منفصل بعضها عن بعض، أهم ما يربطها شبكات الطرق، بينما تكتفي كل منها بإنتاجها الذاتي من المنتجات الزراعية، ويرفد تجار المدينة أسواقها بالبضائع، إضافة إلى مساعدة الدولة في ذلك. وهذا التفصيل يقود إلى أن استعادة الروابط الاجتماعية قد تكون أسهل في أحياء المدينة، التي تربطها ببعضها علاقات اقتصادية ملحّة. ليظهر تفصيل جديد أثناء الحديث مع التجار عن أي تحسن ممكن في حجم المبيعات أخيراً، فإجابات التجار تفيد بأن أبناء الريف الشمالي قد دخلوا أسواق حمص مجدداً، بعد المصالحة الأخيرة، وهذا أثّر إيجاباً على حركة السوق. وبالتعاون بين محافظة حمص وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أصبح 40 محلاً تجارياً جاهزاً للافتتاح، وفق معايير مديرية الآثار والمتاحف وإشرافها، بما يكفل الأهمية التاريخية لكل حجر في السوق. على مساحة 42 ألف متر مربع يتناثر 825 محلاً، في أنحاء السوق، 80 منها فقط تمّ تأهيله خلال المرحلة الحالية. بينما جرى تأهيل 4 أسواق خارجياً فقط، وهي أسواق الخياطين والقيصرية والصاغة والمعرض. إنارة السوق تعتمد على الطاقة الشمسية. فيما تتواصل أعمال الترميم في الجامع النوري الكبير، الذي يعود بناؤه إلى القرن السادس الهجري. القواعد المعدنية المرافقة لجدران الجامع وأبوابه لم تمنع المصلين من التوافد إليه للصلاة في القاعات المتوافرة. اللافت أن التخريب الذي تعرض له الجامع كشف بقايا أعمدة وتيجان عائدة إلى العهد البيزنطي، أسوة بزوايا عديدة من أركان الأسواق القديمة التي تعرضت للتخريب، فتكشفت عن آثار قديمة لم تكن في الحسبان.
مدينة المعارض في الوعر... إلى التعافي
كما لو أن زمان الوعر القديم قد عاد. سيارات مدنية مركونة أمام المباني بوداعة، وقامات تطل من على شرفات تلك المباني بفضول تجاه زوار الحي. مظاهر يمكن التقاطها في الطريق إلى مدينة المعارض على الأطراف الغربية للحي الحمصي. تمتد مدينة المعارض على مساحة 27 دونماً من أراضي الحي، لتضم 450 محلاً تجارياً، تمّ تأهيل 200 منها. ووسط انتقادات يتعرض لها أداء المحافظة المتعلق بنهضة حمص وإنمائها، من بينها رفع أسعار إيجارات الأجنحة التجارية في مدينة المعارض، غير أن فرق المحافظة تفاخر بأن طرح المحال التجارية، التي تمّ تأهيلها للاستثمار، أفضى إلى إقبال المستثمرين على استئجارها جميعها خلال أسبوع واحد من إعلان عرضها، رغم استمرار عمليات التأهيل على المحال الأُخرى. تشرح سهير الفيصل، المسؤولة عن المنشأة الضخمة أن صالة العرض الرئيسية الممتدة على مساحة 4000 متر، والتي كانت بمثابة سوق مركزي، قد تعرضت لدمار كبير خلال أحداث الحيّ الدامية، ما أخّر تأهيلها الذي يتطلب كلفاً عالية. سيدتان من الحيّ متوقفتان على واجهة محلهما التجاري، تمكنتا من البدء بالعمل قبل أكثر من عام. وعند سؤالهما عن عملها أيام أزمة الحي، تجيب إحداهن بابتسامة: «ولا شي». زميلتها تعلّق بأنها كانت في طرطوس، قبل أن تعود منذ 8 أشهر وتفتتح مشروعها الصغير. وعن أوضاع الرزق تجيب برضى وقناعة بعملها الحالي، ثم تعقّب بأسى: «يا ريتكن اجيتو المسا لتشوفو زحمة الأهالي عنّا». يبدو جلياً أن المزاج الشعبي في الوعر استعذب أمان الحيّ الحالي، ما يثبت نظرية استخدمها ممثلو الدولة في حمص، بشأن عدم إمكان إنكار أن العنصر المدني الموالي للدولة، أو أقله غير المُعارض لها، مثّل ضغطاً شعبياً على المسلحين، ما ساهم في إنجاز تسوية الحي وعودته سريعاً على طريق التعافي الاقتصادي والاجتماعي.
عن الحنين الحمصي: نادي المهندسين راجع
يكتنز الحمصيون ذكرياتهم القديمة عن «أيام العز» السابقة، حين كان مطعم دوار المهندسين يحتضن حفلاتهم ومناسباتهم السعيدة. قيمة خسائر النادي اليوم تتجاوز 700 مليون ليرة، بعدما تعرض لطوفان مجرى نهر العاصي، أيام كان النهر فاصلاً طبيعياً يمنع تسلل المسلحين إلى أحياء وسط المدينة. 300 مليون ليرة هي التكاليف المدفوعة لبناء مبنى جديد مجاور، بانتظار افتتاح قريب، ريثما انتهت أعمال ترميم المبنى القديم الذي غطى إحدى طبقاته لون الرطوبة القاتم، وعلاج المشكلة يتطلب كلفة مضاعفة. نقيب مهندسي حمص خليل جديد، يشير إلى سباق مع الزمن لاستعادة أيام المبنى الماضية وحفلاته الأسبوعية، التي لطالما استقطبت أشخاصاً من مختلف الطوائف. ورش البناء تعمل على قدم وساق لتلبية الطموحات بافتتاح قريب جداً، مع استمرار تأهيل حديقة المطعم والمسبح الواسع. للنحاتة الحمصية ميسون حبل، ثلاث منحوتات تغمر المياه بعضها، مزيّنة أنحاء الحديقة. راعت الفنانة أن تكون أعمالها عبارة عن رموز علمية تناسب طابع المكان ومهن مرتاديه المستقبليين.
مرح ماشي - الأخبار
إضافة تعليق جديد