جورجیو أغامبین وسلافوي جیجك: حياة عارية وبربريّة بوجه إنساني
أحمد العطّار: قدّم صاحب كتاب “حالة الاستثناء” الفیلسوف الإیطالي “جورجیو أغامبین” تشبیها للوضع الّذي عاشته وتعیشه إیطالیا، أمام الاجتیاح الكروني وسمه بـ”الحیاة العاریة”، حیث تمّت التّضحیة بالحیاة الطّبیعیة، الصّداقة، العواطف، العمل، العلاقات الاجتماعیّة وحتّى القناعات السّیاسیّة والدینیّة، كما سعت الإجراءات الّتي قامت بها الدولة إلى التّفریق بین النّاس وتوسیع الهوّة بینهم، وهو ما یصیب الجمیع بالعمى على حدّ توصیفه.
لقد أضحى المجتمع متجرّدا من كلّ القیم، ساعیا فقط إلى محاولة لحفظ البقاء، فقد لا یكون هناك مسوّغ أو مبرّر لإجراءات العزل، ولحالة الطّوارئ والإغلاق التّام، متخوّفا أن تبقى هذه الإجراءات لما بعد رفع العزل، وبالتّالي تكون أداة في ید الدّولة لمزید هیمنة وتحكّم.
لقد عاشت الأمم – حسب أغامبین- كوارث وجوائح كثیرة، وأوبئة أشدّ فتكا وخطورة، دون أن یفكّر أي أحد بإعلان حالة الاستثناء والطّوارئ، الّتي سارعت الحكومات الیوم لتطبیقها.
لقد تمّ تقیید الحریّة، واختزلت حیاة النّاس في وظیفتها البیولوجیّة، وتمّت التّضحیة بالأبعاد الاجتماعیّة والسّیاسیّة والعاطفیّة.
حالة الاستثناء على النّقیض من المجتمع الحرّ، لدواع أمنیّة بحتة صودرت الحریّة، مادام التّخویف وانعدام الأمن ذریعة لا غبار علیها. مضیفا، أنّ إعلان الحرب على عدوّ غیر مرئي، في ظلّ حضر التّجوّل وتدابیر الطّوارئ، هي الأكثر عبثیّة بین كلّ الحروب، إنّها في الحقیقة حرب أهلیّة، “العدوّ لیس في الخارج وإنّما یكمن داخلنا”.
لعلّ جلّ القلق لا یتعلّق بالحاضر، بل بالمستقبل، فبمثل ما تخلّف الحروب سلسلة من التّقنیات المشؤومة، فمن الرّاجح كذلك أن تستمرّ التّجارب والإجراءات النّاتجة عن الأزمة الطّارئة: إغلاق الجامعات والمدارس، الاكتفاء بالتّعلیم عن بعد، حضر التّجمعات ولقاءات النّقاش السّیاسيّ والثّقافي، أو إلزامنا برسائل إلكترونیّة كوسیلة للتّواصل، وجعل الآلة بديلا لكلّ لقاء-عدوى بین النّاس.
من جهته سیفتتّح الفیلسوف السّلوفیني سلافوي جیجك مقالته بالرّغبة في الإصابة بالفیروس، یبدو التّمني غریبا، لكن لعلّه السّبیل للتّخلص من حالة الخوف والشّك ومن حالة الارتباك المنهكة، المترتبة عن الوضع الّذي یعیشه الفیلسوف أمام هذه الجائحة.
في تصوّر جیجك أنّ تغیرات جذریّة تحدث بالفعل الیوم، فلم نكن نتخیّل الانقلاب الّذي شهدته حیاتنا الیومیّة. لقد توقّف العالم عن الدّوران، كما أنّ المستقبل یبقى غامضا ومحیّرا، بینما تباشیر أزمة إقتصادیّة هائلة تلوح في الأفق. كلّ هذا یعني أنّ ردّ فعلنا یجب أن یحقّق المستحیل تجنبا للأسوأ، هذا المستحیل الّذي یبدو غیر ممكن ضمن إحداثیات النّظام العالميّ الحاليّ.
لا یعتقد جیجیك أنّ التّهدید الأكبر یتمثّل في انتكاسة إلى”بربریّة صریحة” أو صراع وحشي على البقاء، بل هو الخشیة من بروز “بربریّة بوجه إنساني”، تتّمثل في إجراءات قاسیة لحفظ البقاء تستمدّ شرعیتها ممّا یقوله الخبراء.
لقد رأینا تصوّرات لتقلیص الفرضیّة الأساسیّة لأخلاقنا الإجتماعیّة، فقد أعلنت إیطالیا عن إمكانیّة حرمان المسنین وأصحاب الأمراض المزمنة من الرّعایة الصّحیة، في حالة تفاقم الوضع، سیتركون ببساطة للموت. في هذه الحالة یتمّ انتهاك منطق البقاء للأقوى، أبسط مبادئ الأخلاق العسكریّة الّتي تنصّ بوجوب معالجة المصابین بعد المعركة، حتّى لو كانت فرص نجاتهم ضئیلة.
یضیف الفیلسوف: أنا واقعي جدّا، فعوضا عن التّوفیر والاقتصاد، یجب أن یكون الهدف الأوّل تقدیم المساعدة الغیر مشروطة للمحتاجین بغض النّظر عن التّكالیف.
وفي معرض انتقاده لجورجیو أغامبین الّذي اعتبر أنّ ما نعیشه هو “حیاة عاریة” تنزع إلى التّفریق بین البشر، اعتبر جیجیك أنّ ترك مسافة الأمان والتّباعد الإجتماعي هو أیضا إبداء لنوع من الاحترام للآخرین، خوفا من نقل العدوى بینهم. فالتّركیز على المسؤولیّة الفردیّة على أهمیّته، من شأنه أن یحوّر النّقاش الأهمّ حول: كیفیّة تغییر النّظام الإجتماعيّ والإقتصاديّ، إنّ معركة كورونا لا تكون إلّا یدا بید ضدّ “التّهویمات الإدیولوجیّة” ، وباعتبارها جزءا لا یتجزأ من النّضال البیئيّ الأوسع.
إنّ أزمة كورونا في تقدیره ذات ثلاثة أبعاد أساسیّة: بعد طبي (انتشار الوباء)، بعد إقتصادي (له تبعات إقتصادیّة بمعزل عن نتیجة الوباء)، وبعد آخر مهمّ ولا ینبغي الاستهانة به مرتبط بالصّحة العقلیّة.
فما نلاحظه الیوم هو تفكّك الإحداثیات الأساسیّة للعالم: (التّواصل الجسدي الیومي، الطّیران، العطل، إحداثیات الأسهم والرّبح…)، فلیس الانعزال وحده كاف للنّجاة، فلكي تنجح محاولات العزل یتوجّب أن تفعل الإمدادات الطّبیة الغذائیّة والخدمات العامّة.
“هذه لیست تصوّرات شیوعیّة مثالیة، وإنّما شیوعیّة تفرضها ضرورة البقاء العاري، ” ففي الأزمة كلّنا إشتراكیون”.
یضیف الفیلسوف متسائلا: فهل ما نعیشه سیمثّل فصلا جدیدا فیما أطلقت علیه “ناعومي كلاین” رأسمالیّة الكوارث، أم أنّنا سنكون أمام نظام عالمي جدید، أكثر تواضعا ربّما، ولكن أكثر توازنا؟
إضافة تعليق جديد