جدلية الحرية.. الحب والدين لدى كيركجارد
1- الحرية:
لا تعتبر الحرية حالة، بل هي فعل، أي إمكانية الوجود، بل الوجود بأسره، وهي لا تنفصل عن المسؤولية تجاه ذواتنا، فلأن الإنسان فاعل فهو بذلك يختار، لأنه يتدرج في حياته من المرحلة الحسية إلى العقلية وينتهي إلى الإيمانية. لكن “الحسي والحركي كليهما لا يفلحان في تحقيق وجوده وذاته، فالذات الحقيقية لا تتحقق إلا بالاختيار، فالطريق الحسي يفضي إلى الملال والمزاج السوداوي.” ويفسر هذه المراحل بأن المرحلة الحسية هي التي ما زالت سابقة على الزمن، وهي مرحلة اللذائذ، فالفرد فيها يعمد إلى تلبية رغباته الحسية وشهواته، وهي المرحلة التي تكون الذات فيها متحدة مع العالم الخارجي، والذات غائبة، وكون الرغبة فيها هي المسيطرة، وهي أشبه بالهو عند فرويد، وأفضل طريقة للتعبير عن هذه المرحلة هي من خلال الموسيقى. أما في المرحلة العقلية تصبح الذات مركزة موحدة وحقيقية بفضل اختيارها لنفسها، والمرحلة الأخيرة هي الدينية، وكل مرحلة لا تكفي بنفسها فكل مرحلة تحيل الى الأخرى.
هكذا فإن كيركجارد يؤكد على الفعل لأنه تعبير عن الامتلاء الإنساني فهو يشمل الفكر والانفعال، “فالإنسان هو الموجود، الذي يخرج عن ذاته ويتجاوزها”.” ، لذا فإن الحرية والوجود متلازمان، فلا يمكن أن أوجد بدون أن أكون حرًّا، ولا معنى لحريتي إن لم أكنْ موجودًا، وهي إذًا جوهر الإنسان وعين وجوده. ويرفض كيركجارد التوحيد بين الوجود والمطلق بل يوحّد بين الوجود وفعل الاختيار. والذاتية هي الحرية، حقيقة الإنسان الذاتية، فمهمة الحرية دائمًا هي إنتاج الحقيقة، ولا تتحقق إلا بالأفعال الحرة، والاختيار المتاح للفرد هو بين السعادة الأبدية في المسيح واللعنة الأبدية، والحقيقة الوحيدة هي السعادة في المسيح ولا قرار سوى أن يحيا المرء حياةً مسيحيّة. والحرية خالقة فهي تخلق من الناحية الأنطولوجية الشيء الذي تختاره، فتصبح الشيء المعني، وهي الخير الرئيسي، وبها يثبت وجوده فهو لا شيء قبل الاختيار، والاختيار للذات يعني الاختيار للمطلق، فالمطلق هو الذات في حقيقتها الأزلية، ولا تُختار إلا لذاتها. وعن طريق هذا الاختيار تكون الذات قد دخلت إلى دائرة الإيمان الحقيقي، وبالكدح المستمر تكشف عن نفسها كإمكانية في حالة البراءة. والحرية تكشف الذات الأخلاقية، فالفرد لا يختار بين الخير والشر، بل يختار الخير لأنها الذات الأزلية وإن كان هذه الاختيار يحمل في داخله اختيارا بين الخير والشر. فالخير موجود لأني أريده، والشر يوجد عندما أريده وأرغبه، فالخير والشر أمور ذاتية. وهذا الخير لا يكون إلا إذا كان الانسان حرًّا، فعندما أختار ذاتي أكون قد قمت بفعل التفرقة ” فالإنسان يعثر على حريته في المدرج الأخلاقي وهو المدرج الذي يسبق المدرج الديني مباشرة ويعدّ تمهيدًا له”. فالإيمان فعل حرٌّ خالص ” فالخير هو الموجود في ذاته ولذاته وقد وضعه الموجود في ذاته ولذاته وهذه هي الحرية، والخير إذًا، لا يمكن أن يعرف، فالخير هو الحرية”. أمّا في الحديث عن الخطيئة يعتبر كيركجارد أن الإنسان كان في حالة من البراءة أو الجهل، وما فعْلُ الأكلِ من الشجرة (قصة خطيئة آدم وحواء ) والعصيان للأوامر الإلهية سوى إيقاظٍ لإمكانية ممارسة الحرية، فالتحريم جعله واعيًا لإمكانية الفعل، ومقولة التحريم هي لحظة انبثاق النور من داخل ذاتية آدم وحدد من خلالها ممارسة الحرية” وأما شجرةُ المعرفة فلا تأكلا منها، معنى ذلك أن آدم لم يفهم هذه المقولة، لأن الفهم لن يأتي قبل الأكل فقبله جهل وبعده معرفة، فمعرفة الخير والشر نتيجة للأكل وليس مقدمة للأكل من الشجرة.” فالتحريم أيقظ إمكانية الفعل، فقبلها كانت حريتُه غيرَ محددة إمكانية اللاشيء، والتهديد يوقظ في نفسه القلق من الحرية، “ففعل الحرية وثبة، وليس فعلًا قابلًا للفهم، وثبة نحو الخطيئة مباشرة”
2- الحب والجمال:
حاول كيركجارد إيجاد الحل للتنافر بين الجسد والروح، عن طريق القيام بقفزات، من المعقول إلى اللامعقول لهذا نجده يمر بالمراحل الثلاثة التي تحدثنا عنها: المدرج الحسي الدون جواني، المدرج الأخلاقي والمدرج الديني، فالمرحلة الأولى هي مرحلة الثورة على الفن، على الدين وهي مرحلة هلامية. ولعل السبب في التقاء شخصية كيركجارد بدون جوان هو أن المسيحية أدخلت الصراع بين الروح والجسد وأقامت نوعًا من الثنائية، وهذا الصراع لصالح الجسد على حساب العقل، والصراع هذا ينتهي عندما ينتصر دون جوان بالشهوة ويقهر العقل والروح معًا. أما الحبّ فهو اللحظة، يبدأ وينتهي في لحظة ويتكرر بشكل لا نهائي، والمرأة هي الهدف الوحيد عند دون جوان ولا تعنيه حالتها الاجتماعية، فهو لا يرغب في امرأة معينة ” فالمرأة عنده أداةٌ للغزو وليست غايةً للتملّك.” وكيركجارد في قصته مع ريجينا، المرأة التي أحب، وتركها بسبب النزعة الدينية المتغلغلة ” فقد ضحى بالجمال الساحر من أجل جمال يعتقد أنه أفضل، إنه ضرب من الجنون واللامعقولية”. فريجينا هي تجلٍّ للجمال المطلق، ومن خلالها قام بالقفز إلى المطلق برفضه للجانب الحسي، فهو يريد منها الجانب الروحي لينتقل منه إلى الأبدي، فالزواج سوف يجعل منه رجلًا عاديًا، وتفنى العبقرية، فالعبقرية بحاجة للنار المستعرة التي تلهبه، وهو من الحب الآنيّ انتقل إلى الحب السرمدي، فالحب الصادق هو إنكار حبِّ الذات، التخلي عن اللحظة من أجل الأزلي، فالحب الديني هو الحب العام الأكبر من العادي، لهذا كان اختيارُ التضحيةِ مطلبَه الذي يحقق من خلاله الحقيقة.
المحطة
إضافة تعليق جديد