ثلاثون عاماً على وفاة عبقري الموسيقى العربية...رياض السنباطي...9/9/1981)

08-10-2011

ثلاثون عاماً على وفاة عبقري الموسيقى العربية...رياض السنباطي...9/9/1981)

مرة أخرى تمر ذكرى استاذ الموسيقى العربية رياض السنباطي بهذا القدر الكبير من الحياد الجارح... مرة أخرى تصمّ المؤسسات الثقافية والاعلامية آذانها عن نتاج هذا الفنان، وتفتحها على زعيق المهرجانات وبريق الاحتفالات المنهمكة بحمى التجديد والتجريب والتغريب..
هكذا لم يعرف رياض السنباطي لحظة وفاء حقيقية تليق بفنه وتطاول قامته الشامخة وظل يعاني الجحود والنكران...
كان رياض السنباطي يعرف أنه طائر يغرد خارج السرب.. وأنه الصوت.. والآخر الصدى..
لذا كان عليه الانتظار على أبواب التقدير ينتزعه انتزاعاً ويسعى كبقية السعاة بحثاً عن جائزة هنا وتكريم هناك.. لكنه رفض هذا التكسب رفضاً قاطعاً وانطوى في عزلة خلاقة يغرف من معينها ما يشاء ليهيئ لنا مفاجآت ثمينة وأعمالاً جليلة تبشر بزمان آخر ورجال آخرين...
...حين نتحدث عن رياض السنباطي انما نتحدث عن عبقرية موسيقية بكل معنى الكلمة... وإن كان الحديث عن العبقريات أمراً محفوفاً بالمخاطر، لافتقاد هذه الكلمة الى تعريف علمي دقيق وقاطع... مع ذلك من حقنا أن نسأل لماذا يكون الناقد في بلادنا مطمئناً حين يتحدث عن عبقرية موتسارت أو بيتهوفن أو لاندل (وهي حقيقية) فيما يكون خفيض الصوت، يتحدث على استحياء عن عبقرية السنباطي أو محمد عبد الوهاب أو القصبجي؟ ألأنهم يتحدثون لغتنا؟
أم هو سحرالغرب الأخّاذ الذي يجذبنا الى آفاق بعيدة، حرة، تدير الرؤوس فنحلق عالياً بعيداً عن الجذور ثم نسقط في فخ المقارنات المستحيلة التي تفتقد الى الموضوعية والى الأحكام العادلة، تلك التي تتطلب إنزال الناس منازلها ووضعها في سياقها البيئي والتاريخي....
حين تقدم ابن السابعة عشرة ليلتحق بمعهد الموسيقى العربية قسم العود لم يخطر على باله ان اللجنة الفاحصة آنذاك والمكونة من جهابذة الموسيقى ستختاره على الفور أستاذاً لآلة العود مختصراً في لحظات مسيرة قد تستغرق قطعةً من عمر او رحلةً من جهد وكفاح... فكانت تلك أولى لمحات أو ومضات عبقرية رياض السنباطي المبكرة...
ونحن اذ نختار رياض السنباطي نموذجاً لعبقرية الموسيقى العربية فليس ذلك من باب حصرها في فنه وحده انما لما له من خصائص فريدة أبرزها على سبيل المثال أنه الموسيقي المصري الوحيد الذي لم يتأثر بموسيقى أجنبية كما جاء في تقرير اليونيسكو الذي منحه جائزته العالمية عام 1977 باعتباره "الموسيقي المصري الوحيد الذي لم يتأثر بأية موسيقى أجنبية وأنه استطاع بموسيقاه التأثير على منطقة لها تاريخها الحضاري"...
وان كانت هذه الجوائز لا تعني الكثير ولا يمكن أن تشكل معياراً أو مرجعية لنا الا أننا آثرنا أن نلفت اليها الانتباه تحديداً لتفرد رياض السنباطي بها في الموسيقى العربية من جهة ولأهمية الجملة الأخيرة التي وردت في عبارة التعريف بالجائزة بالنسبة لرؤيتنا. من جهة أخرى.. نعم كان لرياض السنباطي عظيم "التأثير على منطقة لها تاريخها الحضاري"... اذ استطاع بألحانه" النخبوية"، اذا جاز التعبير، أن يرتقي بالذوق الموسيقي العام ويتسلل الى قلب كل مستمع من المحيط الى الخليج والى وجدان الطبقات والشرائح الاجتماعية والثقافية والفكرية كافة وجعل رجل الشارع الأمي يردّد معه "سلوا قلبي" و"نهج البردى" و"رباعيات الخيام" و"الأطلال" و"سلوا كؤوس الطلا...".
وكانت أم كلثوم الصوت العبقري الذي حمل أعمال السنباطي من ضفة الخاصة والنخبة الى ضفة العامة والجماهير...
كما استطاع وسط فوضى التجديد الارتجالي والانبهار بكل ما هو آت من وراء البحار أن يجدد ويطور من دون أن تجرفه الأمواج الى بحور الغرب... على الرغم من اطلاعه الكبير على الموسيقى الغربية الكلاسيكية والحديثة ومعرفته العميقة بها وعلى الرغم من غزارة انتاجه الذي جاوز الألف من الأعمال المتنوعة بين قصائد وطقاطيق وأدوار ولونغات وموشحات ووطنيات ودينيات الخ....
رفض رياض السنباطي الاستسلام لطغيان الانفتاح الجامح على الغرب أو الخضوع لمتطلبات السوق الموسيقية واستطاع أن ينقب في روحه ووجدانه ليخرج علينا بالنفائس والدرر الموسيقية التي خلدته في لائحة أعظم مئة موسيقي في العالم الى جانب بيتهوفن وموتزارت وسواهما...
هذه العزلة المادية والمعنوية أبعدته عن الأضواء الاعلامية التي كادت تطيح ببصيرة بعض معاصريه من الكبار وتراثهم، فاتهم بالتقوقع والعجز عن الانفتاح على التيارات الحديثة.. وكان طبيعياً ان يستعصي فن رياض السنباطي على غلاة المتحمسين للفنون الغربية من النقاد والاعلاميين لان نجم رياض السنباطي كان ينثر أنواره في السماء لا على صفحات الجرائد..
وبالفعل استطاع السنباطي أن يطور أساليب الأسلاف، فاستبدل الدولاب الموسيقي التقليدي بمقدمة موسيقية تعبر عن القصيدة ككل وتترجم المعاني بروح شاعرية شفافة قلما سما اليها ملحن عدا القصبجي وعبد الوهاب.. لقد استخدم السنباطي بنجاح باهر اللغة الموسيقية ذات الخصوصية الشرقية في التعبير عن متطلبات العصر "كما جاء في كتاب الناقد المعروف صميم الشريف "رياض السنباطي وجيل العمالقة".
ونحن نضيف ان السنباطي استطاع بفنه الشرقي لا ان يعبر عن "متطلبات" العصر، وحسب بل عن تطلعات العصر وارتقى بالموسيقى الشرقية الى علياء التعبير عن معاناة الانسان في صراعه المرير مع الحياة. وكان عبر رحلته الموسيقية كلاسيكيا كبيرا ورومانسيا حالما ومجددا حقيقيا ارتقى بالموسيقى العربية الى مصاف الموسيقى العالمية ...
ومن يحسن الاصغاء الى قصيدة أشواق أو الى اوبريت "لحن الوفاء" تتكشّف له عناصر العبقرية الموسيقية التي تسافر بك الى تلك العوالم البعيدة التي تغفو في خوابي الماضي ثم تعرج بك الى مستقبل النبوءات... والمتأمل في المقدمة الموسيقية لقصيدة أشواق لا يمكنه بحال من الأحوال أن يستنتج أنه أمام عمل عقلي بل حدسي الانطلاقة والالهام ينقلنا الى عالم غير مرئي.. الى عالم الروح بكل صفائه وبراءته.. وهل العبقرية الا ذلك الحدس الملهم وتلك الطفولة الخالدة في قلب الفنان وعقله وروحه؟..

آخر الكلاسيكيين الكبار
لقد كان رياض السنباطي من كبار المجددين لكن ملامح هذا التجديد لم تعجب غلاة المتحمسين للفنون الغربية. كما أسلفنا.. وروج الاعلام "الفني" غير المتخصص بأن رياض السنباطي فنان "كلاسيكي" أي أنه بمفهومهم جامد وغير متطور واضعين كلمة كلاسيكي في معنى مغاير لمعناها الحقيقي... يضعونها تارة مقابل "مجدد" وتارة أخرى مقابل "رومانسي"... لذا كان من الصعب أن يدركوا قيمة أن يتصف فنان بهذه الصفة الجليلة...
ولعله من المفيد في هذا الصدد أن نحاول توضيح تطور معاني هذه الكلمة ومدلولاتها كما وردت في الكتب والموسوعات الثقافية لندرك كيف ولماذا كان رياض السنباطي مجدداً ورومانسياً وكلاسيكياً كبيراً بل سيد الموسيقيين الكلاسيكيين العرب من دون منازع..
جاء في الموسوعة الثقافية للدكتور ثروت عكاشة: .."كانت العبارة اللاتينية scriptor classicus (أي الكاتب الكلاسيكي) تعني أول ما تعني الكاتب الذي يكتب للخاصة من علية القوم.. على العكس من كلمة scriptor proletarus الذي كان يكتب لسواد الشعب.. ثم ما لبثت كلمة كلاسيكي أن غدت تدل على كل عمل جدير بالحفظ والإبقاء عليه ليكون موضع دراسة.. ثم أصبحت الكلمة لها دلالة أخرى يراد بها الآداب والفنون الحديثة وإن خالفت القديمة شكلاً ومضموناً، ولكنها وصفت بالكلاسيكية لتساميها.. اما دلالاتها التي تجري على الألسنة الآن فهي كل ما له صلة بالآداب والفنون ويحمل سمات الاتزان والوحدة والانضباط والتناسب.. ثم ما يسمّيه المتخصصون: البساطة المهيبة والجلال الوقور..".
وإذا نحن عدنا لنفند هذه المعاني واحداً واحداً وندقق في دلالاتها المختلفة فسوف نجد عجباً اذ انها بمجملها تنطبق تماما على نتاج الموسيقار رياض السنباطي أي أنه جمع مجد الكلاسيكية من أطرافه..
فاذا تناولنا المعنى الأول، وهو الابداع للخاصة من علية القوم، لوجدناه ينطبق على نتاج السنباطي الذي كان نتاجا يحتاج الى فكر وثقافة وذوق من نوع خاص تخللته عشرات القصائد الشعرية الصعبة على العامة والقوالب اللحنية الرفيعة المستوى والتي تحتاج الى انصات وتأمل..
أما المعنى الثاني وهو العمل الفني الجدير بالحفظ، فمن أحق من السنباطي به اليوم؟
لقد أجمع الدارسون والنقاد على أن أعمال السنباطي هي أجدر الأعمال الموسيقية بالحفظ والدراسة والتحليل كأي Form أو شكل موسيقي عالمي واعتبر المايسترو المرموق مصطفى ناجي أن رياض السنباطي مؤسس لتقليد جديد وبالتالي يمكننا من هذه الوجهة أن نشبهه ببيتهوفن عند الغرب..
وأخيرا اذا تناولنا المعنيين الأخيرين لكلمة كلاسيكي لوجدناهما ينطبقان حرفياً على جميع العناصر التي تكون موسيقى رياض السنباطي حيث الاتزان والوحدة والبناء المحكم والتناسب والبساطة المهيبة والجلال الوقور.. وليس أدل على هذه المعاني من قصيدته الدينية "الى عرفات الله" لأحمد شوقي.. التي استطاع فيها رياض السنباطي بعبقرية فذة أن يعبر عن حالة النفس التي تتهيأ لزيارة بيت الله وانقطاعها عن صخب الدنيا والارتقاء الى حالة من الصفاء والزهد، بزهد مماثل في الزخارف والنمنمات الموسيقية.. عبر لحن هادئ يسير ببساطة مهيبة وجلال وقور على وقع تلك القوافل التي تحمل المشوقين الى البيت العتيق بفؤاد يخشع وبعين تدمع...
كما أن فن رياض السنباطي هو من دون شك من هذه الفنون الحديثة التي خالفت القديم في كثير من عناصره وسمت بالموسيقى الشرقية الى ذرى تعبيرية لا مثيل لعمقها في تراث الملحنين العرب.
أما "التسامي" فتلك ميزته التي تتبدى في جميع أعماله من دون استثناء حتى تلك التي استخدم فيها بعض الايقاعات الراقصة كغيره من الملحنين، لكنه استطاع باقتدار أن ينأى بها عن الابتذال لتصبح بهجة للقب ومتعة للعين والروح... وما أنشودة "افرح يا قلبي لك نصيب" الا أرقى تعبير عن روح تراقص الريح للقاء الحبيب في رياض الفرح والحبور..
إن الكلام على رياض السنباطي يحتاج الى الكثير من الجهد والدأب والدراسة.. ولسنا في صدد تقديم تحليل متعمّق لأعماله الكثيرة المتنوعة لذا آثرنا التوقف عند مسألة التجديد والكلاسيكية بشكل خاص لكونها أكثر القضايا التي أثارت جدلاً وتركت غلالة من الغموض في أذهان جماهيره ومحبيه.. ولعجز كلماتنا الضئيلة عن الإحاطة بفن أحد أعمدة الموسيقى العربية في الشرق وأحد أغزر وأعمق الملحنين في تاريخ الموسيقى العربية..
هي محاولة للوفاء في ذكراه العشرين.. هي لحظة للصحو والتذكر..
رياض السنباطي عشرون عاماً على غيابك.. عشرون عاماً على غيبوبتنا.

سمر محمد سلمان

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...