ثقافة اللا عنف من جودت سعيد حتى سحر أبو حرب
الجمل: فهمت من كتابي ( لا تكن كابني آدم )، و ( العنف عند ابني آدم )، أن الكاتبة سحر أبو حرب تنطلق فيهما من سؤال:
هل كان قاتل يتحمل المسؤولية كاملة عن جريمته؟.
هل كان مقتول بريء من المسؤولية عن عملية القتل؟.
لعل المقتول أراد أن يقتل أخاه فما استطاع، وسبقه الآخر فقتله! أو لعل المقتول أراد أن يقتل القاتل معنوياً حين تعالى عليه، وأظهر طهره وتقواه، في مقابل الدنس والذنب الذي تلبس به القاتل !!...
وليس في هذا تبرئ للقاتل من جريمة القتل، ولكنه النظر بعين أخرى إلى الجانب المظلم الذي لم يتحدث عنه أحد من قبل، وهو أن المقتول ربما يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن عملية القتل.
وحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي مناسبات عدة وبألفاظ وتعابير متعددة:
( كن كابن آدم ) (1)، ( كن كخير ابني آدم )، فإنه يتحدث عن حالة الفتنة العارمة التي تلتبس فيها الأمور، ويختلط الحابل بالنابل، ويشيع القتل الذي لا مفر من التورط فيه، فإما أن يكون الإنسان قاتلاً وإما أن يكون مقتولاً في تلك الحالة يقول الرسول لنا: ( كن كخير ابني آدم )، أي لا تكن قاتلاً مهما كان الثمن الذي تدفعه لقاء التزامك بالقانون والشرعية.
ولكن هل يعني قوله هذا أنه لا بد للإنسان أن يكون إما قاتلاً أو مقتولاًَ، وأنه ليس ثمة طريق ثالث في كل الظروف؟
هل يعني أن على الإنسان أن يكون مقتولاً ليكون كخير ابني آدم؟ يجب أن نميز بين حالة الفتنة التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: ( كن كابن آدم )، بين حالة أخرى قال فيها صلى الله عليه وسلم: ( إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فسأله أحدهم قال: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه قد أراد قتل صاحبه) (2).
فالمقتول الذي لم يسهم في القتل ولم يسعَ له وكف يده ولسانه، غير المقتول الذي كان قد أراد قتل صاحبه !! الأول يأمرنا الرسول أن نكون مثله، بينما يحذرنا أن الآخر مصيره في النار كمصير القاتل تماماً.
وأستطيع أن أقول هنا: إنه صلى الله عليه وسلم ينهى كل فرد عن أن يكون قاتلاً، وإذا لم أكن قاتلاً فعلي كذلك أن لا أساهم أو أشترك في إثارة القتل والدفع باتجاهه واستثارة الآخر ليقتلني فإن قمت بتلك الإثارة وذلك الدفع فإنني أتحمل لا ريب جزءاًَ كبيراً من المسؤولية، حتى ولو كان المقتول أنا...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم، باب: النهي عن السعي في الفتنة، رقم (4256 و 4257) والترمذي في القدر باب: ما جاء إنه تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، رقم (2194).
(2) أخرجه البخاري عن الأحنف في الإيمان باب: ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) رقم (31) . مسلم في الفتن، باب: (إذا تواجه المسلمان بسيفيهما ) رقم (2888).
وأن يكون المقتول مسؤولاً عن عملية القتل فهذا لا ينبغي أن يدفعني إلى تبرير مواقف العنف التي ربما تصدر عني، بحجة أن الآخر قد أثارني، أو أنه استفزني، فقمت بما قمت به من عنف وهو المسؤول عن ذلك...
ينبغي أن أربي نفسي على تحمل الأذى من الآخر والصبر عليه، وعدم الانجرار إلى حلبة العنف مهما كان استفزازه لي، ومهما كانت استثارته وتحديه. لا ينبغي أن أسقط في الامتحان، ينبغي أن أكون كرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوذي وعذب، وطرد وشرد، وقُتل أصحابه أمام ناظريه، وتحمل كل ذلك:
( .... وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَىَ وَكَانُوَاْ أَحَقّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً ) (الفتح 48: 26).
إن ما تطرقه الباحثة في هذا الكتاب إنما هو تربية اجتماعية، تريد من خلالها إلغاء العنف بين الإنسان وأخيه، وهي تقول لكل فرد: لا تكن قاتلاً، ولا تكن مساهماً في عملية القتل... لا تستفز الآخر ولا تتعالى عليه... ساعده سامحه اعطف عليه...ارفعه إن استطعت وتنافس معه في فعل الخير، لتصلا معاً إلى عليين !! .. ولكن هذا الحب والتسامح لا يعني بحال من الأحوال الخضوع الاستسلام له، والإذعان لخطئه..
لقد آن الأوان لنلقي جانباً ثقافة اللوم وتبادل إلقاء اللوم، لقد مضى ذلك الوقت الذي كانت المسؤولية فيه تلقى على فرد واحد دون حساب لجميع الأسباب والمسببات، والدوافع والضغوط.
كان الناس في السابق ينظرون إلى المذنب أو المخطئ أو المسيء أو القاتل على أنه إنسان سيء بالفطرة، إنه من طينة سيئة... لقد جُبل على السوء ولا سبيل لإصلاحه... يبتعدون عنه أو يبعدوه، أو يحكمون عليه بالموت.. إنه كالعضو الفاسد، أو كالمريض بمرض معد لا شفاء له الحل الوحيد هو التخلص منه أو نفيه من الأرض...
هكذا كانت ثقافة الناس، وهي إلى اليوم على هذا النحو، إلا قليلاً ممن يخطّون طريقاً جديداً في العالم..
واليوم حيث تحدث جريمة عنف لدى الشعوب التي تحترم إنسانها، فإنه إلى جانب سيارات الإسعاف والإطفاء وفرق الإنقاذ التي تحضر في لمح البصر إلى مكان الحادث؛ إلى جانب هؤلاء جميعاً تستنفر كل مراكز البحوث والدراسات النفسية والاجتماعية والتربوية وغيرها، لدراسة هذه الحالة، ويتساءل كل هؤلاء: لماذا سلك هذا الشاب أو الفتاة، أو هذه المجموعة من الناس هذا السلوك؟ ما الدوافع التي دفعتهم إلى هذا الجنوح؟ .
ويأخذون بالدراسة والاستقصاء، ويضعون الاقتراحات والحلول... وكثيراً ما يجدون أن أسباباً موضوعية هي التي دفعت هؤلاء إلى هذا الاتجاه، ويضعون حلولاً تتضمن إعادة النظر في المؤسسات الاجتماعية، بدءاً من الأسرة وعلاقاتها، مروراً بالحي والمجتمع المحلي، وانتهاءً بمؤسسات الإعلام والاقتصاد والرعاية الاجتماعية.
لقد آن لنا أن ننظر مع الأستاذ جودت سعيد إلى الإنسان المخطئ وحتى الكافر الجاحد على أنه مريض بمرض القلب النفسي الذي أشار إليه القرآن الكريم. آن لنا أن نفرق بيم المريض والمرض، فنحب المريض ونكره المرض، حتى ولو كان هذا المريض يحمل إلينا الأذى..
وآن لنا أن نصرخ مع الأخت سحر أبو حرب:
ـ أيها الناس أوقفوا القتل في العالم ..
ـ أيها العقلاء في الأرض ابنوا عالم السلام ..
ـ أيها العلماء ابحثوا عن علاج لهؤلاء المذنبين الذين ساهمنا جميعاً في إيصالهم إلى مهالك الذنوب والآثام ..
محمد نفيسة ـ مدير مركز العلم والسلام للدراسات والنشر
إضافة تعليق جديد