تفكيك النقد النسوي
يشبه ما تفعله تيارات النقد النسوي الراهنة بالأدب والأفكار وصور النساء في الثقافة التأثيرات التي أحدثتها أشكال النقد الجديد والمناهج الشكلية والتيارات النقدية التي خلصت الأدب من بلاغته السرية وطبيعته الكتيمة. وإذا كانت تيارات النقد، التي انشغلت بالنص وبنيته، رغبت في الكشف عن قوانين النص الأدبي الداخلية، فإن تيارات النقد النسوي، على اختلاف منطلقاتها من تحليلية نفسية وما بعد ماركسية وما بعد بنيوية... الخ، تعمل على إزالة الغموض والسحر عن جسد المرأة وصورها النمطية في الثقافة والمجتمع وأشكال تمثيلها في الأدب والفن سواء في ما تكتبه المرأة أو يكتبه الرجل. إن الغاية هي تحرير المرأة من الغامض والسحري والخفي وغير المنظور والموارب، وبمعنى أكثر وضوحاً، فإن الهدف هو تحريرها من سلطة المجتمعات الأبوية التي دأبت منذ فجر التاريخ «على تعريف المرأة بإسنادها إلى الرجل» كما تقول سيمون دو بو فوار في كتابها «الجنس الثاني»، حيث يتصرف الرجل بصفته الذات الفاعلة، والمطلق، فيما لا تمثل المرأة سوى الآخر.
من هذه النقطة المركزية التي تبنتها تيارات النقد النسوي، وانطلقت منها لتكوين ميراث خاص بالمرأة في قراءة ذاتها وتجربتها، والعمل على تفكيك الأفكار والصور الرمزية والاستيهامات التي صارت بمثابة حقائق مطلقة في الثقافة والمجتمع، وإن كانت في الحقيقة نتاج قسمة العمل بين المرأة والرجل في التاريخ بل ونتاج سياسة التمييز التي مورست ضدها في المجتمعات الذكورية. وقد أدى صعود الحركات النسوية في العالم، خلال القرن العشرين، إلى توعية النساء، والرجال أيضاً، بضرورة إعادة النظر لا بالقوانين التي تلحق الضرر بالمرأة فقط بل إعادة النظر باللغة نفسها، المنحازة في النحو وسياقات التعبير ضد المرأة، وكذلك بالنتاج الثقافي الذي يشوه صور النساء.
ليست تيارات النقد النسوي سوى امتداد لما أنجزه عدد من النساء خلال النصف الثاني من القرن العشرين في الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي والدراسات الاجتماعية لتعديل صورة المرأة والكشف عن أشكال التمييز ضدها. لكن ثراء المنجز النقدي، في عمل ناقدات مثل باربارا جونسون وإيلين شووالتر ولوسي ايريغاري وإيلين سيكسو وكيت ميليت وادريان ريتش، وغيرهن من الناقدات النسويات، يتصل بالكشوفات النظرية التي أنجزها النقد المعاصر في العالم. كما أن النقد النسوي، كغيره من تيارات النقد المعاصر، يقع أسيراً لصورته الذاتية فيضل عن حقائق كثيرة في سياق بحثه عن تعريف موضوع دراسته. ومن هنا تبدو الاختلافات والفروقات الساطعة بين تيارات النقد النسوي دليلاً على عدم وجود نظرية نقدية نسوية محددة دعت إلى تبنيها ممثلات النقد النسوي. ونحن لا نجد من ثم توافقاً على عدد محدد من الأفكار الأساسية التي تشكل البؤرة الخاصة بالنظرية النقدية النسوية. كما أن المسألة الأساسية التي تتكرر في كتابات الناقدات النسويات هي الرغبة في تحرير النساء من استيهامات الرجال حولهن. وعند هذه العتبة تفترق تيارات النقد النسوي وتتباعد بحسب المرجعيات الفلسفية والفكرية والنقدية التي يتأثر بها كل تيار.
ما يهمنا في هذا الإطار هو مناقشة إمكان الحديث عن نقد نسوي بالأساس، نقد متحرر من تراكمات الفكر النقدي عبر التاريخ، وهو نقد تشكل، كما نعلم، في حضن المجتمعات الأبوية. ويلزم النقد النسوي الكثير من العمل للتخلص من الميراث الجمالي الذي تكوّن في غياب مشاركة النساء ومساهمتهن الفاعلة في مراكمة هذا الميراث. وقد سعت فيرجينيا وولف في بيانها النقدي النسوي الشهير، أقصد كتابها «حيز خاص بي» (1929) الذي ركزت فيه على موضوع النساء والكتابة، إلى التشديد على الاستقلالية الاقتصادية والإنسانية للمرأة، وتوافر إمكان أن تغلق بابها على نفسها لكي يكون في مقدورها الكتابة. وهي توسع أطروحتها حول كتابة المرأة لتميزها عن كتابة الرجل قائلة إن الجملة اللغوية التي يستخدمها الرجل في كتابته هي «جملة الرجل»، ويمكن المرء أن يرى في خلفيتها الميراث الكتابي الخاص بالرجال على مدار العصور. ومن ثمّ فإن المرأة تجد أن هذا الميراث غريب عنها، لا يناسب التعبير عن تجربتها. وترى وولف أن الحرية ضرورية للفن بل هي بمثابة الجوهر بالنسبة إليه. لكن غياب هذين الشرطين عن كتابة المرأة نابعان من عدم وجود ميراث كتابي نسوي، ما يؤدي إلى افتقاد الأدوات والوسائل الضرورية لكي تكتب المرأة نصها. لكن وولف تستثني الرواية من الأنواع الأدبية التي تبدو لها حكراً على الرجل مثلاً، فالرواية مجال بكر لكي تصنع المرأة ميراثها السردي فيه. وهي تورد أمثلة على ذلك من جين أوستن وجورج ميريديث وشارلوت برونتي محللة نصوصهن بالقياس إلى النصوص الروائية التي كتبها رجال.
وضعت فرجينيا وولف إذاً الأسس الخاصة بنقد نسوي يعيد النظر في وضع النساء الكاتبات في المجتمع، وكذلك أسست لما يسمى بدراسات الجندر Gender، كما أظهرت في كتابها المذكور الشروط الاجتماعية - الاقتصادية لتمكن المرأة من الكتابة، وأشارت في إلماعات سريعة إلى اللغة بصفتها حقلاً مطبوعاً بطابع الرجل وطرائق تفكيره.
من هنا أصبحت المحاضرتان، اللتان يضمهما كتاب «حيز خاص بي»، بؤرة ملهمة للكثير من الناقدات النسويات، وهدفاً في بعض الأحيان لهجوم بعضهن على فرجينيا وولف (هاجمتها إلين شووالتر في كتابها «أدب خاص بهن»).
ليس النقد النسوي إذاً سوى نتاج للأحوال الاجتماعية، ومن ثم الشخصية والسياسية والعائلية، للمرأة. تحاول النساء، من خلال النقد، الوصول إلى تعديل صورهن في الثقافة والمجتمع. وهذا يعني أن النقد النسوي هو مشروع أيديولوجي بالأساس وليس مشروعاً جمالياً، فهو يسعى إلى إعادة تفكيك النصوص والأفكار والتعرف على القوانين التي تعمل النصوص استناداً إليها. وتدرك بعض الناقدات النسويات هذه المشكلة الداخلية اللصيقة بمشروع النقد النسوي فيقترضن من التحليل النفسي (جوليا كريستيفا)، ومن النقد المادي (كاثرين بيلسي، وجولييت ميتشيل ) ومن نقد جاك دريدا لمركزية العلامة اللغوية (باربارا جونسون)، والكثير من الأدوات التحليلية ذات المصادر المختلفة لتفكيك رموز التمييز الثقافي واللغوي ضد النساء.
ويمكن أن نستنتج من هذه المشكلات، التي تعترض مشروع النقد النسوي، أن هذا التيار النقدي غير قادر على فك ارتباطه بالميراث الذكوري لبناء جزيرة نقدية نسوية معزولة لا تتلوث بالفكر النقدي، والاستعارات النقدية كذلك، الذي أنجزه الرجل. إن من الصعب تكوين ميراث بديل خاص بالمرأة، حتى لو ركزت الناقدات النسويات على كتابة المرأة وتجاربها الخاصة، لأن المرأة لا تتلقى تعليمها في جزيرة معزولة، ولا تأكل طعامها على مائدة خاصة. والرغبة في تكوين ميراث خاص بالنساء هي جزء من المعركة الأيديولوجية التي تشنها النساء لنيل حقوقهن الطبيعية والتخلص من ثقافة الانحياز والتمييز التي تنسرب عميقاً في لا وعي الأفراد ووعي الجماعات البشرية كذلك.
لكن النقد النسوي، الذي أرجو أن يصبح مكوناً أساسياً من بنية الثقافة النقدية العربية الراهنة، استطاع أن يميط اللثام عن الصور النمطية للنساء في كتابات الرجال، والهويات المستلبة لهن، وعن آليات الاضطهاد والتمييز ضد المرأة في أكثر النصوص الأدبية قدرة على إخفاء صور كراهية المرأة والخوف منها. إنه يحاول الانطلاق من ذاكرة نقدية بكر، أو أنه يوهم نفسه بذلك، ليرى بعيون مفتوحة كيف تتخفى الرموز وتنسرب تمثيلات المرأة السلبية في الاستعارات وسياقات الكلام. وهو بهذا المعنى ينضم إلى المدارس النقدية التفكيكية وتيارات ما بعد الماركسية في الكشف عن المسكوت عنه، عما هو متوار بلباقة شديدة في النصوص لكي يكون قابلاً للاستهلاك الثقافي ولا يستثير غضب النساء القارئات.
من المنظور السابق يبدو النقد النسوي مشروعاً تحريرياً، لا للنساء فقط، بل للرجال أيضاً. وهو ما يجعل نقاداً كثراً في العالم، نساء ورجالاً، يستلهمون هذا النقد لإعادة تفكيك النصوص والأفكار وعيونهم مفتوحة على ما تخفيه من تمييز وصور سالبة للمرأة.
إن ما تستبطنه المطالبة بضرورة وجود نقد نسوي هو السؤال عن إمكان وجود أدب نسوي له خصائص تميزه عن الأدب الذي يكتبه الرجال. وإذا كانت مهمة الكشف عن الصور النمطية للنساء في كتابات الرجال، وفضح التمييز ضد المرأة في هذا الأدب، هي من بين تلك المهمات الأساسية التي يأخذها النقد النسوي على عاتقه، فإن التشديد على ضرورة التركيز على أدب النساء وتجاربهن، وإنجاز ميراث نسوي في الكتابة، هو من بين المسائل التي تطرح أسئلة حول إمكان وجود أدب نسوي خالص الخصائص مميز عما يكتبه الرجل، وهو أمر دفع ماري إيلمان في كتابها «التفكير بأحوال النساء» إلى التساؤل عن ضرورة وجود «أدب للنساء وأدب للرجال، كما يوجد مراحيض عامة للنساء ومراحيض عامة للرجال»، ومن ثم السؤال فيما إذا كانت كتابة المرأة تتمتع بأسلوب خاص يميزها عن كتابة الرجل، وهل يتسم صوت الرجل في الكتابة بالسلطة والمرجعية والطابع النبوئي، في الوقت الذي يتميز صوت المرأة في الكتابة بالفطنة والدهاء وحس المفارقة اللاذعة؟ ويقودنا هذا إلى التساؤل في النهاية حول وجود عقل خاص بالمرأة يتميز عن العقل الخاص بالرجل.
إن الكلام عن عقل خاص بالمرأة يعيدنا إلى النظريات العرقية التي أنتجتها المركزية الغربية، تلك النظريات التي تتحدث عن عقل غربي وعقل شرقي، عقل ذكوري وعقل أنثوي. وهو ما يتعرض الآن لهجوم كبير من جانب نقاد التمييز ضد المرأة والطبقة والعرق في محاولة لتصحيح الكثير من المفاهيم المغلوطة التي هي من صنع الثقافات السائدة وليست طبيعة ثابتة مركوزة في البشر. وكما تقول سيمون دو بوفوار في كتابها «الجنس الثاني»، فإن المرأة لم تولد امرأة بل أصبحت نتيجة التربية والعيش كذلك، كما أن علاقتها بجسدها وعلاقاتها بالعالم من حولها تتغير وتتبدل وتعمل أفعال الآخرين على تعديل هذه العلاقات. ليست الأنوثة طبيعة ثابتة بالمعنى الثقافي، كما هي بالمعنى البيولوجي مثلاً، ومن ثم فإن الأدب الذي تكتبه المرأة لا يحوز خصائص فارقة تميزه عن الأدب الذي يكتبه الرجل. انهما يستعملان اللغة نفسها ويعبر كل منهما عن تجربته وتجارب العالم الذي يحيط به ويؤثر في وعيه، وكون اللغة (بصفتها وسطاً ينسرب الوعي من خلاله ويتكون ضمنه) معمورة بالفكر الذكوري، ومهيمناً عليها من جانب الرجل، لا يمكن المرأة من كتابة أدب له طبيعته الخالصة المختلفة المنقطعة عما يشكل أساس ثقافة الرجل والمرأة في المجتمع.
إن مشروع النساء والرجال يتمثل في إعادة تشكيل اللغة بما يضمن عدم تحيزها الى جنس ضد جنس، أو عرق ضد عرق، أو فئة اجتماعية ضد فئة. ولسوف تنعكس التغييرات، التي يمكن نشرها بين الناس عبر أجهزة التعليم والإعلام والثقافة، على وعي الرجال والنساء في المجتمع والثقافة. وتنتشر الآن في العالم أفكار التصحيح اللغوي والصوابية السياسية التي ستؤثر مستقبلاً في الصور التي يمثل بها البشر أنفسهم والآخرين في اتجاه التخلص من الصور النمطية السالبة المغلوطة الشائعة في المجتمعات والثقافات المختلفة. لكن ذلك لن ينتج أدباً للمرأة مغايراً للأدب الذي يكتبه الرجل. إننا نعيش في مجتمعات لها بنياتها الاجتماعية والسياسية والثقافية المتغايرة، وطرق انتساب الرجال والنساء إلى هذه المجتمعات، وأشكال تفاعلهم معها، هي التي تحدد كيف يتفاعل الكتاب، رجالاً ونساء، مع تجارب هذه المجتمعات.
انطلاقاً مما سبق، فإن من الصعب على المرء أن يتقبل تطرف بعض النسويات ومطالبتهن بإنشاء جزيرة للنساء في عالم الثقافة والنقد والتخلص من الميراث (الذكوري) في اللغة والثقافة والفكر. صحيح أن المرأة قادرة على التعبير عن تجاربها أكثر من الرجل، لكن كاتباً عربياً هو بالتأكيد أقدر من أي كاتب غير عربي على التعبير عن تجربته العربية الخالصة، كما أن كاتباً يابانياً يعرف عن مجتمعه أكثر مما يعرفه كاتب يعيش بعيداً من اليابان.
إن الثقافة تعمل على تشكيل وعي النساء أكثر من البيولوجيا، ومطالبة إيلين سيكسو النساء بأن يكتبن «بحليب الأم» تهدف إلى إحداث اصطفاف نسوي في مقابل مجتمع الرجال، لا أكثر ولا أقل. إن تعبير «الكتابة بحليب الأم» ليس أكثر من صورة جمالية، وتعبير خيالي محلق يضمر أيديولوجيا نسوية في ثناياه. لكن الأيديولوجيا، مهما كانت قوة إكراهها وقسرها، لا تستطيع إنتاج أدب مغاير مختلف يمتلك خصائص لا تؤثر فيها الثقافة السائدة. وحتى لو كان هذا الأدب اعتراضاً جذرياً على هذه الثقافة، فإنه سيظل رد فعل يبطن، من دون وعي من منتجه، عناصر من تلك الثقافة السائدة. ولعل الداعيات النسويات إلى إنتاج ثقافة تقطع حبلها السري بالثقافات السائدة، الذكورية الميراث والخصائص، يغفلن عن الطبيعة الإكراهية للثقافات التي ينشأ الفرد في حضنها ويشرب حليبها ويتغذى على عناصرها وعلى مخيالها كذلك. فهل في الإمكان، في ضوء هذه الأوضاع، إنجاز أدب نسوي خالص، وإدارة الظهر للميراث الرجولي المتراكم على مدار التاريخ؟ إن الإجابة عن مثل هذا السؤال هي من قبيل الرجم بالغيب. وأظن أن البرنامج العملي الممكن تبنيه للوصول إلى توازن في التجربة الإنسانية والتعبير عنها يتمثل في تعاون النساء والرجال في التخلص من الصور النمطية السالبة للنساء في الأدب والثقافة، وإشاعة ثقافة متحررة من المحرمات والتمثيلات والصور النمطية التي نصادفها في الفكر والأدب والإعلام والمجتمع كل لحظة. أما مشروع جزيرة النساء في الفكر والثقافة فأظنه محكوماً بالفشل في النهاية مهما تعالى الجدل والمماحكات الأيديولوجية حوله.
فخري صالح
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد