تاريخ الجهاديين المكتوم في لبنان

12-09-2007

تاريخ الجهاديين المكتوم في لبنان

انتهت معركة نهر البارد وعاجلاً أم آجلاً سينجلي غبار المعارك عن مشالشيخ بلال سعيد شعبان (الأول إلى اليسار) في مكتبه بابي سمراهد آخر. سيتأسّس فهم آخر للإسلام الجهادي في لبنان، وستشغل عبارة «ما تداعى عن معركة نهر البارد وفتح الإسلام» حيّزاً في الإعلام والسياسة والقضاء، إلّا أن ما سيتداعى عنها عملياً سيكون تحت الظل وسيمتد أعواماً طويلة، وسيبدأ في القريب العاجل ولن ينتهي تحت قوس المحكمة

حين كان بشير الجميل يصافح الإسرائيليين ويفاوضهم في بيروت ونهاريا وتل ابيب، ويستقبل أرييل شارون ويودّعه عبر مهبط المروحيات الشهير في الزوق، كان الإسلاميون في لبنان يتحضّرون لبداية موسم جديد: هذه المرة سيكون العنوان هو الجهاد، فالخطوط القومية والماركسية استهلكت مداها وبدأت مراحل تراجعها، وها قد خرج من بين الإخوان المسلمين في مصر من نفّذ عملية اغتيال أنور السادات في السادس من تشرين الأول 1981، وقبل ذلك بأعوام قليلة انتصرت ثورة الشباب الإسلامية في إيران عام 1979، التي كان أحد طموحاتها تصدير الإسلام الثوري. كان الحد بين السنّة والشيعة قابلاً للنقاش آنذاك، وكانت علامات الإسلام السياسي قد بدأت بالظهور بعد أعوام طويلة من الإسلام التربوي، ومن الخبط العشوائي الذي سارته المنظمات الإسلامية التقليدية مثل حركة الإخوان المسلمين. ومع الإسلام السياسي كان يتراكم إرث عهود طويلة من الاضطهاد ومن الاستنتاجات أن الزبد هو الدعوة السلمية وأن ما يبقى في الأرض هو الكفاح المسلح، أو أن أوان نداء «حيّ على الجهاد» قد حان.
لم يهبطوا من السماء ولا وفدوا من بلاد بعيدة، ولا تم استيرادهم أو خرجوا من مخيمات اللاجئين، وليسوا هم أنفسهم الذين أحرقوا المدينة والبلاد في حرب أهلية تحت شعار ثورة ضد النظام الطائفي، ولا هم من أقام حواجز ذبحت حاملي إخراجات قيد بديانات نصرانية أو مذاهب إسلامية مختلفة. ومن باتوا اليوم يعرفون كمجاهدين أو إرهابيين كانوا الى الأمس القريب أطفالاً أو مشاركين في نهايات مراحل الحرب الأهلية، إلا أنهم كانوا هم المهمّشين، وكانوا من يدفع ثمن التسويات الكبيرة والصغيرة في هذه البلاد الملعونة بالمذهبية.

- بدأت تلاوين الفكر الجهادي بالظهور مع بداية انهيار الإمبراطورية العثمانية بُعيد الحرب العالمية الأولى، إلا أنها انتظرت أعواماً طويلة قبل التبلور، وخاصة أن تجربة إسلامية حاولت قيادة المقاومة في فلسطين، وفشلت بعد تجربة كبيرة ما بين الأعوام 1936 و1939، وتعرضت لضربات بريطانية وعربية كبيرة، ووصمت نفسها بالتحالف مع النازية. ولكن بقي من ذاك الزمن الجرح المفتوح، الذي هو بلا شك أقوى وأشد دواعي الجهاد، الجرح الفلسطيني الذي سيستمر في دفع الإسلاميين الى الذهاب نحو قبلة الكفاح المسلح، والى النظر نحو القدس كمصدر إلهام ونقطة مركزية في صراع يخوضونه اليوم دفاعاً عن وجودهم وعن دورهم في المقاومة معاً.
بعد نصف قرن تقريباً من سقوط القدس، وحين انتصر مشروع إسرائيل لضرب منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وانتصر مشروع المسيحيين الراديكاليين بالانقلاب على السلطة والإمساك بزمامها سواء عبر الانتخابات أو العنف، وفُرض بشير الجميل رئيساً للبنان وزعيماً ومنقذاً، بدأت ملامح الإسلام السياسي بالتقدم. كل مصافحة بين وارث بيار الجميل مؤسس حزب الكتائب اللبنانية ومناحيم بيغن عام 1982 وما قبله كانت تضخّ الحياة في جسد الحركة الإسلامية الجهادية في لبنان، وكانت تزيد من مشاعر المهانة التي عمّت الأوساط الإسلامية، وكبتت مجزرة صبرا وشاتيلا مشاعر الثأر من مشروع لا يرى غضاضة في ذبح المسلمين المدنيين، ومن قوى تركت خلفها الناس يُذبحون كالنعاج في مجزرة لمّا تزل تردد صدى فجور القتلة، ولا يزال اللاوعي الإسلامي يستحضرها لإظهار مشروع عدوه الأميركي الإسرائيلي والمحلي.
كل خسارة كان يُمنى بها اليسار اللبناني كانت تفتح المزيد من الآفاق أمام الجهاديين، وكل مرة فشل فيها اليسار والقوميون العرب في طرح المزيد من الحلول السياسية الإبداعية للأزمات التي يتخبط فيها لبنان خاصة والمنطقة العربية عامة، كان الإسلاميون يردّدون «الإسلام هو الحل».
تنوّعت الاجتهادات بين الجهاد كفرض عين، أي واجب وملزم لكل مسلم يرى في نفسه القدرة على الجهاد، والجهاد كجهاد دفع، الذي يعني الدفاع عن النفس والمال والعرض، والقول إن المجاهدين في لبنان الذي حملوا السلاح من الماضي البعيد الى اليوم الحالي لم يكونوا يمارسون جهاداً بالمعنى الدقيق، فنظرة حزب التحرير الإسلامي، على سبيل المثال، تتلخّص في أن البعض كان يمارس جهاد الدفع، وأن بعض التنظيمات المسلحة كانت تمارس الدفاع المشروع عن النفس دون أن ترقى الى مستوى الجهاد، وخاصة أن حزب التحرير يربط بين الجهاد وإقامة دولة الخلافة الإسلامية في بلاد المسلمين، وبين أولي الأمر الذين يفترض بهم أن يصلوا الى السلطة ويدفعوا الناس الى الجهاد.
ومثّلت حركة التوحيد الإسلامي في الشمال مركزاً لاعتبار القتال ضد الاحتلال، وكذلك الاستعداد للقتال والدفاع عن مناطق النفوذ، جهاداً يقوم به المؤمنون، ولو اقتصر على مواجهة سياسية غير عنفية، تقوم بها الحركة ضد حالة سلطة أمين الجميل عام 1983 خاصة، قبل أن يتحول الأمر الى كارثة ومواجهة بين ياسر عرفات والحركة من ناحية، وبين الجيش السوري و«الأحزاب الوطنية» وفصائل المقاومة الفلسطينية. لكن حركة التوحيد فرضت تحولاً في التفكير الإسلامي والممارسة السياسية الإسلامية، وسيطبع هذا التحول جميع المراحل اللاحقة.
ذاك الزمن بدأ حزب الله بالنجاح في أعمال المقاومة، وفُرض التنافس غير المعلن ومن طرف واحد على كل مسلم يعتقد في نفسه قدرة على الجهاد ضد اسرائيل. وأضيفت الى مشكلات المجاهدين الإسلاميين مشكلة اللحاق والالتحاق بمقاومة الاحتلال، وهو ما تصدت له جزئياً قوات الفجر التابعة للجماعة الإسلامية التي أطلقها جمال حبّال عقب سقوط صيدا صيف 1982.

- تميز الجهاديون اللبنانيون خلال العقود الماضية بأمرين، أولهما عدم توافر العديد من العوامل الدافعة بشكل مباشر للجوء إلى العنف، ما عدا الاضطهاد الذي تعرضت له هذه القوى، وإن كان لا يقارن بما حصل في العديد من الدول العربية المجاورة والأفريقية، كمصر والجزائر، إلا أنه، حتى اللحظة، لا يزال العنف المباشر الذي يتعرض له الإسلاميون أول الدوافع الى ردات فعل عنفية تتخذ من هذه المنطقة او تلك ملجأً أو ملاذاً وأرضاً للجهاد، أو تسمح بتدخل قوى إسلامية كبيرة وخارجية، لمساندة إخوتها في الدين ونصرتهم.
والعامل الثاني هو انعكاس صورة لبنان في هؤلاء الجهاديين، فكما تلجأ كل الأطراف السياسية والطائفية اللبنانية الى اكتساب شرعيتها من الخارج وتستند اليه في حكم نفسها والتحكم في البلاد، فإن القوى الإسلامية أيضاً تلجأ الى النماذج والتجارب والأسانيد الخارجية، كما ترحب بمجيء دعاتها من خارج حدودها، علماً أن الإسلام نفسه لا يعترف بكيانات خارج شرعه، ولا تعني الكثير من المسلمين حدود إلا في إطار مساقط رأس سميت بهذا الاسم أو ذاك، إلا أن الحاكمية أمر آخر، والأرض يرثها المؤمنون، ولهم في بلاد الإسلام والمسلمين خير حجة على كل الكيانات التي تطلق هنا أو هناك. وإن كان العديد من حلفاء حزب الله من القوى الإسلامية قد ذاقوا حلاوة «التبرك بهم» لمجرد كونهم من شعب المقاومة، إلا أن أغلب القوى الإسلامية اليوم باتت ترفض أي لقاء مع حزب الله أو أي قوة شيعية أو سورية، حتى تثبت لنفسها وللخارج أنها أصيلة، ربما كأصالة المقاومة في العراق التي تاهت بين مقاتلة الاحتلال «الصليبي واليهودي» (بحسب شعار الجبهة الإسلامية العالمية) وقتال الشيعة الرافضة.
إلا أن ما يمكن تأكيده من اختلاف بين الجهاديين اللبنانيين وبلدهم نفسه هو أنهم أكبر من أن يُحصروا في السياسة المحلية، فلا أحد من الجهاديين يرى في نفسه أقل من شخص من مليار ونصف مسلم تقريباً يتوزعون حول العالم ويمتلكون من الأرض ما يمتد من أقصى جنوب أفريقيا الى أقصى آسيا والى الصين. الإسلاميون في لبنان كما في كل أنحاء العالم لا يمكن صرفهم في السياسة اليومية اللبنانية بين الطوائف، وإذا كانوا يتقاطعون مع هذا الطرف او تلك القوة فإنهم عصيّون على التطويع. إنهم في النهاية من مملكة أخرى، مملكة جنات الخلد، ولا تمثّل لهم الأرض إلا معبراً الى تلك الحياة.
كان الأساس في العمل على هذا الملف الإجابة عن سؤال بسيط وبديهي بعد كل ما حصل في لبنان، وبعد تراشق سيل الاتهامات السياسية عن المسؤولية حول ما جرى في مخيم نهر البارد، إضافة الى الخشية الدائمة من الملف الجهادي الذي يكنّى في العديد من الدول بكنية «الإرهاب السلفي»، والسؤال هو: من أين أتى هؤلاء؟ والى أين يذهبون؟

الجهاد في نقاش لا نهاية له:

يرى أحد علماء الدين الذين كثيراً ما عانوا الملاحقة والسجن، أن الجهاد تعريفاً هو كل عمل عسكري يقوم به إسلاميون لخدمة مفاهيمهم، وهو بالتالي يشمل كل الأطراف الذين يعرّفون عن نفسها بأنهم قوى إسلامية، بينما يرى آخر أن هناك جهاديين في لبنان والعالم وليس حتماً أن يكونوا كلهم او حتى جلهم من ممارسي الجهاد أو المنتمين إلى قوى جهادية أو فكر جهادي.
ويقول الشيخ ماهر حمود أحد الواضحين في فكرهم الجهادي إن الجهاد موجود في كل سور القرآن، وبالتالي فإن كل مؤمن إنما يمتلك قدراً من الفكر الجهادي، سواء أكان صوفياً أم وهّابياً، ولا يختلف إلاّ القَدْر والتطبيق.
وعلى مدى العقود القليلة الماضية كان النقاش بين القوى الإسلامية يتركّز على مدى الجهاد ومدته، وعلى استخدام العمل العسكري في التغيير، وهل العنف هو الطريق نحو الحاكمية، ونحو دولة خلافة بلاد المسلمين وتحريرهم، أم أن الخلافة هي نقطة المنطلق، أم الأولوية هي تغيير الأنظمة قبل تحرير البلاد، وهل تسبق تربية الأمة عملية تثويرها ودفعها الى الجهاد ضد محتليها.
وبعد أزمة الجزائر التي أطيحت خلالها نتائج الانتخابات النيابية الجزائرية والذين فازوا بها من الإسلاميين، كان النهج الإسلامي المعتدل والهادئ والسياسي قد تعرض لأقصى ضربة، وخاصة أنها ترافقت مع أصداء انتصار المجاهدين في أفغانستان الذين تمكّنوا خلال أعوام قليلة نسبياً من تحقيق ما لم ينجح في تحقيقه التربويون من الإسلاميين خلال عقود طويلة. ويستقبل أحد المنتمين الى المجموعات التكفيرية في سجن مصري أحد نواب الأمة الذي دخل السجن زميلاً له بالقول: «وماذا نفعتك أعوام طويلة من الكلام؟».

فداء عيتاني

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...