بعد 42 سنة: طي ملف المهدي بن بركة يحتاج إلى جثة
تختلف ذكرى اختفاء المعارض اليساري المغربي المهدي بن بركة في باريس هذه المرة عن غيرها، كون القضاء الفرنسي في شخص قاضي التحقيق باتريك رمائيل أصبح يطالب باعتقال خمسة مغاربة يُشتبه في تورطهم في الحادث بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
لكن في مقابل ذلك، يطالب حزب «الاتحاد الاشتراكي» المغربي الذي يعتبر المهدي بن بركة أحد زعمائه التاريخيين، السلطات الفرنسية برفع السرية عن وثائق لها صلة بعملية اختفائه ترقد في خزائن وزارتي الدفاع والداخلية وأجهزة الاستخبارات الفرنسية، وهو أمر سيساهم بلا شك في كشف حقيقة ما حصل للمعارض اليساري البارز الذي لم يُعثر له على أثر منذ اختفائه أمام مقهى «ليب» في باريس يوم 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1965.
وسواء كان موقف القاضي رمائيل جاء كرد فعل على ما كان يصفه بعدم تعاون السلطات المغربية معه حين قدم إلى الرباط بغير صفته الحقيقية، خصوصاً حين استمع الى إفادات وزير الداخلية المغربي الراحل إدريس البصري في باريس، فإن هذا التطور القضائي يُعيد إلى الأذهان سابقة محاكمة الجنرالين المغربيين محمد أوفقير وأحمد الدليمي في باريس عام 1967. فقد دانت محكمة فرنسية أوفقير، وزير الداخلية وقت حصول الحادث، بالسجن مدى الحياة، كونه لم يحضر جلسات المحكمة، فيما برأت الدليمي الذي كان مديراً للأمن في فترة اختطاف بن بركة.
ومنذ ذلك الوقت لم تعد المطالبة باقتناص «رؤوس المتورطين» المحتملين مطروحة قضائياً إلا في نطاق كشف الحقيقة التي غيّب الموت أبرز عناصرها: المعارض الذي لم يتم العثور على جثته مع أنها العنصر الأساسي في تكييف الجريمة السياسية، والجنرالان أوفقير الذي تردد أنه انتحر في قصر الصخيرات حين جاء لمقابلة الملك الراحل الحسن الثاني بعد فشل المحاولة الثانية لإطاحة نظامه في العام 1972، وأحمد الدليمي الذي توفي في حادث سير على الطريق بين مراكش والدار البيضاء، وكان بدوره خارجاً من القصر. في حين أن متورطين محتملين من خارج الجيش، وبينهم ضباط في الأمن والاستخبارات، غيّبهم الموت أيضاً وآخرهم العميد محمد العشعاشي المسؤول السابق عن جهاز «الكاب واحد» (الاستخبارات) الذي لم يعد له وجود منذ العام 1973 وتحوّلت بعض مقاره الى عمارات سكنية عادية لا يزورها إلا أشباح الروايات.
لكن التعاطي مع هذا الملف الغامض لبن بركة بعد 42 سنة على غيابه، يختلف أيضاً بين العاصمتين باريس والرباط، أقله أن قاضي التحقيق الفرنسي رمائيل رمى الكرة بعيداً عن باريس في اتجاه الرباط على رغم أن أي تحقيق موضوعي في ملابسات حادث الاختطاف لا بد من أن يعرّج على تورط رجال أمن واستخبارات وعصابات فرنسية في تنفيذ العملية التي تمت وسط عاصمة النور والحرية ولا يمكن لأي جهاز أن ينفذ تلك العملية بالدقة التي تمت فيها من دون ضلوع أطراف فرنسية فيها، خصوصاً في ظل استحضار العلاقات التي كانت تربط وزير الداخلية المغربي الجنرال محمد أوفقير وقتذاك بجهات فرنسية متنفذة، كان أبسط ما فعلته أنها تركت الجنرال المغربي يغادر باريس التي كان قضى فيها وقتاً قصيراً تزامن وعملية الاختطاف. في حين أن دوافع أمنية وسياسية كانت وراء بقاء التحقيقات الفرنسية ترتدي طابع السرية لفترة تزيد على أربعة عقود، ما يعني، في أقل احتمال، أن وراءها أسراراً أكبر، ساعد تميّز العلاقات التقليدية بين المغرب وفرنسا في الإبقاء على مجالات الظل فيها.
وفي الجانب المغربي كذلك لم تعد قضية المعارض بن بركة ورقة تستخدمها المعارضة، وتحديداً «الاتحاد الاشتراكي»، بالحدة التي كان عليها الوضع ابان فترات المواجهة مع النظام. وثمة من يذهب الى أن اتفاقاً مبدئياً جرى بين الطرفين وفق المعادلة التالية: «انسوا قضية بن بركة ننسى قضية تورط قيادات حزبية في محاولة إطاحة نظام الحسن الثاني في صيف 1972»، ما يُدرج تداعياتها في نطاق الوفاق الجديد الذي حمل أحزاب المعارضة الرئيسية، وتحديداً «الاتحاد الاشتراكي»، إلى قيادة حكومة التناوب في شخص رئيس الوزراء السابق عبدالرحمن اليوسفي عام 1998، كون الرجل كان من أبرز محامي الحزب واضطر بسبب خلافات سياسية مع النظام أن يعيش في المنفى أكثر من ربع قرن.
بيد أن الجانب الأكثر إثارة في الملف أن تجربة المغرب في كشف مخلفات الماضي ذات الصلة بانتهاكات حقوق الإنسان، مكّنت من كشف مقابر جماعية وتحديد قوائم مختفين ومُعتقلين في سجون سرية شملت الفترة منذ استقلال البلاد إلى رحيل الملك الحسن الثاني عام 1999، إلا أنها لم تستطع كشف مناطق الظل في قضية بن بركة. ونُقل مرة عن العميد الراحل محمد العشعاشي حين سأله مسؤول رفيع المستوى عن قضية بن بركة قوله: «لئن كان الحسن الثاني احتفظ بأسرار العملية فكيف تطلبون مني أن أكشف عنها؟»، علماً أن الحسن الثاني كان أعلن مرات عدة أنه فوجئ بخبر اختطاف رفيقه وأستاذه في مادة الرياضيات المهدي بن بركة، في حين تحدثت روايات عدة عن ان سفر الجنرال محمد أوفقير الى باريس بالتزامن مع اختطاف بن بركة كان بهدف البحث عن «مخرج» لما حدث، في إشارة الى كون مختطفيه لم تكن لديهم نية اغتياله بل خطفه، وأنه قد يكون تعرض إلى ضربة قوية من أحد الخاطفين تسببت في مقتله، خصوصاً أنه كان يعاني من رضوض في رقبته على إثر حادث سير بين الرباط والدار البيضاء.
وعلى رغم اختلاف الروايات حول ما حدث تحديداً، إلا أن الثابت، في غضون ذلك، ان المرحلة التي كان يعيشها المغرب اقتضت وقتذاك النزوع الى وفاق بين المعارض اليساري والقصر، الى درجة أنه كان بصدد ترتيب عودته إلى المغرب لتحمل مسؤولية منصب كبير.
ويذهب معاصرو الفترة إلى ان الجنرال أوفقير كان يرغب في إحباط هذا التوجه، إذ سبق له أن أعلن أمام مجلس حكومي رأسه الحسن الثاني: «أخبرنا على الأقل أن نستعد لحزم حقائبنا والرحيل عن البلاد»، وكانت المفارقة اللافتة ان رحيل هذين الرجلين الخصمين ارتبط بمحاولات لإطاحة النظام.
وفي منحىً إيجابي، كان لافتاً أن مذكرة القاضي الفرنسي الأسبوع الماضي حول اعتقال المشتبه في تورطهم في خطف بن بركة، لم تخلق أزمة بين باريس والرباط. فقد فُهم تحرك القاضي الفرنسي بأنه موجه ضد الرئيس نيكولا ساركوزي بهدف إحراجه. إلا أن الحرج الكبير يكمن في أن إرادة طي هذا الملف تحتاج، أقله قضائياً، إلى معرفة مكان دفن جثمان الراحل، وقد لا يعني صدور المذكرة الفرنسية سوى البحث عن أقرب الطرق المؤدية الى معرفة ذلك المكان اللغز... والبقية متروكة للتاريخ.
محمد الأشهب
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد