الواقع المعيشي يجبر السوريين على إلغاء سلع أساسية من موائدهم
في ظل الواقع المعيشي المتردي وعدم القدرة على تأمين لقمة العيش، اضطرت كثير من العائلات السورية الى تغيير عاداتها الغذائية، فما كانت سابقاً أساسية وضرورية كالبيض والحليب وغيرها، أصبحت اليوم بمثابة (بعزقة) في وقت بات تأمين رغيف الخبز من الصعوبة بمكان فكيف ببقية المواد الأساسية!؟
لا أحد منا ينكر أنّ البلد تمر في ظروف استثنائية صعبة، وحصار اقتصادي خانق وعقوبات كثيرة، كلها أثرت بشكل أو بآخر على الوضع الاقتصادي للسوريين، لكن في الوقت نفسه هناك تقصير وفشل في إدارة الملف المعيشي من قبل الحكومة، وعجزها شبه التام عن تحسين هذا الواقع ولو بحدوده الدنيا. يقول خبراء تغذية، إن نقص تناول الغذاء النوعي لكافة الشرائح العمرية له تأثير كبير على الصحة العامة خاصة عند الأطفال واليافعين، ومن هم في سن النمو، وهذا يؤدي إلى نشأت جيل معلول صحيا وفكريا.
إلغاءها من موائدهم:
استطلعنا آراء شرائح متعددة من المواطنين الذين أكدوا أنه نتيجة ظروفهم المعيشية القاسية إضطروا إلى الغاء الكثير من المواد والسلع الأساسية؛ مثل البيض واللحوم والفواكه وغيرها من موائدهم، لافتين أنه أصبح من المستحيل التنوع في الغذاء وإنما عبارة عن (حشو بطن) بهدف الشعور بالشبع، بينما أشار البعض الآخر أنهم يشعرون بالخجل أمام أطفالهم لعدم قدرتهم على تأمين بعض الأصناف من الطعام الذي يحبونه، خاصة الأطفال بأعمار صغيرة حيث من غير الممكن أن يستوعبوا فكرة أنّ الوضع المادي لا يسمح بذلك، بالنهاية هم أطفال ومن حقهم ان يأكلوا ويشربوا كما يحبون، في حين كانت نبرة كلام البعض يعتريها الحزن والفقر الشديدين، فقد كشفوا أنهم يمضون أياماً على وجبات الزعتر والزيتون، و منذ أشهر طويلة لم يتذوقوا طعم اللحم أو الفواكه.
للاقتصاديين وأصحاب الخبرة وجهة نظر خاصة في هذا الموضوع، ويرون أنه كانت هناك فرص كثيرة للخروج من هذا الواقع وتحسين القدرة الشرائية للمواطن فيما لو تم العمل على ذلك بخطوات صحيحة ومتوازنة.
تفاقم الوضع الاقتصادي:دكتورة الاقتصاد والوزيرة السابقة لمياء عاصي، أكدت لجريدة "فينكس" أنّ الوضع الاقتصادي يتفاقم ويزداد صعوبة يوما بعد يوم، فقد تدنت القدرة الشرائية لدخول المواطنين مئات المرات خلال الأعوام السابقة، وتضاءلت قدرتهم على تلبية احتياجاتهم الضرورية جدا، لذلك اضطر المواطن وفي محاولة للتأقلم مع مستجدات الوضع الاقتصادي الصعب أن يغير كثيرا في نمط حياته وغذائه، فقد استغنى مجبرا عن الكثير من المواد الأساسية مثل اللحوم الحمراء والدواجن، والألبان والأجبان والفواكه، وكثير من الخضار، وأسقط من قائمة احتياجاته حتى بعض أساسيات حياته، مثل مراجعة الأطباء في حال المرض وشراء الأدوية وغيرها.
كذلك الأغذية التي كانت تصنف بأنها طعام الفقراء مثل الفول والحمص والفلافل، أصبحت أسعارهاً مرتفعة بالنسبة لكثير من الناس، مشيرة أنّ موائد الكثير من السوريين اقتصرت على المواد الغذائية التي توزع عليهم من الدولة بأسعار مقبولة، وهكذا يعيشون حالة صراع بين متطلباتهم الغذائية و دخلهم القليل الذي يجب أن يكفيهم لآخر الشهر.
أبعاد سياسية واقتصادية:
لا يحتاج تشخيص الوضع الاقتصادي السوري لمحللين اقتصاديين، فالكل بات يعرف أنه واقع معقد جداً ومركب وله بُعدان أحدهما سياسي وآخر اقتصادي، طبعا العقوبات الاقتصادية والحصار وسرقة النفط السوري وحرق المحاصيل وحالة العداء مع سورية، أسباب جوهرية ساهمت كثيرا في التردي الحاصل في الواقع الاقتصادي والأحوال المعيشية للناس حسب ما قالته الوزيرة عاصي، لكن هناك أسباباً أخرى معظمها داخلية لهذا الواقع و تتمثل في السياسات الاقتصادية والنقدية التي اعتراها الكثير من القصور والأخطاء الكبرى، والأمثلة على ذلك كثيرة منها: التردد والتأجيل في معالجة الكثير من الملفات التي لها علاقة بترشيد الاستيراد حيث بقيت فاتورة الاستيراد عالية جداً تتضمن مواد وسلع يمكن الاستغناء عنها ولا تناسب بلد يمر بظروف استثنائية وصعبة. أيضا لم يحصل تبني سياسات واضحة وفعالة لمعالجة نقص الإنتاج بشكل استباقي، مثلا: صدر حديثا عن مجلس الوزراء قرار السماح للمنشآت الإنتاجية والمشاريع بالإنتاج حتى إذا كانت لم تحصل على ترخيص بعد، هذا القرار جيد ولكنه كان يجب أن يصدر منذ عشر سنوات.
ضعف الخزينة العامة للدولة:
وأضافت د: عاصي أنه من ضمن موضوع قصور السياسات أيضا ضعف الاهتمام بتدني الإيرادات العامة وضعف الخزينة العامة للدولة، واعتماد الحلول السهلة بوقتها مثل اللجوء إلى الاحتياطيات المالية من أجل الإنفاق العام الضروري للدولة، واعتماد أسلوب (التمويل بالعجز) أي الاستدانة من الأموال المطبوعة لدى البنك المركزي دون وجود مقابل حقيقي لها سواء من النمو الاقتصادي أو الإنتاج السلعي والخدمي، هذا القصور التراكمي في معالجة ملف غاية في الأهمية مثل إعادة هيكلة إيرادات الدولة) أدى الى تضاؤل قدرة الدولة على التدخل الفاعل في الحياة الاقتصادية، بالرغم من أنه السبيل الوحيد لتصحيح الوضع الاقتصادي وخلق فرص العمل، وتحسين الدخول للناس لإحداث بداية التعافي الاقتصادي، تلك الأسباب مجتمعة أدت إلى اهتزاز الثقة بالعملة الوطنية وهبوط حاد في سعر الصرف.
تذبذب أسعار الصرف:
وبينت د: عاصي أنّ المشكلة الأساسية في تذبذب أسعار الصرف هو أن عمليات المضاربة المربحة للمضاربين، فهي تحل تدريجيا محل الأنشطة الصناعية والزراعية أو الخدمية المنتجة، لأن عدم استقرار سعر الصرف يجعل الأنشطة الإنتاجية غير مجدية مقارنة بما تحققه المضاربة من أرباح، كما أن تذبذب سعر الصرف يجعل الليرة السورية تفقد وظيفتها الهامة كمخزن آمن للقيمة ويزيد الطلب على العملات الأجنبية لحفظ قيمة الأموال، وهذا يلعب دوراً مضاعفاً ويفاقم الخسائر على المستوى الوطني بالنسبة للمواطن والدولة.
حلول:
أما بما يتعلق بالحلول التي يمكن اتباعها لتصحيح الوضع الاقتصادي للمواطنين، ذكرت د عاصي أن الحلول الاقتصادية السريعة عادة تأتي عن طريق مساعدات خارجية أو قروض ضخمة، وهذا يستلزم وجود أجواء سياسية ملائمة، لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد طرق لتحسين هذا الواقع الاقتصادي للناس، كاشفة أنه في الوضع الحالي لا يوجد حل واحد سحري بل يوجد مجموعة كبيرة جداً من الإجراءات التي إذا اتخذت قد يتغير الحال الاقتصادي بالبلد؛ أهمها تشجيع كل نشاط انتاجي زراعي أو صناعي أو خدمي مهما كان حجمه؛ مشاريع متوسطة أو صغيرة، مثل: التوسع بالورش والمشاريع الصغيرة ومساعدتها بالحصول على القروض، وزيادة عدد الأسر المنتجة بالقطاع الزراعي بالأرياف. لافتة أن النقطة الهامة في إيجاد الحلول يكون من خلال تحسين إيرادات الدولة ما يمنحها القدرة على التدخل لتحسين دخول الناس، ورفع القروض من أجل المشاريع الإنتاجية والمولدة لفرص العمل و زيادة الإنفاق العام، وقد يكون تفكيك منظومة التحكم بالأسعار بالبلد تستلزم حتما تشديد العقوبات على المتلاعبين بقوت الناس ومكافحة الاحتكار الذي أكل الأخضر واليابس.التفكير من خارج الصندوق:
ولدى السؤال عن أداء الفريق الحكومي، وتقييم الوضع الاقتصادي الحالي بشكل عام، أجابت الوزيرة السابقة: صحيح أن الأجواء السياسية معقدة وصعبة، ولكن يمكن وسط ذلك كله أن نجد منافذ للخروج من الأزمة أو تخفيفها على الأقل، سواء بزيادة حجم الصادرات التي تستفيد من سعر صرف منخفض لليرة السورية أو رفع كفاءة إدارة المؤسسات والشركات المملوكة للدولة، أو بناء تحالفات اقتصادية مع بلدان صديقة وليس عندها أجندات عدائية ضد سورية، مؤكدة أنه بشكل عام الظروف الاستثنائية والصعبة تفرض علينا التفكير من خارج الصندوق، أما التفكير النمطي والجامد لن يوصلنا الى نتيجة بل سيفاقم الوضع الحالي ويجعله أشد بؤسا.
هروب رؤوس الأموال:
ولفتت الوزيرة عاصي: أنّ استمرار تدني القدرة الشرائية للعملة الوطنية، سيكون سببا جوهريا لهروب رؤوس الأموال الوطنية بسبب ضعف القدرة الشرائية للمواطنين وعدم جدوى الاستثمار، وبالمثل فإن انخفاض معدل دخول الناس والناتج المحلي الإجمالي سيؤدي الى عدم استقطاب رؤوس الاستثمارات الأجنبية، حيث تثبت الإحصائيات بأن الاستثمارات عادة تتوجه إلى البلدان ذات الدخل العالي للفرد، والبلدان التي تتيح للمستثمرين فرصا مضمونة لاستعادة أموالهم أو خروجها، منوهةً أن انعكاس كل ما سبق ذكره سيكون كبيراً على انخفاض فرص العمل وارتفاع مؤشر البطالة بتداعياته وازدياد مؤشر الفقر، علماً أن كل الدراسات الإقتصادية تؤكد ان الفقر نفسه قد يصبح سببا أساسيا للفقر الأشد ومعيقا للتنمية الاقتصادية, لذلك الموضوع ليس مرتبط فقط بالحالة المعيشية الصعبة حاليا، بل تتعدى آثاره الى الحالة الاقتصادية للبلد كلها.
وختمت د. عاصي: بشكل عام يعتبر الفقر العامل الرئيسي في توليد العنف الذي يزعزع الاستقرار السياسي، إضافة الى أن ازدياد نسبة الفقر يترافق دوما مع ارتفاع مؤشر الجريمة متضمنة السرقة والسلب والنهب والنصب والقتل والدعارة وغيرها، وهذا له تأثيراته السلبية جدا على فرص التعافي الاقتصادي وقطاع الأعمال والمجتمع ككل.
نقص الغذاء النوعي وعدم تناوله يؤثر بشكل عام على الصحة العامة للإنسان:
خاصة الأطفال واليافعين ومن هم في سن النمو ويحتاجون إلى نوعية طعام جيدة تحتوي على فيتامينات ومعادن، و الأطفال أكثر تأثراً، أخصائية التغذية الدكتورة ندى التاجر، أوضحت أن أكثر شرائح المجتمع تأثراً نتيجة عدم حصولهم على الغذاء المناسب هم الأطفال واليافعين بعمر النمو، والحوامل، فهم يحتاجون للتغذية الجيدة ليحصلوا على نمو أفضل، ولكن الموجع انسانيا هم الرضع الذين يحتاجون لحليب الأطفال الذي أصبح باهظ الثمن وهذا مؤلم للأهل لعدم قدرتهم تأمينه، من هنا نشجع كأطباء على الرضاعة الطبيعة، لكن بعض الأمهات تضطر لإعطاء ابنها حليب البقر علما أنه لا ينصح به لكن للضرورة أحكام.
أمراض بالجملة:
وأشارت د. التاجر، إلى حدوث أمراض كثيرة لدى الأشخاص الذين يعانون سوء التغذية، مثلا نقص عنصر الحديد يؤدي للإصابة بفقر الدم، نقص فيتامين "أ" يسبب ضعف النظر وقد يسبب العمى ويؤثر على نضارة الجلد، بينما نقص اليود يؤدي إلى ولادة أطفال يعانون من الإعاقة الذهنية، وذلك لعدم تناول الحوامل كمية كافية من اليود، وهو موجود في الأسماك واللحوم والملح، بينما نقص الزنك يؤدي الى وقف النمو وضعف المناعة لدى الأطفال، إضافة إلى أن نقص فيتامين "د" يؤدي إلى مرض الكساح وهو تقوس عظام الرجلين والأيدي وضعف بالنمو وشعور بالوهن والخمول وتساقط بالشعر، وبيت أخصائية التغذية أنّ فقر الدم من أكثر الأمراض المنتشرة والذي يسببها سوء التغذية، إضافة إلى مرض هشاشة العظام وسببه نقص عنصر الكالسيوم الموجود في الأجبان والألبان والبيض وكذلك الحليب الذي عنصر مهم للنمو، لافتة أنه يمكن الاستعاضة عنه لو جزئيا بالإكثار من تناول الورقيات الخضراء الغنية بالمعادن، وممكن المساعدة بالكبسولات الطبية المحتوية على الكالسيوم– المنغزيوم– فيتامين د– زنك، مشيرة إلى ما نراه عند مرضى النحافة الشديدة وسببه قلة الموارد الغذائية وقلة تناول الطعام عند العائلات الفقيرة، بينما مرض السمنة الشديدة وسببه عدم التنوع بالغذاء والاعتماد على التغذية بالنشويات مثل المعكرونة –الخبز– البقوليات- كي يشعر الطفل بالشبع فيزداد وزنه.
مشددة على ضرورة ابتعاد العائلة عن هذا النوع من النظام الغذائي وتنويع غذائهم قدر المستطاع. وهناك الكثير من الأمراض الأخرى والتي كلها سببها عدم الحصول على الغذائي الكافي وهذا ما يشكل خطرا على صحة الأطفال على وجه الخصوص وقد نرى جيل غير صحيح جسديا وربما فكريا.
في الختام، وأخيرا: نقول بعد أنّ وصل الوضع المعيشي للمواطن إلى أسوأ حالاته ، بات من الضروري على الفريق الاقتصادي أن يتحرك بجدية مطلقة ويتخذ اجراءات استثنائية تناسب و الظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد بهدف تحسين الوضع الاقتصادي قبل الوصول إلى مرحلة الجوع و هنا تصبح كارثة انسانية.
ميليا اسبر: فينكس
إضافة تعليق جديد