اللغة العربية مهددة بالانقراض في مدارسنا

09-06-2006

اللغة العربية مهددة بالانقراض في مدارسنا

هل يمكن أن تنقرض اللغة العربية؟ سؤال قد يبدو مستفزا لكنه مطروح في ظل تقارير اليونسكو التي تؤكد أن هناك مئات اللغات المهددة بالانقراض. البعض قد يتعامل مع السؤال باستخفاف ويعتقد ببساطة أن لغة القرآن لا تنقرض وحمايتها مهمة إلهية، والبعض الآخر قد يأخذ الأمر بجدية ويرى أن الحفاظ على اللغة في الكتب مع جهل أبنائها بها يعتبر شكلا من أشكال الانقراض، لأنها تتحول مع الوقت إلى لغة تراثية ميتة. المشكلة أن هذه المخاوف أصبحت قريبة جدا منا بعد تدهور مستوى العربية في مدارسنا بحيث اصبح الطالب يصل إلى الجامعة وهو لا يعرف الفرق بين الاسم والفعل. ولم يعد كثيرون يخجلون وهم يعلنون أنهم لا يحبون العربية لأنها صعبة. فأين تكمن المشكلة؟ هل هي في المنهج أم في المدرس أم الطالب؟ خاصة أن التدهور لم تنج منه دولة عربية من المحيط إلى المحيط، والنموذج المصري ليس سوى عينة صادقة لحال أمة فقدت لسانها.


على مدى سنوات ظل الشاعر فاروق شوشة يتحدث عن لغتنا الجميلة عبر برنامجه الإذاعي الشهير، وتربت أجيال على ما يستخرجه من جماليات تثبت ثراء هذه اللغة، لكن الزمن تغير وظهرت أجيال أخرى تعترف ـ بدون أي محاولات لتزيين الحقيقة الصادمة ـ بأنها لا تحب اللغة العربية، فهل فقدت لغتنا سحرها، سؤال يرد عليه فاروق شوشة بالقول: «المشكلة الحقيقية تتمثل في أننا لا نعلم اللغة بالصورة الصحيحة. العيب يكمن في النظام التعليمي الذي ينطوي على سلبيات عديدة، من بينها: المنهج الدراسي، والكتب التي تحققه، المعلمون وأسلوب التدريس، تراجع المناخ المدرسي الذي كان يجعل اللغة العربية ركيزة أساسية في فسحة الهوايات، تلك الفسحة التي تمثلت في جمعيات المكتبة والصحافة والتمثيل والخطابة. فكان الفصل الدراسي يعلم القواعد بينما كانت الجمعيات تبعث الحياة في اللغة العربية عبر الممارسة الحية». الظروف كلها تغيرت حسبما يشير فاروق شوشة: «المدرسة أصبحت عدة مدارس كي تتمكن من استيعاب الأعداد المتزايدة من الطلاب، إضافة إلى أننا نعلم اللغة التراثية لا اللغة العصرية. ولا زال القائمون على المناهج مؤمنين بأن اللغة التراثية هي المدخل، رغم أن اللغة العصرية هي التي يجب أن تكون المدخل لأي عملية تعليمية. فالمنطق يقول أن أبدأ من المعلوم وأنتقل للمجهول. ما يحدث الآن قلب للسلم التعليمي، وبدلا من تعليم الطالب الشعر الحديث لتتشكل ملكاته وقدرته على الاستيعاب تدريجيا حتى يصل إلى الشعر الجاهلي، فإننا نبدأ معه بطريقة عكسية، وهو ما يفاقم الأزمة. وبدلا من أن نستعين بالوسائل الحديثة في تعلم اللغة نواجه بمدرسين تمتلىء لغتهم بالأخطاء». هل يوجد حل لهذه الأزمة؟ سؤال يرد عليه الشاعر بقوله: «الحل يبدأ بتغيير نظرتنا إلى العملية التعليمية. مشروع مثل القراءة للجميع يمكن أن يكون مدخلا مناسبا للخروج من هذا المأزق. فاللغة قراءة وليست مجموعة من القواعد. القواعد تأتي في المرحلة الأخيرة، لكن القراءة سيكون لها مردود مؤكد على تعلم اللغة، لو دعمت بإصلاح المنهج التعليمي».

تطوير المناهج يقتل المباهج
على مدى أكثر من أربعين عاما خاض تجربة تعليم اللغة العربية بمستويات مختلفة انتهت بأن يشغل منصب مستشار اللغة العربية في وزارة التعليم المصرية حتى العام الماضي. خلال هذه السنوات تمكن محمد القرشي من رصد تدهور أسلوب تدريس هذه المادة، لكنه أرجعها في السنوات الأخيرة تحديدا إلى عمليات تطوير التعليم التي تقوم على غير أساس، ويوضح: «التركيز حاليا يقوم على تجميل الشكل الخارجي دون الاهتمام بالجوهر، وهو ما يأتي بثمار عكسية»، ويؤكد أن أي عملية تطوير لا بد أن تبدأ على مراحل، تركز في البداية على السنوات الابتدائية الثلاث الأولى فإذا تركها الطالب وهو قادر على القراءة والكتابة نحويا وإملائيا في حدود مستواه العمري، يمكننا أن نتفاءل بمستقبل جيد، بعدها تحتاج السنوات الثلاث التالية إلى معالجة بشكل خاص بحيث يخرج منها التلميذ بمستوى جيد يضمن له عملية تعليمية متميزة، لأنه إذا فهم اللغة العربية سيفهم كل المواد بعد ذلك».
لكن حتى تعديل النظام التعليمى يظل أمرا مهددا بالفشل، لأن مستوى معلمي اللغة العربية أصبح متدهورا باعتراف الكثيرين، أعقب، فيقول: «لا بد أن أبدأ بتعديل المناهج بشكل يجبر التلميذ وقبله المعلم على البحث والعمل الجاد وليس مجرد التلقين». وحين نقول أن المشكلة تتمثل في المدرس ضعيف المستوى وليس المدرس المهمل، يجيب القرشي بأن الرغبة الصادقة في الإصلاح هى التي تحل المشكلة. ويعود القرشي بذاكرته سنوات، ويحكي: «عندما كنت موجها بالمدارس الإعدادية دخلت أحد الفصول وطلبت من المدرس أن يبدأ الدرس، قرأ خمسة أبيات لأكتشف كارثة، فقد أخطأ نحو خمسة وعشرين خطأ، لدرجة أن بعض التلاميذ المتميزين كانوا يصححون له أخطاءه، بعد نهاية الحصة واجهته بأنه أخطأ كثيرا فجادلني في ذلك، عندها طلبت منه أن يعيد قراءة أحد الأبيات أخطأ سبعة أخطاء في بيت شعر لا يتجاوز العشر كلمات، شعر بالحرج، وسألني عن الحل، فطلبت منه أن يقوم بتحضير الدرس ومراجعته مع المدرس الأول أو أحد زملائه الذين لا يستشعر حرجا منهم. بعد سنوات، كنت أمشي في الشارع ففوجئت بمن يستوقفني ويحتضنني. لم أكن أتذكر الشخص لكنه ذكرني بنفسه وبالواقعة، وأخبرني أن مستواه اختلف تماما بسبب نصيحتي. أقول هذا لأثبت أن إصلاح مستوى المدرس ممكن إذا كانت لدينا الرغبة الصادقة في ذلك، لكن مع إصلاح المدرس لا بد من إصلاح المناهج، وقد فكرت في إصدار كتيب يتضمن رؤيتي لحل هذه المشكلة». وحين أسأل عن أهم ما يمكن أن يتضمنه كتيب كهذا، يجيب: «لا بد من تغيير المناهج جذريا، وأن تكون الموضوعات التي تتضمنها نابعة من حياتنا العملية، لكي لا يشعر الطالب أنه يدرس مفردات غريبة عليه، لا بد أن تكون اللغة المستخدمة نابعة من بيئته». ولماذا لم تسع إلى تحقيق هذه الرؤية خلال سنوات عملك كمستشار للغة، أسأل محمد القرشي، فيؤكد أنه لم يكن يمتلك اختصاصات تنفيذية وبالتالي كان ملتزما بالمنهج الموجود ولا يمكنه الخروج عليه، ويشير إلى أن الأمر في حاجة إلى ثورة شاملة. عندما أحدّث القرشي عن محاولات البعض إرجاع مشكلات تعليم اللغة إلى صعوبة العربية نفسها، يرفض ذلك مؤكدا: «اللغة العربية ليست صعبة على الإطلاق. فعندما يستمع الأطفال إلى حلقات الكرتون بالفصحى يكررون ما سمعوه بسلاسة، ذلك لأن ذاكرة الطفل تستوعب. المشكلة أننا لا نعرف كيف ندرس بشكل صحيح يجعل النحو مثلا يرتبط بالحياة. العبرة في طريقة نقل اللغة إلى التلميذ».

الاختصاصيون آخر من يعلم
ينتقل الطالب إلى الجامعة محملا بأخطاء قد يكون مسؤولا عن بعضها وغير مسؤول عن البعض الآخر، لكن المشكلة تصبح أكثر وضوحا في هذه المرحلة، فالمستوى اللغوي ينذر بكارثة، وكثيرا ما شكا أساتذة الجامعة من ذلك.
د. محمود الناقة، أستاذ المناهج والتدريس بجامعة «عين شمس» اختزل المشكلة في عبارات حادة وصادمة: «نستقبل في الجامعة طلابا ليس لديهم الحد الأدنى من مستوى التعامل مع اللغة الأم. المشكلة ليست فقط في طالب الثانوية العامة، بل هي أشد وطأة عندما نتحدث عن طلاب قسم اللغة العربية الذين سيتولون مهمة تدريسها بعد ذلك، إن مستواهم يندى له الجبين، لأنهم لا يملكون لغة ولا اسلوبا ولا اتقانا لقواعد الإملاء. لقد انهارت اللغة على ألسنة المتحدثين بها خاصة هؤلاء الذين سوف يقومون بتعليمها. نحن في حالة انهيار حقيقية»، ويشير محمود الناقة إلى أن الضعف حلقات متداخلة، فعندما يتم تخريج معلم لا يحسن التعامل بالعربية ستكون النتيجة طالبا ضعيفا ينتقل إلى الجامعة لتنظل ندور في حلقات مفرغة «انه انهيار تؤكده الوثائق، لقد قمت ذات مرة بتصحيح أوراق طلبة السنة النهائية لمتخصصين في اللغة العربية فوجدت أنهم يخطئون في العشرين مبحثا الأساسية في قواعد اللغة مثل المبتدأ والخبر والفاعل والمفعول والنعت والمنعوت». ويتعجب محمود الناقة : »كيف يطاوع الضمير زملائي فيوافقون على تخريج هؤلاء، المشكلة تتمثل في أن كل اللغات لديها قواعد لتعلمها، أما العربية فتكاد تكون الوحيدة التي يتم تعليمها دون ترسيخ مداخل علمية لذلك».
وماذا عن المناهج التي يرى العديدون أنها جزء أساسى من المشكلة؟ يجيب: «أعترف بأن المناهج منفرة من حيث المحتوى والمستوى، وهي لا تقارب اللغة من زاوية حياتنا اليومية، كما ان تقنياتها واساليبها ليست جذابة. نحن نفتقر إلى كل هذا. ولذلك فقد أصبح الطالب يكره العربية للأسف، ويرى أنها غير ذات جدوى في حياته». وما هو الحل العملي لهذه المشكلة؟ يرى د. الناقة أن «الحلول النظرية تقدم تصورات علمية، لكن المهم هو تحويلها إلى حلول عملية. فالمشكلة في البشر الذين يقومون بالتنفيذ، وغيبة الإرادة والإصرار والرغبة في الدفاع عن الهوية. نحن الآن في عصر حروب اللغات، وهناك لغات عديدة تنقرض كل أسبوع. واللغة العربية غير بعيدة عن هذه الدائرة، ربما يرى البعض في كلامي جلدا للذات أو ترويجا لنظرية المؤامرة لكنني أتحدث عن مشكلة حقيقية نبهت إليها اليونسكو».
هل انت متفائل؟ سؤال يبدو استفزازيا وسط كل هذا الاحباط الذي يتحدث به د. الناقة، غير أن طرحه كان نابعا من رغبة في التعلق بأى بصيص أمل، غير انه يغلق هذا الباب بقوله: «أنا متشائم جدا رغم إنشاء جمعيات حماة اللغة العربية لكني أرى أن كلها شعارات. نحن نحتاج إلى قرارات رسمية كى نضع اللغة في فكرنا». هل يمكن فرض حب اللغة بقرارات رسمية؟ أسال مندهشا فيوضح: «ليست مسألة فرض قرارات بقدر ما هو وضع لقواعد وضوابط تكفل الالتزام، كأن يحصل مدرس اللغة العربية على رخصة لتدريسها بعد أن تختبره لجنة محايدة تتولى تحديد مدى كفاءته».

حماية اللغة بالتشريعات
الحديث عن القوانين جعلنى أتساءل عن وجود تشريعات تحمي اللغة العربية، فحمايتها في الشارع تؤدي إلى الحفاظ عليها في المدرسة، إنها حلقة متكاملة ومتداخلة. صابر عمار، الأمين العام المساعد لاتحاد المحامين العرب استحضر عدة قرارات وقوانين، بدأها بقرار خديوي صدر عام 1893 نص على ضرورة أن تحتوي (بروجرامات) المدارس الأميرية على أكثر ما يمكن من المواد لتعليم اللغة العربية حتى تتأتى معرفتها معرفة تامة أكيدة. ويتطرق عمار إلى لوائح وقرارات وزارية وقوانين تلزم باستخدام العربية لغة رسمية في المحررات الرسمية واللافتات والتراخيص وأن تجرى اختبارات في اللغة العربية لشاغلي بعض الوظائف. تفعيل هذه القوانين كان يمكن أن يؤدي ببساطة إلى مزيد من الاهتمام بتدريس العربية لأنها ستكون شرطا أساسيا لمسائل كثيرة بل أنه سيحمي من عقوبة قررها القانون، حيث يؤكد صابر عمار أن أحد هذه القوانين تضمن عقوبة بالحبس في قضية تخص اللغة العربية: «نص القانون رقم 62 لسنة 1942 على عقوبة الحبس لمدة شهر في قضايا عدم استخدام العربية في المراسلات»، هل يمكن فرض اللغة بقانون؟ سؤال أعيد طرحه عليه فيجيب: «بالتأكيد لا يمكن فرضها بقانون لأنها ثقافة. كانت اللغة تفرض بقانون في الماضي نظرا لوجود صراع مع المستعمر، أما الآن فقد اختلفت الأمور لقد أصبحنا نهتم بأن يدرس أبناؤنا لغات اجنبية على حساب العربية من باب الوجاهة الاجتماعية». أشير إلى أن الظروف لم تختلف فهناك أخطار معاصرة يرى البعض أنها أشد وطأة من الاستعمار التقليدي، اعقب، فيعلق: « لحقيقة أن العولمة مثلا أشد وطأة بالفعل، لأن الاحتلال ظاهر أما العولمة فخفية نواجه آثارها دون أن نراها، لهذا لابد أن ندرك مدى أهمية تخريج جيل يتقن لغته الأم لكن الأمر في حاجة إلى ثورة تعليمية شاملة».

 

القاهرة: إيهاب الحضري

المصدرـ الشرق الأوسط 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...